تعود شبكة “نيتفليكس” بإحدى مسلسلاتها الأصلية في الجزء الرابع من المسلسل الذي طالما أذهل المشاهدين بمدى قدرته على الوصول إلى أبعد مما استطاع المشاهدون تخيله عن المستقبل القريب، وحوله لهم إلى دراما تظهر في شكل خيال علمي، إلا أنها ليست كذلك، بل تجسيد لواقع سيعيشه البشر بعد بضع سنوات من الآن، ربما يكون هذا السر الذي استغله طاقم عمل مسلسل “بلاك ميرور” لجذب انتباه المتابعين، إلا أن الأمر كان مختلفًا بعض الشيء في الجزء الرابع من المسلسل.
لقد بدا الموسم الرابع من مسلسل “بلاك ميرور” أو “المرآة السوداء” محبطًا للبعض، حيث توقع الكثيرون المزيد من الحركة والدهشة والمزيد من الغموض والمخاوف من المستقبل في عصر التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، إلا أن المسلسل ارتقى إلى وتيرة أخرى في موسمه الرابع، ألا وهي التركيز الكامل على العلاقة بين البشر والآلة، وكيف يمكن للآلة أن تدفعه إلى فعل كل ما لم يكن يتخيله.
تدور حلقات الموسم الرابع من المسلسل عن كيفية محاولة هروب الإنسان من الآلة أو محاولة تمرده عليها أو تطويعه لها أو حتى مواكبة العيش معها أو تحت أوامرها، وكيف يمكن أن يتحول الإنسان إلى قاتل لمجرد خوفه من الآلة وما يمكنها أن تصنعه به، وهذا هو المستوى الآخر الذي ظهرت به حلقات المسلسل الأخيرة، حيث تبدو الحياة طبيعية جدًا، تشبه كثيرًا الحياة التي نعيشها الآن، ولكن مع وجود الآلة في جوانب مختلفة من الحياة، بداية من الشرائح المزروعة داخل الأدمغة إلى الروبوتات.
القرب من الواقع ولكن في حلة مستقبلية
لم تكن حلقات هذا الموسم بعيدة تمامًا عن الواقع الحاليّ، بل تم بناء نصوصها على أساس حقائق علمية تم التوصل إليها حديثًا، واعتمدت بعض الأحداث على قصص حقيقية بالفعل ولكن مع بعض التطوير التقني، حيث نرى في أول حلقة تجربة لألعاب الفيديو في أكثر أشكالها المتطورة، حيث يقوم “روربت دايلى” اللاعب الرئيسي بإدخال أشخاص إلى تجربته في اللعبة من خلال أخذ عينة من حمضهم النووي وتنصيب خصائصهم ليكونوا جزءًا من لعبته التي تتخذ من الفضاء مكانًا لها.
إن كان يبدو البطل في هذه الحلقة مألوفًا لك فهذا ليس غريبًا، فالبطل يشبه إلى حد كبير الممثل الأمريكي “مات ديمون” الذي يكون في نفس الوقت مؤسس لعبة معتمدة على الواقع الافتراضي تتيح للاعب فرصة الذهاب في رحلة للهبوط على المريخ في تجربة تحاكي فيلم الممثل نفسه “المريخي” أو (The Martian)، في تلك اللعبة يجد بطل الحلقة السعادة وتحقيق الذات الذي لا يجده في حياته الواقعية، فشريكه في العمل يعامله باحتقار وزملاؤه لا يلحظون وجوده، فيحول كل منهم إلى لاعب تحت إمرته في واقعه الافتراضي.
