توجه مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان اليوم إلى السعودية في مستهل جولته التي تشمل المملكة ودولة الاحتلال، حيث يلتقي ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، قبل أن يغادر متجهًا إلى تل أبيب غدًا الأحد للقاء كبار مسؤوليها السياسيين والعسكريين وعلى رأسهم رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو حسبما أكد البيت الأبيض.
ويفترض أن يناقش سوليفان، الذي أفرجت بلاده قبل ساعات عن صفقة أسلحة جديدة للاحتلال، مع ابن سلمان ونتنياهو الحرب في غزة في ظل التصعيد الإسرائيلي الأخير، وبحث جهود التهدئة التي نسفها جيش الاحتلال بعملية رفح البرية رغم التحذيرات الإقليمية والدولية التي ضرب بها الكيان المحتل عرض الحائط.
وتذهب كل الترجيحات إلى احتلال ملف التطبيع السعودي الإسرائيلي موقع متقدم في جدول أعمال تلك الجولة التي يستكمل بها سوليفان المباحثات التي أجراها وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في نفس الشأن خلال زيارته للمملكة أواخر أبريل/نيسان الماضي.
وفرضت مسألة التقارب السعودي الأمريكي الإسرائيلي نفسها على طاولة النقاش خلال الأيام الماضية بشكل مكثف، في ظل رغبة إدارة جو بايدن حسم هذا الملف قبيل الانتخابات الرئاسية المقبلة على أمل أن يكون فرس الرهان الذي يضمن فوز الديمقراطيين بولاية جديدة أمام منافسة شرسة محتملة مع الجمهوريين بسبب إخفاقات الإدارة الحالية على أكثر من مسار.
وقد وصلت المباحثات بشأن تطبيع العلاقات بين الرياض وتل أبيب، في ظل ولاية ابن سلمان، إلى مستويات متقدمة، مهدت الطريق بشكل كبير نحو إبرام هذا الاتفاق التاريخي، غير أن حزمة من المستجدات عطلت بشكل أو بآخر هذا المسار، على رأسها استئناف السعودية علاقاتها الدبلوماسية مع إيران، وتولي حكومة إسرائيلية من اليمين المتطرف بعد حكومة بينيت- لابيد الوسطية، ثم جاءت عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي لتقلب الطاولة.
اتفاق وثلاث مراحل
بحسب ما نشرته وسائل إعلام أمريكية نقلًا عن مسؤولين في البيت الأبيض من بينهم المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية مات ميلر، فإن الصفقة السعودية الأمريكية المحتملة تتضمن 3 مراحل رئيسية:
أولًا: حزمة من الاتفاقيات بين السعودية وأمريكا وتشمل:
– السماح للسعودية بدخول النادي النووي من خلال محطة نووية للأغراض المدنية السلمية، ومنحها الضوء الأخضر لتحويل مسحوق اليورانيوم المكرر إلى غاز.
– إبرام معاهدة دفاعية بين المملكة والولايات المتحدة، تلتزم فيها الأخيرة بالدفاع عن الأولى ودعمها عسكريًا ولوجستيًا، على غرار تلك التي بين أمريكا وكوريا الجنوبية، دون تضمين بند الدفاع المشترك كما هو الحال في حزب الناتو.
– تخفيف الولايات المتحدة لقيود التصدير المفروضة على رقائق الكمبيوتر المستخدمة في تطوير أدوات الذكاء الاصطناعي، والسماح للمملكة باستيرادها بما يحقق طموحها في أن تكون مركزًا تكنولوجيًا إقليميًا.
ثانيًا: تطبيع العلاقات السعودية الإسرائيلية بشكل رسمي وكامل على المسارات كافة.
ثالثًا: وضع مسار لحل الدولتين، فلسطينية وإسرائيلية، وهو الشرط الذي وضعته الرياض قبل فترة للدخول في مفاوضات التطبيع مع الاحتلال.
