منذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، تعرضت البلاد لتغييرات كبيرة سياسية واجتماعية واقتصادية، ويتجلى ذلك في الوضع الذي وصلت إليه البلاد بعد 21 عامًا من الغزو الذي كانت تدّعي الولايات المتحدة أنه سينقل العراق إلى دولة مستقرة ومزدهرة.
شهد العقدان الماضيان تحولًا كبيرًا في الوضع السياسي للبلاد، إذ ووفق الدستور المُقرّ عام 2005، تحول نظام الحكم في البلاد من رئاسي إلى برلماني، يكون الحُكم فيه عبر رئيس مجلس الوزراء، مع وجود مجلس نواب، ورئيس جمهورية يكون منصبه فخريًّا لا يتعدى التصديق على القوانين والبروتوكولات الدبلوماسية.
بدء مرحلة الإقصاء
بدأ مسلسل إقصاء مكونات الشعب العراقي مبكرًا بُعيد الغزو الأمريكي، إذ ثبّت رئيس مجلس الحكم الأمريكي، بول بريمر، مبدأ المحاصصة الطائفية، وذلك عبر مجلس الحكم الذي كانت الغالبية العظمي فيه للشيعة وبمقدار النصف ثم السنّة والأكراد.
وما يؤكد مضيّ القوى الشيعية منذ الغزو لتكريس الحكم الطائفي في البلاد إقرارهم للدستور عام 2005 وما تضمّنه من بنود عديدة ومواد غامضة، رغم إقرار الدستور بأن العراقيين متساوون في الحقوق والواجبات.
يقول الباحث القانوني دريد مصطفى إن الدستور العراقي أوضح صراحة إمكانية تشكيل أقاليم جديدة إضافة إلى إقليم كردستان، ووضع لذلك شروطًا، إذ ينص الدستور على “الحق في تشكيل الأقاليم اعتمادًا على المادة 119، ويحق لكل محافظة أو أكثر تكوين إقليم بناء على طلب بالاستفتاء عليه، يقدم بإحدى طريقتين، أولًا: طلب من ثلث الأعضاء في كل مجلس من مجالس المحافظات التي تروم تكوين الإقليم، ثانيًا: طلب من عُشر الناخبين في كل محافظة من المحافظات التي تروم تكوين الإقليم”.
ويضيف مصطفى في حديثه لـ”نون بوست” أنه ومنذ تشكيل مجالس المحافظات، عملت الأحزاب الشيعية على عدم إمكانية هذه المجالس في تشكيل المحافظات، لا سيما في المحافظات السنّية مثل نينوى وصلاح الدين وديالى وكركوك، إذ إن الوضع الأمني المنفلت الذي كانت تشهده تلك المناطق، إضافة إلى شراء ذمم الكثير من أعضاء مجالس المحافظات في هذه المحافظات، جعل من الاستحالة بمكان إمكانية تكوين أقاليم جديدة.
ورغم أن العراق خرج بعد عام 2017 من الجو الطائفي المشحون سياسيًّا مع استعادة جميع المدن من سيطرة تنظيم “داعش”، بيد أن التغول الشيعي في المناطق السنّية لم ينتهِ، ويرى مراقبون أنه بدأ مرحلة جديدة تعتمد التغول السياسي واعتماد مبدأ القوى الناعمة والخشنة في آن معًا.
في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، حكمت المحكمة الاتحادية العليا بإنهاء عضوية رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي من منصبه، بتهم صادقت عليها المحكمة بعد رفع النائب ليث الدليمي دعوى قضائية اتُّهم فيها الحلبوسي بالتزوير.
وفي هذا الصدد، يقول الباحث السياسي رياض العلي إن قرار المحكمة الاتحادية بإنهاء عضوية الحلبوسي يعدّ سياسيًّا بامتياز، وينطلق من مبدأ عدم سماح الكتل السياسية الشيعية ومَن خلفها لأي رمز سنّي بالاستمرار في منصبه وامتلاكه زمام المبادرة والقيادة في المناطق السنّية.
