حظيت فترة حكم الدولة العثمانية باهتمام تاريخي كبير بسبب التبعيات الاجتماعية والسياسية التي خلفتها سياستها، و التي كان لدول البلقان حصة كبيرة منها، وخاصة من الناحية الدينية، ولم يقف التأثير العثماني على دول هذه المنطقة عند انهيار الإمبراطورية العثمانية، بل لا يزال ممتدًا حتى يومنا الحاضر.
من أبرز أحداث هذه الفترة، اعتناق شعوب دول البلقان الإسلام في عهد السلطان بايزيد الأول عندما فتحت القسطنطينية عام 1453 وهزمت الإمبراطورية البيزنطية، حتى توالت التحديات والصعوبات أمام الهوية الدينية لمسلمي هذه المنطقة، بدءًا من تراجع السيطرة العثمانية على أراضيها ومرورًا بمحاولات الاستقلال ونهاية بوصول الشيوعيين إلى السلطة ومحاولات تنصير من بقى من المسلمين في بلغاريا والبوسنة وكوسوفو ومقدونيا، أو طردهم على أساس أنهم أقليات غير مرغوب فيها، ونتيجة لهذه العمليات قتل نحو 250 ألفًا منهم، وهجر مئات الآلاف إلى تركيا والدول العربية وأستراليا وأمريكا وأوروبا، وفي هذا التقرير نعرض الفجوة بين الهوية الدينية لسكان دولة كوسوفو -ذات أغلبية مسلمة- والعادات الاجتماعية الغربية التي تضيف الملامح العلمانية لهذه العلاقة بشكل معتدل.
المجتمعات داخل دول البلقان
تتميز هذه الدول بالتنوع السياسي والثقافي و الديني، ومن الناحية الإثنية فهم ينقسمون إلى الإليرية (الألبان)، والسلافينيون أي البوشناق والتربشيين والغوارنيين ومسلمي بلغاريا البوماك، ويتحدث أهلها العديد من اللغات، منها: الألبانية والبوسنية والبلغارية والتركية.
يعتنق سكانها الدين المسيحي والإسلامي، وتشكل الطائفة الأرثوذكسية أكبر طائفة فيها وتتوزع بين اليونان وصربيا وبلغاريا ومقدونيا، والطائفة الكاثوليكية تشمل المجر وكرواتيا وسلوفيكيا، وبالنسبة إلى المسلمين، فتوجد نسبة كبيرة منهم في ألبانيا والبوسنة وكوسوفو ويتبع أغلبهم المذهب الحنفي، مع وجود 20% من البقداشيين (مذهب تركي صوفي) في ألبانيا وكوسوفو والمذهب العلوي في بلغاريا واليونان.
كوسوفو بين تدينين
يعتبر 96% من سكان كوسوفو مسلمين وهي دولة علمانية وسكانها مسلمين، وهي من أكثر دول البلقان التي تتبنى الطابع الغربي في عاداتها وشوارعها، ومن ناحية أخرى، يعتقد البعض أن هناك توجه عام من أهل هذه الدولة نحو الإسلام، ويبدو هذا واضحًا من خلال رصد عدد المساجد، فبعد حرب كوسوفو في عام 1999 كان هناك حوالي 200 مسجد، وحاليًا يوجد أكثر من 800 مسجد، هذا بالإضافة إلى انتشار المحلات التجارية التي تبيع الملابس الشرعية في العاصمة بريشتينا.
وتأكيدًا على هذا، يقول المحلل في مؤسسة الأبحاث والسياسات في البلقان، نايم راشيتي لموقع رفرل”هناك أجزاء من المجتمع الكوسوفي أصبحت أكثر تدينًا، ويعبر عنه الناس من خلال ممارسة الشعائر الدينية وتطبيق الفرائض مثل غطاء الرأس وزيارة المساجد”، وينوه إلى أن سبب انتشار هذه الأفكار الدينية بين أفراد المجتمع هو نشاط دور الجمعيات الخيرية الإسلامية التي حاولت ملء الفراغات التي أهملتها الحكومات.