تحول كبير في الرؤية السعودية
قبل سنوات من الآن كانت تُقابل أطروحة التطبيع السعودي الإسرائيلي بوابل من الانتقادات والهجوم الذي يستبعد هذا الأمر شكلًا ومضمونًا في ظل مرتكزات المملكة القومية إزاء القضية الفلسطينية في ضوء مبادرة السلام العربية التي أطلقها العاهل السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز عام 2002، والتشديد على حلحلة القضية وعودة حقوق الشعب الفلسطيني كاملة، قبل فتح الباب من الأساس لمناقشة هذا الأمر.
لكن خلال السنوات الخمسة الأخيرة، ومنذ تولي ابن سلمان ولاية العهد، شهدت المملكة تحولات جذرية في رؤيتها ومقارباتها للقضية العروبية الأم بشكل عام، مستندة إلى بعد برغماتي بحت، تلك التحولات التي غيبت المبادرة العربية كشرط أساسي قبل الانتقال لمرحلة الحديث عن التقارب بين البلدين، وفق ما ذهب إليه المدير التنفيذي لمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، روبرت ساتلوف، خلال ورقته البحثية المنشورة على موقع المعهد الإلكتروني.
واستعرض ساتلوف في ورقته عددًا من المؤشرات التي تكشف ميل الرياض لمسار التقارب مع تل أبيب، وتراجع التشبث بالمبادرة العربية كشرط أساسي يسبق طرح ملف التطبيع للحوار، أبرزها ما طرأ على الفقرة الرئيسية المتعلقة بالسلام التي تضمنها البيان الأمريكي السعودي المنبثق عن زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لجدة في يوليو/تموز 2022.
نسفت تلك الفقرة وهذا البيان الكثير من مرتكزات مبادرة السلام ولم تعد الخطة العملية واجبة التنفيذ، لتتحول إلى مجرد “دليل” يمكن الاسترشاد به دون أن يكون الأخذ به أمرًا واجبًا، كذلك الغموض الذي خيم على عملية تنفيذ المبادرة، حيث اقتصرت على “تشجيع” الأطراف على إظهار دعمها لحل الدولتين، و”الترحيب” بكل الجهود المبذولة في سبيل تحقيق السلام دون أخذ المبادرة العربية في الاعتبار.
أما بخصوص تخوف القادة السعوديين من تأثير التطبيع على سمعة المملكة إقليميًا بوصفها الثقل السني الأكبر في العالم الإسلامي، وما يثار بشأن تمسك العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز بفكرة حل القضية الفلسطينية كشرط للتطبيع، فيرى المدير التنفيذي لمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، أن هناك محاولات للقفز على تلك المخاوف من خلال تسليط الضوء على ما يمكن أن تحققه المملكة من خلال تلك الخطوة من مكاسب منها:
– تعزيز دور المملكة التاريخي كصانعة للسلام وهو ما يمكن أن يخفف من حدة الانتقادات (كما الحالة الإماراتية حين حاولت تبرير توقيع اتفاق أبراهام قبل ثلاث سنوات).
– مكاسب اقتصادية وتكنولوجية من وراء تلك الخطوة تضع السعودية على قائمة الكيانات الاقتصادية الكبرى في العالم.
– تقوية الدفاعات الأمنية السعودية من خلال الاتفاقيات المبرمة مع الأمريكان بما يؤهلها للتصدي لكل التحديات الإقليمية والدولية المحتملة.
وفيما يتعلق بالتخوف من رد الفعل الشعبي إزاء التطبيع مع “إسرائيل”، فهناك مؤشرات عدة تؤكد أنه لا داعي لهذا القلق، منها:
– قالت نسبة كبيرة ممن تجاوزت أعمارها الخمسين إنها لا تمانع في إقامة علاقات طبيعية مع الاحتلال في المجالات الاقتصادية والرياضة، حتى لو كان ذلك دون مظلة رسمية.
– خضع الشارع السعودي لاختبار تمهيدي لبحث مدى تقبله لهذا الأمر خلال استضافة المملكة لمجموعة متنوعة من الإسرائيليين، شملت مصرفيين ورياضيين وغيرهم، في 2022، حيث كانت النتيجة إيجابية، قبول نسبي لدى بعض السعوديين لفكرة التقارب بين الشعبين.