ويستشهد العلي في حديثه لـ”نون بوست” بما حصل خلال العقدَين الماضيَين، ابتداء من إقصاء نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي بتهم الإرهاب، وكذلك النائب البرلماني أحمد العلواني من محافظة الأنبار، ثم وزير المالية رافع العيساوي، وقبلها رئيس جبهة التوافق الراحل عدنان الدليمي.
ويتابع العلي حديثه ليشير إلى إقصاء محافظ نينوى الأسبق أثيل النجيفي، واتهامه والحكم عليه بعد معارضته سياسات رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي.
وقد لا تكون حلقة محمد الحلبوسي الأخيرة في مسيرة الكتل السياسية الشيعية ومَن خلفها في محاولة إزاحة أي رمز سنّي، وعدم إتاحة أي فرصة لأي شخصية سياسية سنّية في إثبات وجودها، سواء رضي الشارع السنّي بها أم لا، وفق العلي.
ومع انتخابات مجالس المحافظات الأخيرة التي جرت في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، فوجئ سكان المحافظات السنّية بتغول الأحزاب الشيعية التابعة للإطار التنسيقي داخل مجالس المحافظات هذه، إذ إن محافظة نينوى التي تعدّ ذات غالبية سنّية مطلقة والتي يتكون مجلس محافظتها من 29 عضوًا، يحظى الإطار التنسيقي بمجموع 14 مقعدًا، في الوقت الذي استطاع فيه الإطار الشيعي شراء ذمم غالبية أعضاء المجلس، فـ 3 أعضاء فقط في مجلس محافظة نينوى هم من الشيعة، في حين أن 11 عضوًا في الإطار الشيعي في مجلس محافظة نينوى هم سنّة تابعون للإطار.
ويؤكد هذه المعلومات مصدر صحفي في مدينة الموصل، إذ يقول في حديثه لـ”نون بوست” إن الإطار التنسيقي استطاع شراء ذمم الكثير من أعضاء مجلس محافظة نينوى ليتحولوا بولائهم للإطار الشيعي، رغم أن الإطار لم يحقق أكثر من 7 أعضاء بعد إعلان نتائج انتخابات مجالس المحافظات.
ويضيف الصحفي -الذي طلب إخفاء اسمه لحساسية الموضوع- أنه من المتوقع أن يصل أعداد أعضاء الإطار التنسيقي خلال الأشهر القادمة لـ 16 عضوًا من مجموع 29، في ظل محاولات جادّة وحثيثة لشراء ذمم بقية الأعضاء، بحسب قوله.
ليست محافظة نينوى فحسب، إذ شهدت محافظة صلاح الدين السيناريو ذاته وأكثر، مع وجود أقضية ونواحٍ ذات كثافة سكانية شيعية، وهو ما ينطبق على محافظة ديالى التي عملت الميليشيات المسلحة خلال العقدَين الماضيَين على إفراغ العديد من مناطقها من السنّة، وهو ما حدث في العديد من المناطق الأخرى في محافظات بابل وبغداد والأنبار وكركوك.
تغول أمني واقتصادي
ولا يقف التغول الشيعي في المناطق السنّية على الجانب السياسي، بل يمتد إلى الجانب الاقتصادي كذلك، وذلك عبر المكاتب الاقتصادية ومكاتب الحشد الشعبي، إذ يكشف مصدر مطّلع في محافظة نينوى لـ”نون بوست” أن المكاتب الاقتصادية التابعة للميليشيات في محافظة نينوى تسيطر على الملف الاقتصادي في المحافظة.
وأوضح أن ذلك يتم عبر السيطرة على دوائر المشاريع والشركات التابعة لها، فضلًا عن سيطرة هذه المكاتب على مقالع الحصى والرمل والمواد الإنشائية، والإتاوات التي تفرَض على المشاريع غير المحالة لهم.
