وضع يديه على فمه من وهلة المنظر، وأخذ يركض نحو البحر ويصرخ بصوت عال، “ماما بحر، بحر يا ماما”، مشهد رأيته أمام عيني في مدينة يافا المحتلة، حيث كنت في رحلة من مدينة رام الله، إلى الداخل الفلسطيني المحتل.
فلسطين التاريخية تطل على ثلاثة بحار، الميت شرقًا، والمتوسط غربًا، والأحمر جنوبًا، ورغم ذلك فإن آلاف الفلسطينيين ممن يسكنون في الضفة الغربية، لم يروا البحر ولو لمرة واحدة في حياتهم، نتيجة احتلال “إسرائيل” للبحار الثلاثة، ومنع الفلسطينيين من دخولها، ووضع اجراءات وتشديدات معقدة جدًا على ذلك. في هذا التقرير، التقيت ببعض الفلسطينيين من سكان الضفة الغربية، ممن لم يروا البحر في حياتهم، وسألتهم عن الأسباب، وأمنياتهم المنشودة حيال ذلك الأمر.
“اعتقلوني 20 عامًا ومنعوني من السفر وزيارة الداخل”
الأسير المحرر عصمت منصور “42 عامًا” من مدينة رام الله، تألم ودمعت عيناه حين سمع السؤال، وقال: “لم أرى البحر في حياتي، ولم أزر مدن الداخل المحتل يومًا، وأنا في الثانية عشر من عمري اندلعت الانتفاضة الاولى عام “1987”، وفرض الاحتلال حصارًا مشددا على أهالي الضفة الغربية، ومنعوا من دخول الخط الاخضر الذي يفصل بين الضفة الغربية والداخل المحتل”.
وأضاف منصور،: “عام 1995 قامت سلطات الاحتلال باعتقالي، حيث كنت في السابعة عشر من عمري، وحكم علي بالسجن لمدة 20 عاماً، تحررت قبل 4 سنوات ومنذ ذلك الحين و”إسرائيل” تمنعني من السفر، وتمنعني من زيارة الداخل المحتل، أتوق شوقًا لرؤية البحر ولزيارة مدن الداخل، أتوق للسفر والاستمتاع بحياتي مع عائلتي، وأن اعيش حياة طبيعية كبقية البشر ولكنني محروم من ذلك”.
“لا أرى البحر.. لأنني ابنة شهيد”
الفلسطينية منار عبد الرحمن “27 عاما”، من رام الله، ابنة الشهيد عبد الرحمن العاروري، الذي اغتالته قوات الاحتلال خلال الانتفاضة الأولى، تقول: “أنا وأخوتي ووالدتي وكل من يصله بأبي خيط قرابة ممنوعون أمنيًا من زيارة الداخل المحتل، إلى الأبد”.
تضيف منار: “زرت البحر مرة واحدة في حياتي، وأنا طفلة، حيث لم يكن الجنود يدققون شهادات الميلاد للأطفال في ذلك الوقت، أما اليوم فقد أصبح هناك تدقيق وتشديد على الأطفال أيضًا”. وتتابع: “أتمنى من كل قلبي أن أذهب للداخل المحتل لكي أرى بلادنا وأرى البحر واستمتع بجمال فلسطين متى أشاء”.
“المرة الوحيدة التي خرجت فيها من الضفة كانت إلى السجن”
الصحفي زيد أبو عرة من محافظة طوباس، والذي يبلغ 30 عامًا من العمر، قال إن المرة الوحيدة التي غادر فيها الضفة الغربية كانت إلى سجن النقب، حيث يعتقل والده جنوب فلسطين. لافتًا إلى أنه كثيرًا ما يحلم ويتخيل أنه جالس على شاطئ البحر وقت الشروق أو الغروب، ويستمتع بجماله وبجمال بلادنا ويلتقط الصور لها.
