يبقى النزوح والتشرد الألم الوحيد الذي يعاني منه السوريون على مدى سنوات الثورة، يتنقلون من مكان لآخر بحثًا عن المكان الأكثر أمانًا، يجولون في بقاع الأرض السورية من قرية لأخرى يحملون ما يستطيعون من ثياب وأثاث منزلهم ليطلقوا عنان الرحال في حين لا يوجد ملجأ لهم إلا تلك الحدود التي باتت جزءًا من معاناتهم المستمرة، كما يبدو الشارع السوري الذي يضج بالحرب والانتظار المستمر لحل ينهي الصراع في ظل تقاعس دولي يحاك بالأزمة السورية لإنهاء المصالح الدولية على حساب الشعب الذي نادى بالحرية.
“لا زال النزوح يرافق حياتنا، ولا منجى ولا مفر منه”، هكذا بدت كلمات الحاج مصطفى من قرية تل طوقان بريف حلب الجنوبي الذي حدثنا عن رحلة النزوح الثانية له، في ظل شتاء قارس يصطحب عائلته إلى قرى ريف حلب الغربي، وهو يحمل همًا لا تستطيع الجبال حمله، مع حملة القصف العنيف الذي تعرضت له قريته في ظل احتدام المعارك بين تلاقي أرياف حلب وإدلب الجنوبية وريف حماة الشمالي.
وأضاف “ليست المرة الأولى التي أنزح بها أنا وعائلتي، ونحن عشرة أشخاص بتنا نسكن في خيمة صغيرة، وبعد معاناة في البحث عنها”، ليست المرة الأولى لجميع السوريين فهم نالوا من الحرب كل حقد الأعداء، بات الحاج مصطفى في العراء ليلة كاملة وهو يبحث عن خيمة تأوي عائلته وأطفاله من البرد والمطر.
وأوضح في قوله “أكثر ما أرّقنا خلال رحلة النزوح البرد الشديد في هذا الشتاء، وفي الأخص أوقات الليل، وعائلتي مؤلفة من عشرة أشخاص، بينهم أطفال لا يحتملون البرد القارس، فنحن لا نملك خيمة نلتجئ إليها، ونشكي همنا لرب العالمين”.
بلغ عدد القرى التي طالتها موجة النزوح 200 قرية، فضلًا عن عدد السكان الذي تجاوز 150 ألف نسمة، جلهم من القرى الملتهبة بالمعارك، وكانت الوجهة الأبرز لهم إلى قرى وبلدات ريف حلب الغربي وريف إدلب
في حين لم يكن هذا حال الحاج مصطفى وحده، فآلاف العائلات اضطرت للنزوح المتكرر، دون أن تجد مكانًا يأويها، وبقيت تحت أشجار الزيتون أو في العراء، أو ضمن خيم مشتركة، وسط استمرار تدفق النازحين، ومئات العائلات من أرياف إدلب وحماة وحلب تنزح تجاه ريف إدلب الشمالي إضافة إلى أرياف وقرى أخرى غرب حلب وشمالها خلال الأسبوعين الماضيين، جراء الحملة العسكرية الشرسة التي تشنها قوات النظام المدعومة بالطائرات الروسية والميليشيات الإيرانية والأفغانية تجاه تلك المناطق، وتعيش العائلات النازحة معاناة كبيرة وسط غياب تام لعمل المنظمات الإغاثية في تأمين مأوى وطعام لهم.
قال الناشط الإعلامي مصعب العمر لـ”نون بوست”: “بلغ عدد النازحين من ريف حلب الجنوبي 40 ألف نسمة، جلهم من الأطفال والنساء، انتشروا في ريف حلب الغربي كمدينة الأتارب والشيخ علي وأورم الكبرى وكفرناها وباتبو وكفر ناصح وخان العسل وعويجل، وهم في حالة يرثى لها”.
