وصلت الخلافات داخل مجلس الحرب الإسرائيلي حد التراشق الحاد بين الأعضاء، والتلويح بورقة الانسحاب المجدول زمنيًا، في مشهد، وإن كان متكررًا منذ بداية حرب غزة، لكنه يعكس حجم التصدعات والتباينات القوية في وجهات النظر بشأن سير المعركة ومستقبلها الذي بات أكثر غموضًا رغم مرور ما يزيد على 7 أشهر كاملة منذ بدايتها.
وكان كل من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وعضو مجلس الحرب بيني غانتس قد خاضا، السبت 18 مايو/أيار، معركة سجال وتراشق جديدة، بعدما هدد الثاني بالانسحاب من حكومة الطوارئ بدعوى عدم بحث خطط “إستراتيجية” للحرب على غزة، في إشارة إلى الجدل الدائر بشأن مسألة “اليوم التالي” للحرب، التي تعد رأس الحربة في تكريس تلك الانقسامات داخل الكابينت.
يأتي هذا السجال بعد المفاجأة التي فجرها وزير الجيش الإسرائيلي، يوآف غالانت، مساء الأربعاء 15 مايو/أيار، حين طالب نتنياهو – خلال مؤتمر صحفي له – بأن يعلن بشكل واضح وصريح عدم رغبته باحتلال قطاع غزة، وأن يبدأ في تعيين إدارة مدنية لحكم القطاع، دون توريط المؤسسة العسكرية، تجنبًا لتكبد المزيد من الخسائر التي لا يمكن تعويضها، وهو الخلاف الأول من نوعه الذي يخرج للعلن من جانب وزير الدفاع الإسرائيلي بشأن اليوم التالي للحرب.
تعكس تلك التصدعات حالة الفوضى والارتباك التي يعاني منها مجلس الحرب الإسرائيلي، التي ترجع في المقام الأول إلى الأداء البطولي غير المتوقع من المقاومة، التي نجحت في بعثرة أوراق الاحتلال وأحدثت خروقات غائرة في جداره الذي كان يدعي تماسكه عبر سنوات طويلة.. فهل تقود تلك الانقسامات إلى انهيار الحكومة كما يتوقع البعض؟
تراشق وانقسامات حادة
كان غانتس خلال مؤتمر صحفي له قد أمهل نتنياهو حتى 8 يونيو/حزيران المقبل لتحديد إستراتيجية واضحة للحرب وما بعدها، متهمًا “قلة صغيرة” في إشارة إلى اليمين المتطرف، بأنها تسيطر على قيادة الكيان المحتل وتقوده إلى المجهول.
ووصف وزير الحرب المقترح الذي قدمته حماس مؤخرًا ورفضه نتنياهو، بأنه متوازن مع إمكانية تطويره، متهمًا “من يتحكمون في الأمور وأرسلوا الجنود للميدان” بأنهم يتصرفون حاليًّا بجبن، وأن “جزء من السياسيين يفكرون في أنفسهم”، وتابع: “على نتنياهو أن يختار بين الفرقة والوحدة والنصر والكارثة، سننسحب من حكومة الطوارئ إذا لم تتم تلبية الطلبات”، مهددًا: “إذا واصل نتنياهو المضي قدمًا في طريقه الحاليّ فسوف نتوجه إلى الشعب لإجراء انتخابات”.
وحمّل غانتس رئيس حركة حماس في قطاع غزة يحيى السنوار مسؤولية إفساد صفقة التبادل “في الوقت الذي يعيش فيه داخل الأنفاق بينما تعيش إسرائيل تحت الضغوط”، معتبرًا أنّه هو العدو الذي يجب التعامل معه” ومضى قائلًا: “علينا العمل على إعادة مواطني الشمال (حدود لبنان) وتعزيز التطبيع مع السعودية”، معتبرًا أن “إسرائيل” تخوض منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول حربًا وجودية.
