ترجمة وتحرير: نون بوست
أورد السيناتور الأمريكي جون ماكين، في تصريح أدلى به خلال شهر آب/ أغسطس سنة 2017، “نحن نخسر في أفغانستان، لذلك يعد الوقت عاملا جوهريا إذا كنا ننوي تحويل المد لصالحنا”. وفي الحقيقة، لم يكن ماكين الشخص الوحيد الذي جادل بأن حركة طالبان تحقق تقدما. فقد أوضح الجنرال الأفغاني المتقاعد، عبد الجبار كهرمان، الذي كان يشغل منصب المبعوث العسكري للحكومة الأفغانية في مقاطعة هلمند حتى سنة 2016، في حوار أجراه مع صحيفة نيويورك تايمز، خلال فصل الصيف أن “حركة طالبان تزداد قوة، بينما تتراجع الحكومة وتفقد أراضيها لصالح طالبان يوما بعد يوم”.
فضلا عن ذلك، أعلنت الكثير من وسائل الإعلام أن “طالبان تبدو وكأنها منتصرة، وتسعى جاهدة لتبين أن الولايات المتحدة لا يمكنها الفوز في هذه الحرب”. وعلى الرغم من أن طالبان أظهرت قدرة مدهشة على الصمود وشن هجمات بارزة في مدن مثل كابول، إلا أنها اليوم تبدو أضعف مما يظن الكثيرون. فقد بقيت مكبلة بعقيدتها المتشددة التي يرفضها معظم الأفغان، ولا زالت تحظى ببنية قيادية ترتبط ارتباطا وثيقا بالجماعة العرقية البشتونية، فضلا عن أنها تعتمد بشكل مفرط على تكتيكات وحشية أدت إلى مقتل عشرات الآلاف من المدنيين الأفغان الأبرياء، وتشريد الكثير منهم.
في الواقع، يملك البشتون سجلا حافلا بجرائم الفساد، وحلفاء أجانب غير مرغوب بهم في أفغانستان مثل باكستان. ولا يزال معظم كبار قادة طالبان يأملون في أن يتمكنوا يوما من استعادة كابول، والإطاحة بالحكومة الأفغانية، وإقامة إمارة إسلامية متطرفة في البلاد. ولكن بالنظر إلى نقاط ضعف هذه الجماعة، وقرار الولايات المتحدة بإبقاء القوات الأمريكية في أفغانستان، من المستبعد جدا أن يحدث ذلك. كما تبين نقاط ضعف كل من حركة طالبان والحكومة الأفغانية الحالية أن هذا الصراع سيصل إلى طريق مسدود في المستقبل المنظور.
في هذا الإطار، قد يَقلب عامل الأرض الكثير من المعطيات إلا أنه ربما لا يكفي لترجيح الكفة لصالح أي من الجانبين. وعلى هذا النحو، يتمثل الخيار الأفضل لحركة طالبان في السعي للتوصل إلى تسوية عن طريق المفاوضات، لأنه من غير المرجح أن تهزم الحكومة الأفغانية وداعموها الدوليون في ميدان المعركة. في المقابل، يجب على كل من كابول وواشنطن أن تدعما بالمثل حل التسوية لأنهما لن يكونا على الأرجح قادريْن على تحقيق نصر عسكري كامل على هذه الحركة.
“حركة طالبان الجديدة”
غدت حركة طالبان منظمة مختلفة اليوم عما كانت عليه في فترة التسعينات عندما حكمت أفغانستان. ويديرها رئيس القضاء السابق هبة الله آخوند زاده، الذي يشغل منصب رئيس مجلس العلماء في طالبان، أعلى سلطة دينية بالنسبة لهذه الجماعة. وقد حاول آخوند زاده وغيره من قادة طالبان كسب قلوب وعقول الأفغان عن طريق تمويل بعض مشاريع التنموية وإعطاء وعود بإصلاح نظام التعليم في أفغانستان.
أما اليوم، يتمتع قادة حركة طالبان بحنكة وذكاء على المستوى التقني على عكس فترة التسعينات. فقد أصبحوا يعلنون بفخر عن مواقع تمركزهم على شبكة الإنترنت، وموقع التواصل الاجتماعي تويتر، والمجلات اللامعة، علما بأنها غالبا ما تتخذ إجراءات صارمة ضد المدنيين باستخدام بعض الوسائل التكنولوجية. وتجدر الإشارة إلى أن حركة طالبان تمركزت بصمود في المناطق الريفية وتمكنت من شن هجمات متكررة رفيعة المستوى في كابول وغيرها من المدن.