وفي الآونة الأخيرة لم يجد النازحون منازل ولا حتى مخيمات تأويهم، فاضطروا إلى نصب خيام على حسابهم الشخصي على أطراف طريق “دمشق – حلب” الدولي، وسط مناشدات عديدة منهم للمنظمات الإنسانية لمساعدتهم.
وأضاف “أغلب النازحين من ريف حلب الجنوبي من قرى وبلدات جبل الحص وما حولها” وتراكمت موجات النزوح مع اشتداد وقع المعارك هناك بين فصائل المعارضة وقوات النظام بعد تصعيد جوي من الأخير على تلك المناطق.
وأما ريف إدلب الجنوبي وريف حماة الشمالي، فقد بلغ عدد القرى التي طالتها موجة النزوح 200 قرية، فضلًا عن عدد السكان الذي تجاوز 150 ألف نسمة، جلهم من القرى الملتهبة بالمعارك، وكانت الوجهة الأبرز لهم إلى قرى وبلدات ريف حلب الغربي وريف إدلب، ووصلت 50 عائلة الإثنين الفائت إلى منطقة أعزاز الواقعة بريف حلب الشمالي بعد مرورهم بمناطق سيطرة ميليشيا سوريا الديموقراطية في مدينة عفرين.
لا يخفى على أحد أن النازحين يواجهون عبئًا كبيرًا، كل خيمة تحوي أكثر من ثلاث عائلات يسكن بداخلها أطفال ونساء، ويعيشون أوضاعًا مأساوية جدًا
فبعضهم لم يجد منازل تأويهم، فقد نصبت 25 عائلة خيمهم على أطراف قرية كفر ناصح الواقعة غربي مدينة الأتارب بريف حلب الغربي في قطعة أرض غير صالحة لإنشاء مخيم لإيواء النازحين، وبعضهم توجه إلى مخيم ميزناز الواقع في ريف حلب الغربي قرب بلدة الشيخ علي، بالإضافة إلى 700 عائلة تم إيواؤهم في منازل مدن وبلدات ريف حلب الشمالي، كمدينة عندان وحريتان وحيان وكفر حمرة ومعارة الأرتيق.
وعندما وصل هؤلاء النازحون عملت المجالس المحلية والجمعيات الخيرية التابعة لهم على تقديم بعض المساعدات التي يمكن تأمينها (بطانيات وبعض الخيام وبعض المساعدات الغذائية) التي تعد حالة إسعافيه لهم.
قال أبو بلال 35 عامًا أحد نازحي ريف حماة الشمالي: “وصلنا منذ أيام إلى منطقة أطمة بريف إدلب واتجهنا نحو تجمع المخيمات الواقع على الحدود ولم نجد خيمة تأوينا، حتى نصبنا خيمتنا التي ابتعتها من السوق في أرض زراعية لا تصلح لإنشاء مخيم”، ويواجه النازحون مشكلات عديدة تعيقهم في تأمين أبسط مقومات الحياة.
ولا يخفى على أحد أن النازحين يواجهون عبئًا كبيرًا، فكل خيمة تحوي أكثر من ثلاث عائلات يسكن بداخلها أطفال ونساء، ويعيشون أوضاعًا مأساوية جدًا، فلا يوجد ماء ولا حمامات ولا طعام ولا حتى صرف صحي، ورغم وجود العديد من المنظمات هناك، فإنها حاضرة دون حضور دعمها للنازحين، في مواجهة أحوالهم المأساوية، فالعديد من المنظمات تلتقط الصور للنازحين دون تقديم أي دعم مادي لهم، وهم بحاجة لخيمة تأوي أطفالهم من عثرات الشتاء.
وكما تعودنا أن الخاسر الأبرز هو الشعب الذي يدفع ضريبة كل معركة دفعت مئات المليارات لإشعال فتيلها، وفي النهاية يذهب الشعب السوري ضحية كل المؤتمرات والأقاويل الدولية التي تدمر جيلًا سوريًا بعد موجات فقر وانعدام تعليم وجفاف حياة يعايشها الكثيرون.