ولم يتأخر رد نتنياهو كثيرًا، فبعد دقائق قصيرة من تصريحات غانتس خرج رئيس الحكومة في بيان صادر عن مكتبه، هاجم فيه الوزير في مجلس الحرب، متهمًا إياه بفقدان البوصلة، وبدلًا من إنذار حماس فإنه ينذر الحكومة ويهدد رئيسها بمهلة نهائية، الأمر الذي سيؤدي إلى هزيمة “إسرائيل” بالحرب.
واعتبر البيان أن الشروط التي وضعها غانتس للاستمرار في الحكومة تعني نهاية الحرب وهزيمة “إسرائيل” والتخلّي عن معظم المختطفين (المحتجزين الإسرائيليين في قطاع غزة)، وترك حماس على حالها، وإقامة دولة فلسطينية.
واختتم نتنياهو بيانه قائلًا “إذا كان غانتس يفضّل المصلحة الوطنية ولا يبحث عن ذريعة لإسقاط الحكومة، فليجب عن الأسئلة الـ3 التالية: هل هو مستعد لاستكمال عملية رفح لتدمير كتائب حماس، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن أن يهدد بتفكيك حكومة الطوارئ في منتصف العملية؟ هل يعارض السيطرة المدنية للسلطة الفلسطينية في غزة، حتى دون (محمود) عباس؟ هل هو مستعد للقبول بدولة فلسطينية في غزة ويهودا والسامرة (الضفة الغربية المحتلة) كجزء من عملية التطبيع مع السعودية؟”.
لم يتجاهل غانتس بيان مكتب نتنياهو ليرد عليه مجددًا بالقول إنه “لو كان (نتنياهو) يصغي لكنا دخلنا رفح قبل أشهر وأنهينا المهمة، وعلينا أن نكملها، وأن نهيئ الظروف اللازمة لذلك”. مضيفًا: “السلطة الفلسطينية لن تتمكن من السيطرة على غزة، ولكن يمكن لجهات فلسطينية أخرى القيام بذلك، إذا نجحنا في الحصول على دعم من دول عربية معتدلة ودعم أمريكي”.
ووسط هذا السجال دخل وزير الأمن القومي المتطرف، إيتمار بن غفير، على خط الأزمة واصفًا غانتس بأنه “قائد صغير، منافق وكاذب”، متهمًا إياه في تغريدة له على حسابه على منصة “إكس” بالتآمر لأجل تفكيك حكومة الحرب، قائلًا إن غانتس “منذ اللحظة الأولى لانضمامه إلى الحكومة، كان منخرطًا بشكل رئيسي في محاولات تفكيكها، رحلاته إلى واشنطن لإجراء محادثات ضد موقف رئيس الوزراء (وعقب المحادثات أصبحت الإدارة الأمريكية معادية) لم تكن سوى جزء صغير من تخريبه”.
ووجه الوزير المتطرف رسالة مباشرة لغانتس قال فيها: “الرجل الذي استضاف أبو مازن في منزله، وأدخل عمالًا من غزة، وقاد اتفاقية الخضوع بالغاز مع لبنان، وأزال حواجز أمنية مهمة في الضفة الغربية، وعرّض جنود غولاني للخطر حرصًا على الفلسطينيين، هو آخر من يمكنه تقديم بدائل أمنية”.
تصدع الداخل الإسرائيلي
لم تكن المعركة السجالية الحاليّة بين غانتس وغالانت من جانب، ونتنياهو وبن غفير ومعهما سموتيرتش من جانب آخر، هي الأولى من نوعها منذ بداية الحرب في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، فهي حلقة واحدة في سلسلة ممتدة من الانقسامات والخلافات مستمرة قرابة 7 أشهر ويزيد.
وقبل السجال الراهن شهدت أروقة مجلس الحرب الإسرائيلي مناوشات حادة – كان بطلها الأول غانتس – خرج بعضها بعيدًا عن جدران الكابينت إلى الشارع حيث التظاهرات العارمة لعائلات الأسرى والمحتجزين المطالبين بإقالة الحكومة وإجراء انتخابات عامة.