يقول أبو عرة: “أتمنى أن أفطر في القدس، وأتناول عشائي في حيفا، وأبيت ليلتي في يافا، وأقفز إلى البحر من أسوار عكا، ولكن كل تلك الأحلام تصطدم بواقع الاحتلال والحصار والسجن المفروض علينا، فمجرد مروري على حاجز عسكري، يتم توقيفي عدة ساعات، فكيف لهم أن يسمحوا لي بالدخول لأراضينا المحتلة؟”.
ويروي أبو عرة حادثة حصلت معه مؤخرًا، فقد داهم الاحتلال بيته ذات يوم، وقام بالتحقيق معه مطولاً، ثم سأله الضابط الاسرائيلي بسخرية في نهاية التحقيق إذا كان يريد شيئا، فأجاب: “أريد الصلاة في المسجد الأقصى والدخول إلى حيفا ويافا وعكا وطبريا، فكان جوابه: “عندما يحل السلام بيننا”، عندها أدرك أبو عرة أن المنع الأمني سيظل عليه طالما بقي الاحتلال جاثمًا على صدورنا.
“أحب البحر حرًا لا محتلاً”
الفلسطينية أمل دويكات من مدينة نابلس، قالت إنها لم تزر البحر يومًا ولم تزر الداخل المحتل ولم تحاول استصدار تصريح بالمطلق، وأوضحت: “كلما فكرت في الأمر تذكرت أن زيارة بلادي وهي تحت الاحتلال ستعود بالنفع الاقتصادي على المحتل، أحب البحر بالطبع وأحب الاستمتاع به، ولكن ليس وهو تحت الاحتلال”. واكدت دويكات أن فكرة السياحة في المناطق المحتلة ليست مستساغة بالنسبة لها بالمطلق.
“أطلقوا النار عليه وضربوه.. عندما حاول الدخول إلى المدن المحتلة”
من ناحيته أكد المواطن راضي كرامة، “28 عامًا” من مدينة الخليل، أن دخوله للأراضي المحتلة بالنسبة له حلم، وقد تقدم مرات كثيرة بتصريح من أجل الدخول لها، ولكن كل المحاولات قوبلت بالرفض وباءت بالفشل.
وأشار راضي إلى أنه خاطر بحياته يومًا من أجل الصلاة في المسجد الأقصى في القدس، التي يسيطر عليها الاحتلال كما يسطير على الداخل، ومشى ساعة متواصلة على أقدامه من أجل اختراق جدار الفصل العنصري والوصول إلى القدس، ولكن قوات الاحتلال أمسكت به، وأطلقت الرصاص عليه من مسافة الصفر، كما اعتدوا عليه بالضرب، وأعادوه إلى الضفة الغربية.
“زوجها مسجون خلف القضبان.. وهي وأبناؤها مسجونون في الضفة”
سميرة صلاحات، وهي زوجة الأسير خالد صلاحات المحكوم “25 عامًا” من بيت لحم، قالت إنها زارت البحر مرة واحدة في حياتها قبل الانتفاضة الأولى، وقبل أن يعتقل زوجها، ومنذ ذلك الحين تشتهي هي وأولادها الممنوعين أمنيًا كما هي، أن تزور مدن الداخل وترى البحر، وتصلي في القدس. وتقول صلاحات: “الأمل بالله كبير بأن تتحرر بلادنا، ونزورها ونستمتع بجمالها وقدمها وأصالتها، وقدسيتها”.
وبالإضافة إلى الممنوعين أمنيا، فإن هناك الآلاف من الفلسطينيين لا يستطيعون زيارة الداخل والاستمتاع بالبحر، نتيجة الرسوم العالية جدًا التي تفرضها الشركات السياحية الإسرائيلية على السياح، فنتيجة للاحتلال وحصاره أصبح المواطن الفلسطيني ضيف غير مرحب به في بلده، ويحاول الاحتلال بشتى الوسائل والطرق شطب مدن الداخل من ذاكرة الفلسطينيين، تمامًا كما يفعل إزاء القدس المحتلة ومحاولة تهويدها وأسرلتها، ونزع فلسطينيتها عنها.