دخل الحراك الشعبي المناهض لأبي محمد الجولاني مرحلة جديدة تُنذر بمخاطر عدة بعد أن فرّقت ألوية عسكرية ووحدات أمنية وموالين تابعين لهيئة تحرير الشام باستخدام المدرعات والأسلحة النارية والبيضاء، الجمعة 17 مايو/أيار الجاري، مظاهرات سلمية خرجت تطالب بعزل الجولاني وتحييد وإبعاد العسكريين عن الإدارة المدنية.
وأظهرت مقاطع مرئية بثّها ناشطون عربات عسكرية مدرعة تابعة للألوية العسكرية في هيئة تحرير الشام وهي تحاول دهس المتظاهرين على الطريق الواصل بين مدينتي بنش وإدلب، بالتزامن مع قيام وحدات عسكرية راجلة بقطع الطريق ومنع المحتجين من الوصول إلى مركز المدينة لتنظيم مظاهرة مركزية.
نشطاء الحراك الشعبي أطلقوا دعوات للخروج بمظاهرات سلمية عقب صلاة الجمعة والتوجه إلى مدينة إدلب للتذكير بمطالبهم المتعلقة بتحسين الوضع الاقتصادي وتبييض السجون والكشف عن مصير معتقلي الرأي والحد من نفوذ تحرير الشام وزعيمها أبي محمد الجولاني على الإدارة المدنية والمؤسسات الخدمية في المنطقة.
واستجابة لتلك الدعوات، خرجت مظاهرات حاشدة في كل من مدن جسر الشغور وأريحا وبنش ووتفتناز والعديد من البلدات والقرى في أرياف المحافظة، دون أن تتمكن من الوصول إلى مدينة إدلب والتي فرضت عليها تحرير الشام طوقًا عسكريًا مشددًا منذ انتشار الدعوات قبل 72 ساعة.
منع التظاهر في إدلب
نشرت تحرير الشام بشكل مسبق قوة عسكرية مؤلفة من الألوية المقاتلة في جناحها العسكري، إلى جانب وحدات المهام الخاصة والشرطة المدنية وشرطة المرور وإدارة الأمن العام، على مداخل مدينة إدلب والطرق الرئيسية والتقاطعات الطرقية في المحافظة لمنع عبور المظاهرات ووصولها إلى مركز المدنية.
وأكد الناشط الإعلامي مصطفى الناصر لـ”نون بوست” الذي رافق المتظاهرين في أثناء توجههم من مدينة بنش إلى مدينة إدلب أنّ قوة عسكرية من “لواء علي” يصاحبها عناصر المهام الخاصة أغلقوا الطريق بواسطة العربات المدرعة وأطلقوا النار بشكل عشوائي فوق رؤوس المتظاهرين، مضيفًا “مع إصرار المتظاهرين على الوصول إلى مدينة إدلب بدأ عناصر تحرير الشام بضرب المتظاهرين بالعصي والهراوات والسيوف، الأمر الذي واجهه المتظاهرون بترديد شعارات تؤكد على سلميتهم وأنّ المظاهرات لا تهدف للمساس بالجناح العسكري أو العاملين فيه”.
وتابع الناصر “حمل عدد من المتظاهرين أغصان الزيتون وحاولوا الاقتراب مجددًا من القوة العسكرية، إلا أنهم تعرضوا للضرب المبرح وفي أثناء محاولتهم الهرب والعودة قامت عربة مدر باللحاق بهم لدهسم وقد تعرض بعضهم لكسور وجروح بين خفيفة ومتوسطة”.
وتمكنت القوة العسكرية من تفريق مظاهرة بنش باستخدام القنابل المسيلة للدموع، وأصيب على إثرها عشرات الأشخاص بالاختناق واضطرابات في الجهاز التنفسي، وفقًا للناصر.
وفي جسر الشغور غربي إدلب، تجمهر المئات من أبناء المدينة والمهجرين عقب صلاة الجمعة استجابة لدعوات التظاهر، وسرعان ما تعرضوا لهجوم مباشر من عسكريي وأمنيي هيئة تحرير الشام.
وقال عبر الرحمن الأحمد، أحد منظمي تظاهرة جسر الشغور لـ”نون بوست” إنّ المجموعات العسكرية التابعة لهيئة تحرير الشام لاحقت المتظاهرين منذ خروجهم من المساجد وقبيل وصولهم إلى ساحة المدينة.