فبعد المائة يوم الأولى من الحرب شارك غانتس في مظاهرة حاشدة بتل أبيب تطالب الحكومة بإبرام صفقة أو التنحي، كذلك وصف قائد الجيش غادي آيزنكوت لأعضاء الكابينت بالكذب، ومطالبته لهم بإظهار الشجاعة من أجل التواصل إلى صفقة مع حماس تعيد المحتجزين.
هذا بخلاف منع نتنياهو مدير مكتب وزير دفاعه غالانت من حضور إحدى جلسات الكابينت، وهي الخطوة التي أغضبت غالانت الذي اتهم نتنياهو بالتشويش على عمله، وكادت الأمور أن تصل إلى حد الاشتباك بالأيدي، واضطر بعدها للانسحاب من الاجتماع، أعقبها اشتباك وقع بينه وبين بن غفير.
ووصل التراشق بين الأعضاء حد تهديد غالانت لوزير الشؤون الإستراتيجية في الحكومة رون ديرمر، بإحضار لواء غولاني للسيطرة على الوضع في مجلس الحرب، بعدما وصلت الأمور إلى مستوى من التصعيد غير المسبوق، خاصة بعد تسجيل فريق عمل غالانت لمجريات الاجتماعات الأمنية، حسبما ادعى طاقم نتنياهو ونشرته المواقع العبرية.
لم يكن التصدع حكرًا على المستوى العسكري فقط، ولا حتى على مستوى التيار السياسي الداخلي بين اليمين واليسار، بل تجاوز ذلك إلى مستوى الشارع والرأي العام، حيث تعرضت الجبهة الداخلية الإسرائيلية لمزيد من التفتت والتشرذم بفعل المقاومة وصمودها البطولي الذي صدم الجميع في الداخل الإسرائيلي.
وفي الوقت الذي كان يتصاعد فيه الشرخ السياسي والعسكري كان الشرخ المجتمعي يسير أفقيًا ورأسيًا بمستويات أكثر حدة وغير معهودة، وضعت الحكومة بمنظومتها الأمنية في مواجهة الشارع المتفجر غضبًا من فشل الجيش والحكومة معًا في إدارة الحرب التي وصلت شهرها الثامن دون تحقيق أهدافها المزعومة.
ورغم مساعي نتنياهو لملمة شتات المجتمع الإسرائيلي منذ إطلاق صرخته الأولى عقب عملية الطوفان بأربعة أيام فقط حين قال: “إسرائيل تخوض حربًا وجودية”، ساعيًا للترفع عن الخلافات الداخلية والانصهار في صف واحد لأجل تحقيق أهداف الحرب والقضاء على حماس وتحرير المحتجزين، غير أن هذا الشحن المعنوي سرعان ما بدأ تفريغه يومًا تلو الآخر، ليُمني مجلس الحرب المشكل من شتى ألوان الطيف السياسي الإسرائيلي بضربات موجعة، صدعت أركانه وأفقدته صلابته المزعومة.
مصالح شخصية في المقام الأول
ترجع الانقسامات بين أعضاء مجلس الحرب الإسرائيلي في المقام الأول إلى المصالح الشخصية، ومحاولة كل عضو توظيف المشهد لصالح حسابات خاصة، يرسخ بها مرحلة جديدة يكون فيها أحد مكونات المشهد مستقبلًا، في ظل حالة الفوضى التي تخيم على الأجواء بسبب الفشل في تحقيق أي من أهداف الحرب التي أُعلن عنها بداية المواجهات.
الصدام بين نتنياهو وغالانت على سبيل المثال ينبثق في الأساس من خلافات شخصية بين الطرفين يحاول كل منهما تصفيتها بدعوى مصلحة “إسرائيل” والكيان، حيث يرى رئيس الحكومة في وزير الجيش تهديدًا له ولنفوذه ومستقبله في ظل طموحه السياسي الجامح، وهو ما دفعه للحد من صلاحياته وتقويض نفوذه داخل حزب ليكود والمشهد الحزبي الإسرائيلي بصفة عامة.
