في رائعة سيرجيو ليوني الملحمية “حدث ذات مرة في الغرب”، يقف ثلاثة مسلحين من رعاة البقر في محطة قديمة ينتظرون القطار القادم باحثين عن انتقامٍ ما. لا يتبادل الثلاثة أية كلمة، الصمتُ عنوان المشهد، تقترب الكاميرا شيئًا فشيئًا من وجوههم المليئة بالتجاعيد والتعب، وتنزل بضع قطرات من العرق على الجلد المجعّد من تحت القبّعات القديمة.
مشهد صحراويّ يبقى ملتحفًا بالصمت للحظات، لاحوار فيه ولا كلمات، كلّ ما نسمعه هو طنين الذباب ثمّ حركة القطار القادم من بعيد وأصوات أسلحة يتمّ تحفيزها. وبقدر ما اقترب القطار يبدأ الهدوء بالانحسار شيئًا فشيئًا، إلا أنّ الصمت يظلُّ سيّد الموقف حتى عبور القطار، وهنالك في تلك اللحظة يظهر صوت الهارمونيكا الحادّ، والذي يشي بأنّ شيئًا ما سيئًا على وشك الحدوث.
مجدّدًا، يبقى المشهد خاليًّا من أيّ حوار، لكنّ صوت الهارمونيكا لوحده كان كفيلًا بخلق عشرات الحوارات وتأليف الكثير من السيناريوهات في عقل مشاهد الفيلم. سيكولوجية كاملة من الخوف والقلق والترقّب بناها ذلك الصوت الذي سيستمرُّ معنا طوال مشاهد الفيلم.
ذلك العجوز الإيطاليّ، الذي جعل من الموسيقى التصويرية للأفلام تحفًا فنية خلّدت أفلامها أكثر وأكثر، وعرف كيف يحوّل اللحنَ الواحد إلى مئاتٍ من الكلمات التي تغنيكَ عن أي سيناريو آخر، أكمل قبل شهرين تقريبًا عامه التاسع والثمانين، بعد أنْ ألّف لما يقارب الخمسمائة قطعة موسيقية استطاع من خلالها أنْ يجعل ألحانه تطغى على الصورة لتبقى حاضرة في الذهن وتصيّر من اسمه اسمًا خالدًا يستحيل نسيانه.
وُلد إنيو مويكوني في روما، في حيّ تراستيفير تحديدًا، عام 1928، وعرف الموسيقى منذ صغره إذ كانَ أبوه عازفًا بارعًا للبوق مع إحدى فرق الجاز المحلّية في المدينة، ما مكّنه في عمر السادسة من بدء التأليف. أما في سن العاشرة فقد التحق لأكادمية ناسيونالي دي سانتا سيسيليا لتعلّم البوق ودراسة التأليف الموسيقى، تمامًا على خطى أبيه.
أثرت الحرب في إيطاليا على إنيو كثيرًا، فمن جهة كانت الظروف الصعبة التي تعيشها البلاد بشكلٍ عام، ومن جهة مرض والده وموته لاحقًا والذي جعل من إنيو المسؤول الأوّل عن العائلة، ما اضّطره لأخذ مكان والده والعمل مع فرق الجاز عازفًا للبوق، لدرجة أنه يصف صعوبة ما مرّ به وعمله مع الأمريكيّين والبريطانيّين القادمين للبلاد بفعل الحرب مقابل أن تكون أجرته طعامًا يأخذه لعائلته.
لكنّ سنوات الحرب تلك كانت حاسمة بالنسبة لموريكوني، إذ اكتشف كيف يمكن للموسيقى الخفيفة أن تجلب السعادة خلال الأوقات القاتمة، فألّف وعزف العشرات من المقطوعات الموسيقية في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات، إلّا أنّ التحوّل الأكبر كان بعد لقائه بصديق طفولته وزميله السابق في المدرسة الابتدائية سيرجي ليوني، لمناقشة فيلم الأخير القادم “حفنة دولارات”، والذي شكّل لاحقًا أوّل تعاون مشترك بين هذين العبقريين.