– إصدار السعودية تأشيرات تسمح للإسرائيليين غير الرسميين بدخول البلاد للمشاركة في الأحداث العامة كالمؤتمرات والبطولات الرياضية والفعاليات الاقتصادية، كذلك السماح بظهور مسؤولين أمنيين سعوديين سابقين جنبًا إلى جنب مسؤولين إسرائيليين، فضلًا عن عدم الاعتراض على استحواذ شركات سعودية على حصص لدى شركات إسرائيلية.
– مع حصول السعودية على جزيرتي تيران وصنافير عقب تنازل مصر عنهما في إطار اتفاق ترسيم الحدود البحرية الموقع بين البلدين باتت المملكة دولة ضامنة لالتزام معاهدة السلام بين مصر و”إسرائيل” بحرية الملاحة الإسرائيلية عبر مضيق تيران وخليج العقبة.
– وفي إطار هذا التفاقم وافقت السعودية ولأول مرة في تاريخها على السماح بتحليق الطائرات المدنية الإسرائيلية في مجالها الجوي وبدأت بالفعل مساع حثيثة لترجمة التطبيع عمليًا على أكثر من مسار وإن لم يشرعن بشكل رسمي بعد.
خطتان (أ) و (ب)
رغم ما أكد عليه المتحدث باسم الخارجية الأمريكية بشأن وحدة وشمولية الصفقة المطروحة مع السعودية، وأنها مرتبطة ببعضها البعض، ولن “يمضي أي منها دون الآخر”، في إشارة إلى مراحلها الثلاثة، لكن يبدو أن هناك محاولات أخرى لتقديم خطتين لتلك الصفقة، ربما تفصل بين مراحلها أو على الأقل تطرح تنفيذها على خطط زمنية متلاحقة وليست دفعة واحدة.
أولًا: الخطة (أ).. وهي صميم الاتفاق المعلن، بمراحله الثلاثة، فإبرام اتفاقيات التعاون الأمني والاستخباراتي والنووي والتكنولوجي بين السعودية وأمريكا مرهون بتطبيع العلاقات السعودية الإسرائيلية، ولا يمكن الفصل بينهما.
وبحسب المدير السابق لشؤون الخليج في مجلس الأمن القومي، كريستين فونتينروز، فإن الرئيس بايدن خلال زيارته الأخيرة للمملكة قدم ما يمكن تسميته “مبادرة حسن نوايا” من خلال الحديث عن الصفقات النووية والذكاء الاصطناعي مع السعودية، وفي انتظار أن يضع السعوديون ملف التطبيع على الطاولة، “لكن الإسرائيليين يولون أهمية لمنع قيام الدولة الفلسطينية، تفوق أهمية التطبيع مع السعوديين، وهذا هو سبب مناقشة الصفقة بشكل ثنائي” على حد قوله.
ثانيًا: الخطة (ب).. ومع سيطرة اليمين المتطرف على الحكومة الإسرائيلية، تعقدت الأمور بشكل كبير بشأن إبرام اتفاق التطبيع السعودي الإسرائيلي، في ظل رفض الكتلة المتطرفة لمسألة إقامة دولة فلسطينية مستقلة من جذورها، ثم جاءت عملية الطوفان، لتضع حجرًا صلبًا أمام هذا المسار.
ورغم تلك الأجواء الملبدة التي عكرت بشكل أو بآخر جهود التطبيع في ظل إصرار نتنياهو على إحراج حلفائه العرب وعلى رأسهم السعودية والمضي قدمًا في حرب الإبادة التي يشنها ضد القطاع ضاربًا بمناشدات المملكة عرض الحائط، فإن السلطة السعودية وتحديدًا ابن سلمان لديه رغبة قوية في المضي قدمًا في هذا المسار مهما كانت العراقيل، وعليه جاء الدفع بما عُرف بالخطة (ب).
وتتمحور تلك الخطة في مساعي الجانب السعودي إبرام صفقة مع الولايات المتحدة تستبعد الإسرائيليين في المرحلة الأولى، وهو ما كشفه مراسل صحيفة “الغارديان” في واشنطن، جوليان بورغر، الذي قال إن الرياض وواشنطن كانتا قد أعدتا بالفعل مسودات اتفاقيات تقود في النهاية إلى التطبيع غير أن معارضة نتنياهو لإقامة دولة فلسطينية دفع السعوديين باتجاه خطة بديلة.