ماذا لو راقبت أبناءك وأنت داخل رؤوسهم؟
اعتمد المسلسل في أكثر من حلقة على فكرة استغلال قدرات العقل البشري الكاملة، حيث لا يستخدم البشر في حياتهم اليومية العادية إلا جزء ضئيل من قدراتهم الدماغية، فماذا لو استخدموا الجزء المتبقي؟ كانت تلك النظرية العلمية التي بنى عليها المسلسل بضعة حلقات اعتمدت على زرع شريحة داخل الدماغ تُمكن الإنسان من الوصول لكل وظائف هذا الدماغ بعينه، فيرى ما يرى، ويتذكر كل ما حُفظ في ذكرياته ويستطيع من خلالها معرفة مشاعره الداخلية دون أن يظهرها جسده الخارجي، حيث كانت التكنولوجية الطبية مرتكزًا اعتمدت عليه أفكار العديد من الحلقات من بينها مراقبة الأبناء من داخل رؤوسهم.
أشارت تلك الحلقة بشدة إلى تأثير التكنولوجيا الحديثة على العلاقات الإنسانية، وبالأخص بين الآباء والأبناء، فهناك أم تربي ابنتها وحيدة، عاشت ذكرى أليمة حينما ضاعت طفلتها منها لبضعة ساعات، قررت بعدها أن تستخدم ما يقدمه لها المستقبل من حلول لكي تستطيع مراقبة ابنتها بشكل أفضل، حيث يكون شعار الحلقة هو “التحكم مفتاح التربية الصالحة”.
اعتمد المسلسل في أكثر من حلقة على فكرة استغلال قدرات العقل البشري الكاملة، حيث لا يستخدم البشر في حياتهم اليومية العادية إلا جزء ضئيل من قدراتهم الدماغية، فماذا لو استخدموا الجزء المتبقي؟
قدمت التكنولوجيا الطبية جهازًا يشبه في وظيفته جهاز التعقب، إلا أنه متقدم عن ذلك في كثير، فهو عبارة عن شريحة مزروعة في دماغ الشخص مرتبطة بجهاز يتحكم فيه الأهل، من خلاله يمكنهم تعقب موقع أولادهم أو يشاهدون ما يشاهده أبناؤهم، بل يمكنهم تنقية ما يشاهده أبناؤهم على أرض الواقع وتشويش الصورة من خلال ذلك الجهاز، اختارت الأم في حلقة المسلسل أن تخفي صور الدماء وصوت الشتائم أمام ابنتها، لكي تنضج الطفلة ولم تر في حياتها مشاهد عنف ولم تختبر شعور الخوف في حياتها، لتتعقد الأمور أكثر من ذلك حينما تصبح فتاة يافعة مراقبة من والدتها من داخل رأسها.
التكنولوجيا القاتلة والحامية
إعلان حلقة التمساح
ما بين جهاز يستطيع رؤية ذكريات المرء بجهاز يتصل بدماغه ويتصل بشاشة تعرض عليها ذكريات المرء، وروبوت يعمل عمل الشرطة، كان هناك حلقتان أثارتا العديد من التساؤلات عن مدى تحكم التكنولوجيا في حياة البشر ومدى سيطرتها على العديد من المجالات لينقرض وجود البشر فيها.
تثير الحلقة تساؤلات كثيرة عن الخط الفاصل بين العدالة ومجرياتها وخصوصية البشر
استخدمت الشرطة وشركات التأمين في حلقة من الحلقتين بعنوان “التمساح” جهازًا يستطيع رؤية ذكريات المرء بشكل واضح على شاشة صغيرة، وهو ما يكون دليل إدانة شديد الوضوح لكل المجرمين من خلال اقتحام أدمغتهم أو أدمغة أي من الشهود لمعرفة تفاصيل أكثر وضوحًا وأكثر تأكيدًا عن الجرائم.
تثير الحلقة تساؤلات كثيرة عن الخط الفاصل بين العدالة ومجرياتها وخصوصية البشر، حيث صورت الحلقة هنا صورة ديموقراطية للدولة المراقبة للمواطنين في صورة درامية، لم تجب الحلقة عن هذا السؤال، وربما إن شاهدتها ستجد أنك ستشجع هذا الجهاز الذي يكشف الأحداث الأخيرة التي تسبق العمليات الإجرامية، أو القتل في حالة تلك الحلقة، ولكن طابع الحلقة متشائم للغاية، وهذا يوحي أن اقتحام أدمغة البشر بشكل عام وليس المجرمين منهم فقط ينذر بخطر قادم.
