لا نبالغ إنّ قلنا أنّنا نستطيع أن نجد النفس البشرية بكامل تقلباتها وصراعاتها وتناقضاتها وعلاقاتها بالمجتمع الذي حولها حاضرة في روايات دوستويفسكي وأعماله التي جعلت من النفس الإنسانية ومصائرها في عالمٍ مليءٍ بالتناقض محورًا لها وأساسًا مركزيًا للحديث عنها، ولذلك لا ريبَ أن سيغموند فرويد قال ذات مرة أنّ “دوستويفسكي هو أول إنسان أعطانا فكرة عن الناس الذين هم نحن.”
يرى فرويد أنّ “الأخوة كارامازوف” هي أعظم رواية كُتبت على الإطلاق خاصة طريقة تناول دوستويفسكي لشخصية المحقق في الرواية. كما أصبحت الرواية مرجعًا نفسيًا لفرويد، إلى جانب أعمال أخرى مثل “المقامر” و”الجريمة والعقاب” التي استند إليها في تحليلاته السيكولوجية حول الجريمة وأبعادها النفسية والاجتماعية.
ولو جئنا لشخصيات دوستويفسكي لوجدنا أنّها شخصيات قلقة، معذّبة وممزّقة، ولعلّ ذلك يرجع أساسًا الحياة النفسية والاجتماعية المليئة بالقلق والعذاب والتمزّق الذي عاشه بنفسه. كما يُدرك دوستويفسكي أعماق شخصياته ودخائلهم، ويفهم حياتهم وينفذ إلى سرارئهم، ليصوّرهم فيما بعد كما رآهم في حقيقتهم الفردية لا من طرفٍ واحدٍ أو منظومة واحدة، وإنّما يراهم دفعةً واحدة أقرب ما تكون للكمال، ولهذا السبب اهتمّ فرويد كثيرًا بأعمال دوستويفسكي ودرس شخصياته وأحداث رواياته واستخدمها في تحليلاته السيكولوجية، عوضًا عن أنه كتب فيه بضع مقالات أو موضوعات.
اعتمد فرويد على روايات دوستويفسكي للوصول للعديد من الاستنتاجات،التي تتعلق بمرض “الصرع” والقمار
في كتابه “التحليل النفسي والفنّ”، يبدأ فرويد فصله عن دوستويفسكي بالقول أنّ بإمكاننا تمييز شخصيته الفنية الخصبة بناءً على أربع سمات هي؛ الفنان المبدع والإنسان الأخلاقيّ والعصابيّ والآثم. ثم يتساءل فرويد نفسه عن الكيفية التي سيستطيع بها المرء أن يجد طريقه وسط كلّ هذا التعقيد المحيّر. ثمّ يؤكد فرويد أنّ “الفنان المبدع في دوستويفسكي هو أقل سماته مدعاة للشك” من بين السمات الأربع الأخرى، لأنّ المكانة الأدبية لدوستويفسكي لا تخنلف كثيرًا عن مكانة شكسبير على سبيل المثال.
اعتمد فرويد على روايات دوستويفسكي للوصول للعديد من الاستنتاجات، لعلّ أهمها وأكثرها غرابة تلك التي تتعلق بمرض “الصرع”، والذي ذكره دوستويفسكي كثيرًا في رواياته وأُصيبت به العديد من شخصياتها، ووفقًا للعديد من الروايات فيُعتقد أيضًا أنّ دوستويفسكي نفسه كان يعاني من هذا المرض في حياته.
وهنا يعتقد فرويد بأنّ دوستويفسكي كان “يعتبر نفسه مصابًا بالصرع، كما أنّ الناس كانوا يرونه كذلك نظرّا لنوبات الصرع الحادة التي كانت تأتيه مصحوبةً بغياب الشعور أو الوعي، إضافةً إلى تصلبات عضلية يتبعها هبوط. وبناءً على ذلك ووفقًا لفرويد، فإنّ ما كان يُسمّة صرعًا عند دوستويفسكي، لم يكن إلّا عرَضًا من أعراض مرضه العصابيّ، وبالتالي يمكن أنْ يشخّص تبعًا لذلك بأنه عصابٌ هستيريّ، أي هستيريا حادة.