وأضاف الأحمد “توجهت إلى إحدى المجموعات لأوضح لهم أنّ المتظاهرين من المدنيين ولا ينتمون لأي فصيل عسكري أو تيار سياسي أو ديني كما يروّج الإعلام المدعوم من تحرير الشام، وأنّ مطالبنا متعلقة بالجانب المدني فقط ولم ولن نتطرق للجناح العسكري الذي يدافع عن المنطقة”.
وتابع “قبل أن أنهي حديثي بدأت بعض العناصر بشتم المتظاهرين ومنظمي الحراك وانهالوا عليّ بالضرب باستخدام الهراوات ومؤخرات البنادق الآلية، ما أدى إلى كسر ذراعي الأيسر وجرحي في الرأس والكتف”.
وتعرضت مظاهرة مدينة أريحا لهجوم مماثل، أدى إلى تفريق المظاهرة بعد إصابة عدد من المدنيين بكسور وجروح، واحتجاز ثلاثة من منظمي المظاهرة حتى منتصف ليل السبت.
تصعيد ممنهج
مصدر خاص عامل في ما يسمى “إدارة الأمن العام” قال إن قيادة تحرير الشام أصدرت تعليمات تنص على تطويق المظاهرات ومنع تجوالها بين القرى والبلدات مع التأكيد على منع المظاهرات من الوصول إلى مدينة إدلب باستخدام القوة بشكل تدريجي، بداية من إغلاق الطرق بالوحدات العسكرية والمدرعات إلى إطلاق النار بشكل عشوائي لترهيب المتظاهرين وتفريقهم بالغازات المسيلة للدموع، وصولًا للاعتقال ومواجهتم بالعصي والسيوف.
ويضيف المصدر “التعليمات كانت واضحة فيما يخص التصعيد التدريجي لترهيب المتظاهرين وتفريقهم، وأكدت على ضرورة عدم إيقاع قتلى في صفوفهم تحسبًا لأي ردّة فعل شعبية تؤجج الحراك المنادي بعزل الجولاني وإصلاح الإدارة المدنية”.
خيارات الجولاني
يرى الباحث في مركز جسور للدراسات، وائل علوان، أنّ تحرير الشام تعرضت خلال الأشهر الماضية لعدة أزمات عصفت بصفوفها، ما دفع الأهالي في منطقة إدلب لاستغلال الخلل البنيوي في تركيبة الهيئة للتعبير عن استيائهم من إدارتها للمنطقة، خصيصًا فيما يتعلق بالقبضة الأمنية التي تمارسها وصولًا إلى احتكارها للحركة التجارية والاقتصاد وفرض الضرائب.
ونوّه علوان إلى أنّ قيادة تحرير الشام تعمل بشكل متوازٍ على حل الإشكالات داخل صفوفها وتخفيف الضغط الخارجي الذي تمارسه عدة أطراف ضدها، فعلى الصعيد الداخلي حاولت تقليص الفجوة بين مكوناتها من خلال إشراك الجناح العسكري مع جهازها الأمني في مواجهة الحراك الشعبي لتحقيق أكبر قدر من التماسك في صفوفها، وأشركت عدة فصائل عسكرية عاملة في منطقة إدلب في ذات العملية لتخفيف الضغط الخارجي.
ويفسّر الباحث لجوء الجولاني لاستخدام العنف على أنه نتيجة فشله في تحقيق المطالب الشعبية رغم عقده لقاءات مع فعاليات مدنية وشيوخ عشائر وممثلين عن عدة شرائح في المجتمع، مضيفًا أنّ عدم قدرة الجولاني على الإصلاح دفعت به لنشر قواته في المناطق المدنية وتقطيع أوصالها لمنع تنامي الحراك الشعبي واتساع رقعته.
ورجّح علوان أن تفقد تحرير الشام إدارتها المركزية للمنطقة مع استمرار المظاهرات وتزايد أعداد نقاط التظاهر اليومية والأسبوعية، ما سيضطرها إلى تدعيم بنية حكومة الإنقاذ (الذراع المدنية لها) على حساب ذراعها العسكري، لتواصل فرض سيطرتها في إدلب بشكل آخر.
مبادرة للتهدئة
عملت عدة شخصيات ثورية وسياسية من أبناء محافظة إدلب بصفتهم طرفًا محايدًا على تحجيم المواجهات بين المتظاهرين وتحرير الشام وطرح مبادرة للتهدئة ولمنع وقوع أي خسائر بشرية.