تمثل الخيار الأفضل لحركة طالبان في السعي للتوصل إلى تسوية عن طريق المفاوضات
من جانب آخر، أنشأ قادة الحركة هيكلا تنظيميا تُقدم فيه القيادات العليا التوجيه والإشراف الإستراتيجييْن، بينما يتخذ المسؤولون العسكريون والسياسيون في الميدان قرارات عملية وتكتيكية. وقد تمكنت حركة طالبان من الاحتفاظ ببعض التماسك التنظيمي، على الرغم من فقدان اثنين من زعمائها الرئيسيين خلال السنوات القليلة الماضية، التي تعتبر ضربة قوية لأي منظمة.
مع ذلك، واجهت حركة طالبان انتكاسات خطيرة؛ فبعد الاستيلاء مؤقتا على مدينة قندوز الشمالية خلال شهر أيلول/ سبتمبر من سنة 2015، فقدت المجموعة السيطرة عليها في غضون أيام عندما تكاتفت القوات الأمريكية والأفغانية من أجل استعادة السيطرة عليها. وخلال سنة 2016، فرضت حركة طالبان ضغوطا على عدة عواصم إقليمية، في بعض الأحيان في وقت واحد، ولكنها لم تتمكن من السيطرة على أي منها. أما خلال سنة 2017، فقد فشلت الحركة في فرض تهديد مستمر ضد أي عاصمة إقليمية.
لماذا فشلت حركة طالبان؟
تسلط الإخفاقات الكثيرة التي مُنيت بها حركة طالبان الضوء على أوجه القصور العديدة التي تعاني منها هذه المنظمة. أولا، لا تزال أيديولوجية الحركة متطرفة جدا بالنسبة للعديد من الأفغان، بمن فيهم الأفغان الحضريين الذين يتبنون شكلا معتدلا من الإسلام الذي يسمح باستخدام معظم وسائل التكنولوجيا الحديثة، والاستماع إلى مختلف أنواع الموسيقى، والمشاركة في الحياة السياسية، فضلا عن تأمين بعض الحقوق للمرأة.
على سبيل المثال، يوافق جميع الأفغان تقريبا على منح المرأة الحق في الانتخاب، في حين أن الفتيات اللواتي حُرمن من التعليم في ظل حكم حركة طالبان، يُمثلنّ في الوقت الراهن 39 في المائة من طلاب المدارس الحكومية في أفغانستان. كما خصص البرلمان الأفغاني 69 مقعدا للنساء من أصل 249 مقعدا في مجلس النواب، بينما يضم مجلس الشيوخ 27 عضوا من الإناث في البرلمان من أصل 102 عضوا.
في الواقع، لا يعد ذلك مستغربا نظرا لأنه خلال استطلاع للرأي أجري في جميع أنحاء البلاد سنة 2015 تبين أن 92 في المائة من الأفغان يؤيدون حكومة كابول، وأربعة في المائة فقط يفضلون حركة طالبان. وقد ظلت هذه النتيجة ثابتة على مدى عقد من الزمن منذ إجراء الاستطلاع تقريبا. وفي الاستطلاع ذاته، رفض معظم الأفغان فكرة أن حركة طالبان باتت أكثر اعتدالا.
يشكل اعتماد طالبان المفرط على زعماء البشتون نقطة ضعف خطيرة. ويعتقد ما يقارب 93 % من الأفغان أنهم يخشون مواجهة طالبان بسبب آرائهم المتطرفة ووحشيتهم
إلى جانب ذلك، يتمثل العيب الثاني في حركة طالبان في أنها تعد إلى حدٍ كبيرٍ حركة تتكون أساسا من البشتون، ما يحد من حجم الدعم والتأييد الذي تتلقاه من مناطق الهزارة والطاجيك والأوزبك. ويهيمن البشتون على الطبقات العليا لحركة طالبان، على الرغم من وجود تنوع إثني قليل في مستوياتها الدنيا. فمثلا، يعد هبة الله آخوند زاده من البشتون وبالتحديد من قبيلة نورزاي التي تتمركز في جنوب أفغانستان، فضلا عن نوابه سراج الدين حقاني، ومحمد يعقوب، وكبار القادة الآخرين؛ على غرار عبد القيوم ذاكر، وأحمد الله ناناي، وعبد اللطيف منصور، ونور محمد ساكب.