ومن ناحية أخرى، هناك مجموعة من السياسات والفئات التي لا ترى الدين الإسلامي جزءًا من دولة كوسوفو، لعدة أسباب، وأهمها تأثرها بالأحداث الأخيرة التي مر بها العالم بسبب عمليات التطرف الديني والإرهابي، وتحديدًا بسبب انضمام عدد كبير من الشباب من كوسوفو إلى الحرب في سوريا، مما جعل هؤلاء الناس في الجهة الرافضة للتوجهات الدينية، وفي محاولة لسيطرة على هذه الهواجس الاجتماعية أغلقت السلطات الكوسوفية نحو 14 جمعية خيرية ممولة من الشرق الأوسط لاشتباهها بوجود علاقات مع جماعات إسلامية متطرفة، ففي العامين الماضيين أغلقت جمعيات سعودية وتركية وإيرانية.
أغلقت السلطات الكوسوفية نحو 14 جمعية خيرية ممولة من الشرق الأوسط لاشتباهها بوجود علاقات مع جماعات إسلامية متطرفة، ففي العامين الماضيين أغلقت جمعيات سعودية وتركية وإيرانية.
كما تداولت وكالات الأنباء أخبارًا كثيرة عن جماعات متطرفة في كوسوفو تحاول أن تحول الإسلام المعتدل إلى وهابي بالاعتماد على التمويل السعودي، فلقد كان للمملكة السعودية دورًا كبيرًا في تمويل بناء المساجد المدمرة بعد الحرب وزخرفتها على غرار سعودي بدلًا من الزخارف العثمانية.
هذا وحظرت الحكومة أيضًا الزي الإسلامي في المدارس الابتدائية والثانوية، وقوبلت هذه القوانين باحتجاجات من قبل المسلمين المتدينين عام 2009، وكان رد الحكومة أنها تطبق قوانين الدستور العلماني للبلاد، وهذا ما اتفق عليه البعض على أساس أن هذه الأزياء تخالف التقاليد العلمانية في البلاد، ويتهم البعض هذه القرارات بأنها محاولات لارضاء الحكومات الأوروبية وجذب انتباهم نحو هذا الجزء من العالم.
ما سر موقف كوسوفو المريح من الدين؟
يعتبر البعض أن الإسلام “الأكثر ليبرالية” في العالم موجود في كوسوفو، فهناك حرية تامة لشرب الكحول والاختلاط بين الجنسين حتى في المناطق الريفية، وباستثناء المساجد والمآذن فمن الصعب التعرف على التوجه الديني لسكان هذا البلد ذات الأغلبية المسلمة.
يقول شهابير حميتي لموقع بلقان انسايت، أستاذ في قسم الدراسات الإسلامية بجامعة بريشتينا في العاصمة الكوسوفية: “هنا الناس مسلمون، لكنهم يفكرون مثل الأوروبيين”، كما يعتبر السكان الدين مسألة خاصة وليست شأن عام، والسبب في موقف كوسوفو المريح تجاه الدين يكمن في تاريخها، فالألبان وتحديدًا الموجودين في كوسوفو -الذين هم أحفاد الإليربيين القدماء- كانوا مسيحيين ومرتبطين بأوروبا ثقافيًا واجتماعيًا.
والجانب المثير للغرابة هو عودة البعض إلى المسيحية، لعدم إندماجهم مع الدين الإسلامي حسب توجهاتهم أو بسبب رفضهم للانضمام إلى قائمة الملحدين، وضياعهم بين تاريخهم وحاضرهم الديني وتمسكهم بالقيم العلمانية.
وبعد أن نجحت هذه المجتمعات بالتخلص من ذكريات الماضي المليئة بالمجازر والتصفيات العرقية والهجرات القسرية، تقف اليوم من جديد أمام التكيف مع المعايير الأوروبية حول الإسلام والتعايش مع القوانين الدستورية العلمانية والخلفية الإسلامية بطابع خاص بهم.