إذا أردت مشاهدة حلقة تجمع لك مخاطر التكنولوجيا جسديًا وأخلاقيًا وماليًا في مشاهد مختلفة، فنهاية الموسم الرابع من المسلسل تبدو الخيار الأفضل
في الحلقة الأخرى، وهي بعنوان “الدماغ المعدني” نجد أن الروبوتات تحل محل الشرطة كليًا، في واحدة من الحلقات التي فضل طاقم العمل أن تكون باللون الأبيض والأسود ربما لإضافة مزيد من الغموض بشأن مستقبل البشر غير المُبشر من وجهة نظر المسلسل تحت رحمة الآلة، حيث تكون تلك الحلقة بحسب رأي النقاد أكثر حلقات المسلسل كله إثارة للجدل والخلاف.
هذه الحلقة عبارة عن 28 دقيقة كاملة من التوتر من خلال هروب بطلة الحلقة الرئيسية من روبوت حراسة على هيئة كلب، حيث يعتمد طراز مسلسل “بلاك ميرور” على جذب انتباه المشاهد نصف الوقت على أن يأمل الأخير أن شيئًا ما سيحدث ويغير مجريات الأحداث، وهو ما لا يعطيه المسلسل للمشاهد فيتركه في غموض زيادة على غموضه الأساسي عما ستقدمه التكنولوجيا له في المستقبل.
فهذه الحلقة تشبه في أحداثها هروب البشر من الزومبي في أفلام الرعب المعتادة، إلا أن الزومي هنا كان روبوت حراسة منيع، والضحية لا تملك أي أمل في الهروب أو في هزيمة التكنولوجيا، حتى ولو حطمت الروبوت بشكل نهائي، فإن الآلة لها الكلمة الأخيرة.
إعلان حلقة الدماغ المعدني
إذا أردت مشاهدة حلقة تجمع لك مخاطر التكنولوجيا جسديًا وأخلاقيًا وماليًا في مشاهد مختلفة، فنهاية الموسم الرابع من المسلسل تبدو الخيار الأفضل، حيث جمع لك المسلسل 6 قصص مرعبة للتكنولوجيا الطبية التي تثير العديد من التساؤلات على المستوى المهني والأخلاقي في عدم احترام التكنولوجيا خصوصية البشر ولا حرمة أجسادهم والتلاعب بها من أجل أبحاث خاصة بمستقبل التكنولوجيا الطبية، لم تجر الأبحاث على ما يرام، بل تحولت إلى كارثة.
في حلقة المتحف الأسود يدفع طاقم عمل المسلسل حدود عدم الارتياح لدى المشاهدين إلى أقصى حد، من خلال 6 قصص مرعبة عن تأثير خطر التكنولوجيا الطبية على البشر بشكل تدريجي من خلال أبحاث بطل الحلقة الرئيسي التي تبدو شديدة الرعب مسببة عدم ارتياح مستمر لدى المشاهد واشمئزاز من تطور التكنولوجيا الطبية التي جعلت من البشر فئران تجارب مقابل تلقي علاج مجاني في المستشفيات.
على الرغم من أن الموسم الرابع من المسلسل نال العديد من الانتقادات بعضها وصفته بأنه محبط للغاية مقارنة بالمواسم الأخرى، فالبعض الآخر وصفه بأنه عبقري وذلك لأنه أبرز الوجه الأسود من الإنسانية من خلال مشاكل عرقية وعنصرية مع تركيزه على المهاجرين وقضية الأفارقة الأمريكان من خلال جوانب طفيفة في حلقاته، ومن خلال اللاأخلاقية المثارة بشكل واضح في كثير من جوانب المسلسل وعدم وضع الحدود بين احترام الخصوصية البشرية والحرية الشخصية في وجود هيمنة الآلة التي دمج المسلسل الجانب الأسود منها مع الجانب الأسود من الإنسان، ليقدم لكم “مرآة سوداء” للمستقبل ولكن في صورة درامية.