عموما، يعتبر قرابة 80 % من كبار قادة طالبان الخمسون، من البشتون الذين يقطنون في مقاطعة قندهار. واستنادا إلى تاريخ أفغانستان الحديث الذي يسلط الضوء على مظالم البشتون ومجتمعات الهزارة والطاجيك والأوزبك، يشكل اعتماد طالبان المفرط على زعماء البشتون نقطة ضعف خطيرة. ويعتقد ما يقارب 93 في المائة من الأفغان أنهم يخشون مواجهة طالبان بسبب آرائهم المتطرفة ووحشيتهم.
ثالثا، تفضل حركة طالبان اعتماد تكتيكات وإستراتيجيات وحشية لفرض سيطرتها في الكثير من المناطق، إلا أن ذلك يقوض من حجم مؤيديها في أفغانستان. وعلى غرار العديد من الجماعات المتمردة، استهدف مقاتلو طالبان بشدة المدنيين والموظفين الحكوميين عن طريق استخدام إستراتيجية الاغتيال، أو زرع القنابل في الطريق، أو نصب الكمائن، أو شن الغارات.
خلال النصف الأول من سنة 2017، أسفرت هجمات طالبان عن مقتل عدد من المدنيين، أكثر من أي ستة أشهر أخرى، منذ أن بدأت الأمم المتحدة بتوثيق الإصابات في صفوف المدنيين. وعلى مدى العقد الماضي، شنت الحركة هجمات انتحارية خطيرة، راح ضحيتها آلاف المدنيين الأفغان، فضلا عن إصابة عشرات الآلاف الآخرين.
وفقا لاستطلاع للرأي أجرته منظمة “أسيان”، فإن ما يقرب من 93 في المائة من الأفغان يقولون إنهم يخشون مواجهة طالبان بسبب وجهات نظرها المتطرفة ووحشيتها. وقد أدت الوحشية إلى تشريد العديد من الأسر، وإلحاق أضرار بالممتلكات المدنية، والحد من حرية التنقل، ناهيك عن تقليص إمكانية الحصول على المساعدات الإنسانية والتعليم والرعاية الصحية، لتتراجع بذلك شعبية حركة طالبان.
على الرغم من أن صناع القرار والأكاديميين الغربيين قد ركزوا على نقاط ضعف الحكومة الأفغانية وحذروا من انتصار وشيك لحركة طالبان، إلا أن مستقبل طالبان لا يبدو واعدا
أما رابعا، وعلى الرغم من أن العديد من المراقبين يشيرون إلى الفساد في الحكومة الأفغانية، إلا أنهم لا يعون أن طالبان متورطة أيضا، لاسيما في تجارة المخدرات. فعائدات المخدرات تمثل أكثر من نصف التمويل الكلي لطالبان، وهي المصدر الأكثر أهمية للإيرادات الخاصة للقادة المحليين. ويمول هؤلاء القادة المحليون شبكاتهم بفرض ضرائب على المبادلات التجارية، بما في ذلك المزارعين. وقد قامت طالبان بتصدير المخدرات من أفغانستان على شكل شراب الأفيون، إلا أن الحركة تقوم ببناء مختبرات على نحو متزايد، لدمج الأفيون في المورفين أو الهيروين.
نتيجة لذلك، ساعدت هذه الإجراءات على أن تظل أفغانستان أكبر منتج ومصدر للأفيون في العالم، بإنتاج يقدر بنحو 80 في المائة من الأفيون في العالم. وتستخدم طالبان عائدات المخدرات لدفع مستحقات كل تابعيها انطلاقا من الجنود ووصولا إلى المسؤولين الحكوميين الأفغان، ويشير تورط طالبان في جميع جوانب تجارة الأفيون تقريبا إلى أنه أقرب إلى أن يكون “كارتل مخدرات”.
أما بالنسبة لموطن العجز الخامس، فيكمن في أن طالبان تعول كثيرا على الدعم المقدم من البلدان المجاورة، ولا سيما باكستان، التي لا تحظى بشعبية كبيرة لدى الكثير من الأفغان. ففي واقع الأمر، تقدم باكستان ووكالتها الاستخباراتية، وهي وكالة التجسس الرائدة في البلاد، عدة أنواع من المساعدة لطالبان والمجموعات المتحالفة معها مثل “شبكة حقاني”، كما تمثل باكستان ملاذا للقادة وأسرهم.