تعاون إنيو وليوني استمرّ لسنواتٍ لاحقًا، وثلاثية الدولارات “حفنة دولارات، لبضع دولارات أكثر، الطيب والشرس والقبيح”، لم تكن سوى بداية الصعود العالميّ لإنيو في مجال السينما، لا سيّما وأنّ الموسيقى التصويرية للأفلام الثلاثة جميعها كانت تحفًا فنية صنعت اسمًا للملحّن العبقريّ وساعدته بمتابعة مشاريع أخرى.
وبدلًا من كتابة الألحان وتأليف الموسيقى لتناسب مشاهد الأفلام، اعتاد إنيو بدء التأليف قبل التصوير، ليستخدم ليوني الموسيقى أثناء التصوير لوضع الممثلين في مزاجٍ مثاليّ تمامًا، وبذلك تكون الموسيقى صنعت المشهد أو الممثل وليسَ العكس.
أما خلود موسيقاه واستمرارها بعيدًا عن أجواء أفلامه، فيرى مويكوني بنفسه أنّ السبب يرجع إلى أنّ ألحانها كاملة في حدّ ذاتها، لديها صلابتها وتماسكها الخاص، ولذلك اعتاد أن يكتب الألحان قبل التصوير، حتى تكون الموسيقى مستقلّة ذات كيانٍ خاص ويكون المشهد السينمائيّ تابعًا لها.
وفي العرض المختصر للفيلم الوثائقي الذي يسرد حياة موسيقارنا، ويحمل اسم “The Glance of Music“، يروي إنيو كيف استلهم من عواء الذئاب وأصوات الطبيعة الأخرى معزوفته الموسيقية الخاصة بفيلم “الطيب والشرس والقبيح”.
“حدث ذات مرة في أمريكا” كان نهاية التعاون الثنائي الفذ بين موريكوني وليوني. تلك القطعة التي شكّلت ملحمةً تاريخيةً عاطفية تمامًا كما الفيلم نفسه، أصبحت منذ العام 1984 واحدةً من أفضل أعمال إنيو على الإطلاق. صوت الناي في الموسيقى التي رافقتنا كثيرًا بالفيلم وحملت اسم “ذكريات الطفولة”، ومعزوفة “ديبورا” التي استطاع إنيو من خلال تلخيص الكثير مما في الفيلم وجعلت منه تجربة سينمائية تأخذ الأنفاس، وتمامًا كما فعل إنيو بالأفلام السابقة، فقد سبقت هذه الموسيقى التصوير، فجاءت المَشاهد تابعةً لها مبنيةً عليها.
تعاون إنيو وليوني لم يكن التعاون الفريد الوحيد في السينما، وإنما كان هناك أيضًا التعاون المميز مع المخرج الإيطالي جوسيب تورنتوري، والذي خلّد إنيو العديد من أفلامه مثل سينما باراديسو ومالينا وأسطورة 1900، والتي جميعها طغت على الصورة والسيناريو فاحتلت مكانها في الذاكرة فطغت شهرتها الأفلام نفسها وأصبح يعرفها ويسمعها العديد ممّن لا يعرفون تلك الأفلام أساسًا.
حين يتعلّق الأمر بالموسيقى السينمائية، فسيكون اسم إنيو موريكوني أول ما يسطع أو يخطر على البال، ولربما كان هو التجربة الفذة العبقرية الوحيدة وما سواه مجرد هواة. هناك أنماط أخرى بطبيعة الحال، لكن سيبقى إنيو فوق الجميع، فما من ملحّنٍ آخر استطاع أن يجمع بين القلب والعاطفة وروح والطبيعة والنفس البشرية بقدر ما فعل إنيو، وكأنّه متصوّفٌ عرف كيف يصل بموسيقاه إلى نفوس البشر والتي تمكّنهم من النظر إلى دواخلهم واستكشاف ذواتهم أو الخير والشر المكنون فيهم أو أكثر مشاعرهم ضعفًا وحزنًا.