يكمل فرويد في كتابه “نحن لا نستطيع أن نكون على يقين تام من هذه النقطة لسببين: أولًا، لأنّ معلوماتنا عن تاريخ صرع دوستويفسكي المزعوم قاصرة وغير موثوق بها، وثانيًا، لأنّ فهمنا للحالات المرضية المرتبطة بنوبات ذات مظهر صرعي هو فهم ناقص”، لكنه سرعان ما يفيدنا من خلال تحليل نصوص دوستويفسكي، أنّ هذا الصرع لا يمكنه أن يكون مرضًا عضويًا حقًّا، وإنما نفسيّ.
حلّل فرويد القمار الذي كان متعارفًا عليه في عدد من روايات دوستويفسكي لا سيّما روايته “المقامر، على أنه “طريقة أخرى لمعاقبة الذات”
ويستفيض فرويد في كتابه بأنّ هذا النوع من النوبات تصبح له قيمة العقاب بالتدريج، ما يعني أنّ صاحب النوبة يكون في الأصل راغبًا في موت شخص آخر، ليصل به الأمر إلى الرغبة في أن يكون هو نفسه هذا الشخص، وبالتالي تكون نوبة الصرع تلك هي عقاب للذات على رغبة الموت الموجهة ضدّ شخصٍ آخر، غالبًا ما يكون الأب المكروه.
ونظرًا لأنّ فرويد يرى أنّ جريمة قتل الأب هي الجريمة الأولي في البشرية، ينتقل من هذه النقطة إلى عقدة أوديب التي أسقطها على رواية “الأخوة كارامازوف”، ليقارن بين قتل الأب فيها وبين قتل الأب في مسرحية “هاملت” لشكسبير.
ففي مقاله “Dostoevsky and Parricide” الذي نُشر عام 1928، يقول فرويد أنها ليست مصادفةً أنّ عددًا من أعظم أعمال الأدب العالمي، بما في ذلك هاملت والأخوة كارامازوف، تتعلق بعقدة قتل الأب “Parricide“، والتي يربطها فرويد بمرض الصرع الذي يعاني منه عددًا من شخصيات تلك الأعمال.
أما في القسم الثاني من تلك المقالة، فقد حلّل فرويد القمار الذي كان متعارفًا عليه في عدد من روايات دوستويفسكي لا سيّما روايته “المقامر، على أنه “طريقة أخرى لمعاقبة الذات”، وقد استمدّ ذلك من تحليله لدوستويفسكي نفسه، والذي كان مهووسًا بالمقامرة في فترةٍ من حياته.
ويؤكّد فرويد تحليله قائلًا: “اذا كان الهوس بالمقامرة -مع الصراعات الفاشلة لتحطيم هذه العادة والفرص الذي يقدمها لمعاقبة الذات- تكرارًا للدافع الى الاستمناء، فلن ندهش اذا اكتشفنا أنّ هذا الهوس بالمقامرة يشغل مكانًا كبيرًا كهذا في حياة دوستويفسكي. ونحن لا نجد بعد كل هذ – حالات من العصاب الشديد لم يلعب فيها الإشباع الشبقي الذاتي في الطفولة والبلوغ دورًا ما. والعلاقة بين الجهود التي تبذل لقمعه والخوف من الأب، معروفة جيدًا حيث لا تحتاج الى أكثر من أن تُذكر”.
معظم دراسات فرويد في التحليل السيكولوجي للفن انطلقت من سؤالٍ جوهري أساسيّ هو ما هي إمكانات التحليل النفسي في تفسير الأعمال الأدبية والأعمال الفنية بوجه عام، ولذلك لم يكتفِ فقط بتأكيد أطروحاته في الأعمال الفنية، ولا بتطبيق قوانين التحليل النفسي التي وضعها على شخصيات الروايات، وإنّما تتطلع أيضًا إلى تفسير عملية الإبداع الفني بالذات وإلى بيان الكيفية التي بنى بها الفنان عمله.