طيلة سنوات، زود المسؤولون الباكستانيون طالبان بالمال، والتدريب، والاستخبارات، والأسلحة المميتة، ومعدات الاتصالات. وبناء على ذلك، أعطى 3.7 في المائة فقط من الأفغان تصنيفا إيجابيا لباكستان، وفقا لاستطلاع رأي أجري سنة 2016 من قبل مؤسسة “غالوب” ووكالة “مجلس إذاعة المحافظين” الأمريكية. في المقابل، أبدى نسبة 5.8 في المائة من الأفغان تعاطفهم مع تنظيم الدولة، بينما أعرب حوالي 62 في المائة من المشاركين في الاستطلاع عن حبهم للهند.
جنازة شيعية بالقرب من كابول سنة 2017
محادثات السلام
على الرغم من أن صناع القرار والأكاديميين الغربيين قد ركزوا على نقاط ضعف الحكومة الأفغانية وحذروا من انتصار وشيك لحركة طالبان، إلا أن مستقبل طالبان لا يبدو واعدا. في الحقيقة، تمتلك هذه الحركة القدرة على مواصلة التمرد في المستقبل القريب، ولكن احتمالات قدرتها على الإطاحة بالحكومة الأفغانية، أو حتى السيطرة على أراضي أفغانية مأهولة، لا تبدو ممكنة حتى على المدى البعيد.
في مواجهة هذه الآفاق المحدودة لمستقبل الحركة، ينبغي على قادة طالبان أن يستهلوا مفاوضات سلام جادة مع الحكومة الأفغانية، وهو أمر يبدو أنهم مترددون بشأنه لاعتقادهم ربما أن لهم الغلبة على ساحة المعركة. ومن المرجح أن يتطلب دفع طالبان لبدء محادثات استقرار جدية، خاصة مع ممثلي الحكومة الأفغانية، جهودا متواصلة من جانب الولايات المتحدة والشركاء الإقليميين، خاصة باكستان.
بما أن طالبان تسيطر على بعض المناطق الريفية، فمن المحتمل أن يتفاوض قادتها على عدد من التنازلات من قبل الحكومة الأفغانية وحلفائها. ومن بين هذه التنازلات نذكر إبداء أهمية أكبر لتعاليم الإسلام والشريعة داخل المؤسسات الأفغانية، وإدماج بعض قادة طالبان في مناصب حكومية، وقمع الفساد الحكومي، وفي نهاية المطاف، المطالبة بانسحاب القوات الأمريكية وغيرها من القوات القتالية الأجنبية.
أدرك “تيموشينكو” أن “قوات كولومبيا المسلحة الثورية” لن تقدر على الفوز. لذلك قد حان الأوان بالنسبة لقادة طالبان لأن يتوصلوا إلى نتيجة مماثلة، فالشعب الأفغاني الذي عانى من صراع دام طيلة 40 عاما، يستحق أن تنتهي الحرب
من هذا المنطلق، يجدر تذكير قادة طالبان بأن تأجيل المفاوضات لن يعزز موقفهم التفاوضي، فقد أعلنت إدارة ترامب أنها سوف تلغي المواعيد النهائية التي حددتها إدارة أوباما سابقا لانسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان، مما يجعل طالبان في مواجهة غريم أعيد تفعيل آلياته.
في شأن ذي صلة، وافقت “قوات كولومبيا المسلحة الثورية” (فارك) أخيرا على إجراء مفاوضات سلام جادة في كولومبيا بعد وفاة أكثر من 200 ألف شخص، وتشريد الملايين، وتشويه الآلاف من المدنيين بسبب الألغام الأرضية.
حيال هذا الشأن، اعترف زعيم “قوات كولومبيا المسلحة الثورية”، تيموليون خيمينيز المعروف باسم “تيموشينكو”، سنة 2012 بأن “استمرار الصراع يعني للبعض المزيد من الموت والدمار، والحزن والدموع، والفقر والبؤس، وثروة أكبر للبعض الآخر. تخيل عدد الأرواح التي كان يمكن إنقاذها خلال السنوات العشر الماضية. لذلك نحن نسعى إلى الحوار، وإيجاد حل دون سفك دماء أكثر، من خلال التفاهم السياسي”.
في سياق متصل، أدرك “تيموشينكو” أن “قوات كولومبيا المسلحة الثورية” لن تقدر على الفوز. لذلك قد حان الأوان بالنسبة لقادة طالبان لأن يتوصلوا إلى نتيجة مماثلة، فالشعب الأفغاني الذي عانى من صراع دام طيلة 40 عاما، يستحق أن تنتهي الحرب.
المصدر: فورين أفيرز