وكانت العديد من المنظمات الدولية قد أشارت بوضوح إلى سيطرة الميليشيات على المقدرات الاقتصادية والمادية للمناطق السنّية التي منع أهلها من العودة إليها منذ عام 2014، مثل منطقة جرف الصخر بمحافظة بابل، والعويسات في الأنبار، وعزيز بلد ويثرب والعوجة بمحافظة صلاح الدين.
ولم يقف التمحور الشيعي عند هذا الحد، بحسب الخبير والباحث السياسي والأمني حسن العبيدي، إذ يؤكد أن العقدَين الماضيَين أثبتا أن الأحزاب الشيعية دائمًا ما تلجأ لتأجيج الطائفية بين مكونات الشعب العراقي كلما ضاق بها الوضع السياسي والاقتصادي، وأن هذه الاستراتيجية ليست حكرًا على جهة شيعية واحدة، إذ إن حزب الدعوة وتيار الحكمة والمجلس الأعلى وبدر والعصائب والتيار الصدري كلها لها دور في ذلك.
وفي حديثه لـ”نون بوست”، يؤكد العبيدي أن اللجوء الأخير لمهاجمة الخلفاء الراشدين، ومحاولة هذه الأحزاب إقرار عيد الغدير الذي يطعن بخلافة الخلفاء الراشدين، ما هي إلا حلقة في سلسلة مستمرة منذ الغزو الأمريكي.
في السياق، يتساءل الصحفي العراقي عمر الجنابي في تغريدة له على منصة إكس عمّا تريده الأحزاب الشيعية هذه المرة من مهاجمة الخلفاء الراشدين، ويقول: “منذ عدة أيام يهاجم نواب حركة عصائب أهل الحق المنضوية في الحشد الشعبي وتحالف الإطار التنسيقي الحاكم، الخلفاء الراشدين وصحابة رسول الله، ثم تطور الأمر إلى الطعن بأعراض سنّة العراق، بالإضافة إلى تجيير قناة “العهد” التابعة للحركة لذات الأمر”.
ويتابع الجنابي في منشوره: “يبدو أن قيس الخزعلي وجّه نوابه والإعلام التابع له نحو الفجور بالعداء للمسلمين السنّة في العراق، بعد أن تبنى مقتدى الصدر إقرار يوم الغدير عيدًا رسميًّا في البلاد، بالرغم من عدم وجوده بمعتقدات المسلمين السنّة، لأنه يتحدث عن تنصيب علي بن أبي طالب خليفة للمسلمين وعدم شرعية خلافة أبو بكر الصديق ومن بعده من الخلفاء الراشدين”.
مبيّنًا أن الخطير في الأمر يتمثل بأن هذا التصعيد في الخطاب الطائفي لم يأتِ من فراغ كما العادة، حيث اعتاد أهل العراق بعد عام 2003 على أن تصعيد الخطاب الطائفي من قبل الجهات السياسية المتنفذة، يأتي بقرار وتوجيه دوليَّين وإقليميَّين ويتحمل الشعب تداعياته الخطيرة، وفق الجنابي.
منذ عدة أيام يهاجم نواب حركة عصائب أهل الحق المنضوية في الحشد الشعبي وتحالف الإطار التنسيقي الحاكم، الخلفاء الراشدين وصحابة رسول الله، ثم تطور الأمر إلى الطعن بأعراض سنة العراق، بالإضافة إلى تجيير قناة العهد التابعة للحركة لذات الأمر
يبدو أن قيس الخزعلي وجه نوابه والإعلام التابع…
— عمر الجنابي (@omartvsd) May 14, 2024
إقصاء الأكراد
قد لا يكون إقصاء الأكراد مماثلًا لما حدث مع أقرانهم السنّة، بيد أن ما جرى خلال الأشهر الماضية كشف بما لا يدع مجالًا للشك أن دورهم في الإقصاء قد حان، لا سيما مع كمّ المشكلات التي تشهدها العلاقة بين بغداد وأربيل.