ونصّ البيان المرئي الذي صدر عن القائمين على المبادرة على قبول هيئة تحرير الشام بسحب جناحها العسكري من المناطق المدنية إلى المقرات والثكنات العسكرية وخطوط التماس مع قوات النظام السوري، مقابل تعليق المظاهرات لمدة أسبوع واحد يجري خلاله إعداد لجان من كل الأطراف وعقد اجتماعات دورية لمناقشة المطالب والعمل على تلبيتها ضمن جدول زمني يتم الاتفاق عليه في وقت لاحق.
وتضمن المبادرة أن تطلق تحرير الشام سراح كل الموقوفين ممن جرى اعتقالهم خلال المظاهرات السابقة ما لم يكن على أحدهم أي قضية جنائية أو مذكرة توقيف بقضايا أخرى.
وأشار الناشط الإعلامي فايز الدغيم إلى أن عددًا من القائمين على المبادرة من الموالين والمقربين لهيئة تحرير الشام، مضيفًا أنهم أصدروا بيانهم دون مناقشة شرط تعليق المظاهرات مع منظمي الحراك الشعبي.
ولفت الدغيم في منشور له على حسابه في فيسبوك إلى أن تلك الشخصيات قامت قبل أقل من أسبوع باستفزاز المعتصمين أمام المحكمة العسكرية في إدلب وأججت الخلافات بين المعتصمين وهيئة تحرير الشام، حتى قامت الأخيرة بمهاجمة الاعتصام وحلّه بالقوة.
الجولاني يتوعد بحماية مشروعه ضد “الثورة المضادة”
التقى أبو محمد الجولاني مساء الخميس 16 مايو/أيار بوجهاء المناطق المحررة في محافظة إدلب، مطالبًا إياهم بعدم الخوض في الحراك الشعبي الذي اعتبره “ثورة مضادة” تقوم عليها “مجموعة من المخربين” يهدفون إلى إضعاف الثورة السورية وتقديم المنطقة للنظام السوري.
وادعى الجولاني أنه لبى المطالب الشعبية في بداية الحراك قبل نحو ثلاثة أشهر، وأن أطرافًا خارجية – لم يسمِها – تسلّقت على الحراك لحرف مساره وإضعاف تحرير الشام التي وصفها الجولاني طوال حديثه بـ”السلطة”.
وعدد زعيم هيئة تحرير الشام إنجازات فصيله العسكري في قطاعات النقل والخدمات والكهرباء المياه والصحة والزراعة وغيرها، لافتًا إلى أنه قدمها للأهالي دون أن يخرجوا في مظاهرات ويطالبوا بها، متناسيًا أنها حقٌ أساسي لأي إنسان وليست مكرمة منه.
ووجه الجولاني اتهامات للقائمين على الحراك الشعبي بأنهم غير أخلاقيين ويهتفون بعبارات مسيئة ومخلة بالآداب العامة ما يستوجب منعهم من التظاهر في المدن والساحات العامة.
وختم الجولاني حديثه بتهديد مبطن، قال فيه إنّ لديه 50 أسلوبًا في التعامل مع الحراك أحدها أسلوب الحوار وقد استنفذه، ليبقى لديه 49 أسلوبًا لمنع هدم مشروعه في المنطقة التي لا تتحمل أي تجارب أخرى للإدارة والحكم، حسب قوله.
موقف الفصائل المتحالفة في إدلب
خرج قياديون من فصيلي أحرار الشام وصقور الشام المتحالفين مع هيئة تحرير الشام رفقة قائد الجناح العسكري في الهيئة الملقب “أبو حسن حلفايا” في بيان مرئي عقب مبادرة التهدئة وسحب تحرير الشام جزء من قواتها إلى الثكنات.
وكرر القياديون حديث الجولاني، مدعين أنّ الحراك الشعبي يهدف إلى هدم “مكتسبات الثورة” في إدلب، وأن واجبهم العسكري يحتّم عليهم حماية تلك المكتسبات.
وتتغنى قيادة تحرير الشام والمنصات الإعلامية المدعومة من قبلها بتلك “المكتسبات” دون أي توضيح لمقصدهم بهذا المصطلح، والاكتفاء بالقول بأن المؤسسات المدنية والدوائر الخدمية الموجودة في إدلب هي مكاسب للثورة السورية قد دُفِع ثمنها دماء أكثر من نصف مليون سوري، ونحو مليون معتقل ومفقود، وأكثر من عشرة ملايين لاجئ ونازح، وعشرات المدن والحواضر التي دمرها نظام الأسد وهجّر قاطنيها.