فجرده من وظيفته كـ”منسق أعمال الحكومة في المناطق الفلسطينية” و”الإدارة المدنية”، وحولها إلى الوزير المتطرف سموتريتش، كما سحب منه مسؤوليته عن فرق حرس الحدود في الضفة الغربية والقدس، ونقلها إلى بن غفير، هذا بخلاف إقالته من منصبه في مارس/آذار 2023، بسبب دعمه للاحتجاجات المناهضة للتعديلات على الجهاز القضائي، قبل أن يعود للمنصب لاحقًا.
https://x.com/Meemmag/status/1791517981354217936
الأمر ذاته مع غانتس الذي يحاول توظيف المشهد لحسابات شخصية خاصة، يغازل من خلالها عائلات الأسرى والمحتجزين للضغط من أجل صفقة تبادل والصدام مع الحكومة لإطلاق سراح ذويهم، ويستميل بها في الوقت ذاته التيار المدني والشارع الإسرائيلي بصفة عامة، بما يؤهله لحجز مقعد دائم أو ربما يكون على رأس التشكيل الحكومي في المرحلة المقبلة.
كذلك غالانت الساعي إلى تصدير صورة المدافع عن مصالح جيش الاحتلال و الحامي لأرواح جنوده من تهور نتنياهو وفريقه المتطرف الذي يدير الحرب بدوافع سياسية شخصية بعيدًا عن أي اعتبارات وطنية كما يدعي، في محاولة ليقدم الوزير المشاكس أوراق اعتماده من جديد للمؤسسة العسكرية والنخبة السياسية والأمنية الإسرائيلية بما يحمي منصبه من أي استهدافات مستقبلية سواء من نتنياهو أم اليمين المتطرف.
المقاومة تبعثر كل الأوراق
لم يكن ليحدث ما حدث داخل مجلس الحرب الإسرائيلي إلا بما قدمته المقاومة من نضال أسطوري وتكبيد جيش الاحتلال الخسائر الفادحة على مدار أكثر من 225 يومًا من القتال الضاري، كذلك صمود أهل غزة الذين أجهضوا كل مخططات التهجير القسري التي رُسمت تفاصيلها داخل مجلس الكابينت منذ اليوم الأول للحرب، فلو حقق الإسرائيليون أهداف تلك المعركة لما كان لتلك الخلافات أن تخرج للنور مهما كانت.
وعليه نجحت المقاومة في بعثرة كل أوراق الاحتلال، وأصابته بحالة من الارتباك والفوضى، تجسدت في عشرات المؤشرات والشواهد التي فضحت هشاشة الجدار العسكري والسياسي والمجتمعي لدولة “إسرائيل”، الأمر الذي أسقط جهود سنوات طويلة لتصدير صورة مشرقة من التماسك والتوحد والثبات والتفوق الأسطوري عسكريًا وسياسيًا.
https://x.com/AJArabic/status/1792152999571104031
لكن في الوقت ذاته، وحتى لا تكون هناك مبالغة في قراءة المشهد، فإن تلك الانقسامات رغم حدتها وهذا التصدع رغم قوته، يدور في إطار الصراعات الشخصية دون تجاوز مصالح الكيان الإسرائيلي، فالجميع يؤدي الدور المطلوب منه، ممثلًا لتيار سياسي أو مجتمعي معين، بما يسمح بامتصاص جميع الصدمات المحتملة.
في ضوء ما سبق لا يمكن إنكار حالة الانقسام الحادة داخل جدار مجلس الحرب الإسرائيلي، لكنه الانقسام الذي لم يتجاوز بعد خطوطه الحمراء، ملتزمًا بحدود صراع النفوذ والدفاع عن المصالح الشخصية، فيما تتوقف خطوة الانهيار الحقيقي لتلك الحكومة على استمرار صمود المقاومة، وقدرة الغزيين على الثبات رغم الكلفة الباهظة التي دفعها الجميع، وهو المهمة التي لم ولن تكون سهلة على الإطلاق.