وبحسب تلك الخطة سيوقع السعوديون والأمريكان سلسلة اتفاقيات تتضمن معاهدة دفاع ثنائية – بالشروط سالفة الذكر – ومساعدة الرياض في بناء مفاعل نووي للأغراض المدنية، بجانب التوسع في مجال التكنولوجيا الناشئة والذكاء الاصطناعي.
غير أن تلك الخطة بوضعيتها تلك وبمعزل عن خطوة تطبيع العلاقات بين السعودية و”إسرائيل”، أو ما يسمونها نموذج “الأقل مقابل الأقل” ربما لا تجد قبولًا لدى النخبة السياسية الأمريكية ولا يمكن تمريرها لا سيما لدى مجلس الشيوخ، إذ قد يراها البعض خدمات مجانية تقدمها الولايات المتحدة للدولة الخليجية دون مقابل، هذا بخلاف ما يمكن أن يترتب على ذلك من فقدان الشغف لدى السعوديين حول مزيد من التقارب مع “إسرائيل”.
غير أن وكالة “رويترز” وحسبما نقلت عن سبعة مصادر مطلعة فإن إدارة جو بايدن والسعودية تعملان على وضع اللمسات الأخيرة بشأن تلك الاتفاقيات رغم أن خطوة التطبيع لا تزال بعيدة المنال فيما قال خمسة منهم إن الجانبين، السعودي والأمريكي، يعطيان في الوقت الراهن الأولوية لمعاهدة أمنية ثنائية، من الممكن أن تكون بداية لخطة أوسع وأعم يتم عرضها على حكومة نتنياهو لدراستها وبحث ما إذا كانت ستقدم تنازلات لضمان التوصل لعلاقات تاريخية مع الرياض.
ويستند أنصار خطة “الأقل مقابل الأقل” إلى ما يمكن أن تحققه واشنطن من مكاسب من خلال تعزيز الشراكة مع السعودية، على رأسها توقف التمدد الصيني الروسي في المنطقة، ودفع الرياض لتلجيم نفوذهما في الشرق الأوسط والذي تنامى خلال السنوات الأخيرة، وذلك بعد انسحاب الولايات المتحدة تدريجيًا، بجانب إنعاش سوق السلاح الأمريكي مجددًا بالصفقات السعودية والخليجية بعد تراجعه مؤخرًا بسبب تنويع الخليجيين تسليحهم عبر طرق أبواب الروس والصينيين كرد فعل على السياسة الأمريكية الخشنة تجاه الحكومات الخليجية.
استخلاصًا لما سبق، بات من الواضح أن هناك رغبة سعودية كبيرة، في ضوء المكاسب التي يمكن تحقيقها من وراء تلك الخطوة، في بدء مرحلة جديدة من التقارب مع دولة الاحتلال، غير أن زلزال الطوفان حال دون إتمام ذلك بشكل رسمي، ما أجبر الجميع على تأجيل تلك الخطوة مرحليًا لحين انجلاء الموقف وتساقط الغبار الناجم عن الحرب الشعواء التي تشنها “إسرائيل” بحق الفلسطينيين والتي تجعل من الحديث عن تطبيع سعودي كامل في هذا التوقيت لعب بالنار ونافذة من لهيب قد تُفتح على المملكة.
ومع ذلك قد تتجه الرياض لتنفيذ الخطة البديلة (ب)، حتى لو لم تتوقف الحرب في غزة، وحتى لو لم يتحقق شرط حل الدولتين، مع منحها المزيد من الزخم والدعم الأمريكي لإجبار حكومة نتنياهو، أو تلك التي تليها، على تقديم تنازلات تقبل بها، وتسمح بانخراط الكيان المحتل في مفاصل المنطقة العربية بشكل يصعب معه استئصالها، في مقابل امتيازات أمنية وسياسية وعسكرية وتكنولوجية تحصل عليها السعودية.. لكن يبقى السؤال: هل يكون ذلك على حساب القضية الفلسطينية؟