فمشكلة الأكراد مع بغداد بدأت بفعل الإطار الشيعي عبر تعميق الخلاف البيني بين الحزبَين الرئيسيَّين في الإقليم، حزب الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني، وما تسبّب به من خلافات كبيرة وتأثيرات بالغة على الإقليم.
يقول الباحث السياسي الكردي كوران عمر، إن الإطار الشيعي ومنذ تحرير المناطق العراقية من سيطرة تنظيم “داعش” بدأ سلسلة ممنهجة لتقليص نفوذ الإقليم وتقزيم إنجازاته الداخلية، فضلًا عن محاولات مستمرة للنيل منه عبر خنقه اقتصاديًّا وسياسيًّا.
ويضيف عمر في حديثه لـ”نون بوست” إن الهجمات التي نفّذتها الميليشيات الشيعية ضد أهداف في إقليم كردستان كان الهدف منها تقويض استقرار الإقليم وتعظيم الخلافات بين حزبَيه الرئيسيَّين، فضلًا عن خنقه اقتصاديًّا من خلال الاستهداف المتكرر لحقل كورمور الغازي العملاق بأوامر من جهات خارجية، لا سيما أن هذا الحقل وباحتياطاته الهائلة يمكن أن يكون جزءًا من البديل عن الغاز الروسي الذي فقدته أوروبا بسبب الحرب الروسية الأوكرانية.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بحسب عمر، إذ إن سيف المحكمة الاتحادية المسلَّط على رقاب العراقيين لعب دورًا كبيرًا في محاصرة الإقليم، وذلك عبر القرارات التي اتخذتها المحكمة فيما يتعلق بانتخابات الإقليم التشريعية، وإبطال حصص مكونات الإقليم في الانتخابات بما يعرَف بـ”الكوتا”.
ولا يخفي عمر استغلال الإطار الشيعي للخلافات الكردية الداخلية، وما نجم عنه الصراع الحادّ بين الحزبَين الرئيسيَّين الذي نجحت فيه كتل الإطار التنسيقي في استثماره على أفضل ما يكون، مشيرًا إلى أن على الأكراد تعلُّم الدرس جيدًا ممّا حدث مع السنّة، وأنه إن نجح الإطار الشيعي في تعميق الخلافات بين الحزبَين، فإن الإطار سيعمل مستقبلًا على تمزيق كل حزب على حدى، بحسب قوله.
على خطى ولاية الفقيه
تتبنى الكتل السياسية الشيعية في العراق منهج ولاية الفقيه، في محاولة استنساخ تجربة إيران في تأسيس دولة بوليسية دينية لها اليد الطولى على كافة فئات الشعب، سنّة كانوا أو شيعة أو أكرادًا.
وبالعودة إلى الباحث السياسي رياض العلي، فهو يرى أن الإطار الشيعي يسير وفق منهجية مدروسة بعناية، وذلك من خلال ما يُقرّ بالبرلمان ومؤسسات الدولة، مشيرًا إلى إقرار البرلمان مؤخرًا قانون الخدمة والتقاعد للحشد الشعبي على غرار الحرس الثوري الإيراني.
ويتابع أن الإطار التنسيقي بات منخرطًا في استراتيجية مدروسة لتثبيت أذرعه الإعلامية والأكاديمية في الجامعات العراقية الرصينة، مثل تعيين عبد الأمير العبودي عميدًا لكلية الآداب في الجامعة المستنصرية، فضلًا عن تعيين حيدر البرزنجي أستاذًا جامعيًّا بالجامعة العراقية، رغم أن مؤهّلاته العلمية التي حصل عليها من دولة إقليمية يشوبها التزوير حاله حال العشرات غيره.
قوات الحشد الشعبي بات لها اليد العليا في المؤسسة العسكرية العراقية، لا سيما مع ما يُحكى يوميًّا إلى توسع كبير لدور قوات الحشد وتمويله الهائل على حساب المؤسسات العسكرية التابعة لوزارتَي الداخلية والدفاع، يقول العلي.