“لقد أمرت بفرض حصار كامل على قطاع غزة. لن يكون هناك كهرباء ولا طعام ولا وقود، كل شيء مغلق، نحن نحارب حيوانات بشرية، ونتصرف وفقًا لذلك”. يشكّل هذا التصريح الذي أدلى به وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، بعد يومين فقط من بداية طوفان الأقصى، جزءًا من وثيقة مؤلفة من 84 صفحة قدمتها جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية، تتهم فيها “إسرائيل” بانتهاك اتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية من خلال ارتكاب أعمال إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني.
تعدّ هذه القضية واحدة من قضايا إبادة جماعية معدودة ينظر فيها هذا الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة، الذي أخفق إلى حدّ بعيد في تحقيق أهداف اتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، والوفاء بالوعود التي قطعتها بـ”تحرير الإنسانية من هذه الآفة الشنيعة”.
في هذا التقرير، نلقي نظرة على هذه القضايا التاريخية لمعرفة السبب وراء صعوبة إثبات جريمة الإبادة الجماعية مقارنة بالجرائم الأخرى، وتأثير ذلك على قضية جنوب أفريقيا ضد “إسرائيل” والقضايا المستقبلية، لكن قبل أن نبدأ علينا أن نعرف ما هي بالضبط الإبادة الجماعية في نظر القانون الدولي؟ ومتى تشكّل عمليات القتل على نطاق واسع “إبادة جماعية”؟ وكيف يمكن إثباتها في حالة “إسرائيل”؟ ولماذا تبقى المعاقبة عليها مهمة صعبة؟
مفارقات الإبادة الجماعية
الإبادة الجماعية هي مصطلح يستخدم لوصف ارتكاب أفعال معيّنة على نطاق موسع، يتم تنفيذها بقصد القضاء المتعمد والمنظَّم أو القتل الجماعي لمجموعة عرقية أو قومية أو عنصرية أو دينية معينة، ويمكن تنفيذها من خلال القتل الجماعي والتهجير القسري والتعذيب والعنف الجنسي وأشكال أخرى من الاضطهاد، ويعدّ ذلك من أشد الجرائم ضد الإنسانية.
يحمل تاريخ هذا المصطلح الكثير من المفارقات، فقد كان رجل القانون اليهودي البولندي رفائيل ليمكين، أول من ابتكره في كتاب نشره عام 1944 بعنوان “حكم المحور في أوروبا المحتلة”، واستخدم فيه مصطلح Genocide لأول مرة. صاغ ليمكين المصطلح أصلًا في عام 1942، ودمج فيه بين اللفظة اليونانية “جينو (geno)”، والتي تعني العرق أو القبيلة، واللفظة اللاتينية “سايد (cide)”، والتي تعني القتل.
دولة الاحتلال التي وُلدت في أعقاب ابتداع توصيف للسياسات النازية بمصطلح “إبادة جماعية”، هي نفسها ترتكب منذ 76 عامًا جرائم بحق الفلسطينيين
فقدَ ليمكين الكثير من أفراد عائلته في المحرقة أو الهولوكوست، التي قُتل فيها نحو 6 ملايين يهودي ومليونا بولندي ونحو 400 ألف من غير المرغوب فيهم في نظر الزعيم النازي أدولف هتلر، لذلك ابتدع هذا المصطلح جزئيًا ردًّا على السياسات النازية.
وفي وقت لاحق، مارسَ ليمكين ضغوطًا على الأمم المتحدة المشكَّلة حديثًا، وقاد حملة للاعتراف بالإبادة الجماعية وتصنيفها كجريمة دولية، وسعى لإدراج المصطلح في لوائح الاتهام الخاصة بمحاكمات نورنبيرغ التي تناولت ما حدث في الهولوكوست، ونجح ليمكين في مسعاه، واكتسب المصطلح الجديد “الإبادة الجماعية” زخمًا كبيرًا.
وفي أعقاب محاكمات نورنبيرغ العسكرية التي عقدتها قوات الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية، وحوكم فيها أكبر القادة المتورطين في الهولوكوست، اعترفت الجمعية العامة للأمم المتحدة لأول مرة في عام 1946 بأن الإبادة الجماعية جريمة بموجب القانون الدولي، فيما يُعرف بنظام روما الأساسي.
في نهاية المطاف، تمّت الموافقة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وتحديدًا في 9 ديسمبر/ كانون الأول 1948، على تدوين الإبادة الجماعية كجريمة مستقلة في اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، لتصبح أول معاهدة لحقوق الإنسان تعتمدها الجمعية العامة للأمم المتحدة.
ومن المفارقات أن العام الذي تم فيه إقرار الاتفاقية، هو العام نفسه الذي وقعت فيه النكبة وبدأت “إسرائيل” الإبادة الجماعية والتطهير العرقي للفلسطينيين، من دون عقاب أو مساءلة عن أفعالهم، رغم أن “إسرائيل” صادقت على الاتفاقية ضمن 153 دولة أخرى في العالم، في حين لم تصدق 41 دولة عضو في الأمم المتحدة على الاتفاقية أو تنضم إليها بعد، ومن بين هذه الدول 18 دولة من أفريقيا، و17 من آسيا، و6 دول من الأمريكتَين.
ومن المثير للجدل أن دولة الاحتلال التي وُلدت في أعقاب ابتداع توصيف للسياسات النازية بمصطلح “إبادة جماعية”، هي نفسها ترتكب منذ 76 عامًا جرائم بحق الفلسطينيين ينطبق على الكثير منها تعريف الإبادة الجماعية، بل حتى قبل ذلك عملت العصابات الصهيونية على إبادة وتهجير قرى وبلدات فلسطينية كاملة، واستبدلتهم بمستوطنين يهود من جميع أنحاء العالم، بعدما كانت فلسطين موطنًا لمجتمع عربي متعدد الأعراق والثقافات.
جريمة يصعب إثباتها
وفقًا للقانون الدولي، تقتصر جرائم الحرب على النزاعات المسلحة، وتتضمن القتل العمد واتخاذ الرهائن أو إيقاع الإصابات، في حين تعتبر الإبادة الجماعية من أخطر جرائم الحرب، حيث يمكن لممارساتها أن تحدث في أوقات السلم، وتشمل جرائم القتل والاسترقاق بأعداد ضخمة في فترة زمنية وجيزة، فضلًا عن الاضطهاد بسبب الجنس أو الإثنية أو الدين.
وتؤكد الأطراف الموقّعة على الاتفاقية أن الإبادة الجماعية، سواء اُرتكبت في وقت السلم أو الحرب، هي جريمة بموجب القانون الدولي، وتتعهّد بمنعها والمعاقبة عليها، ومع ذلك يجب إثبات أنها اُرتكبت بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لفئة بعينها.
النية المطلوبة من الإبادة الجماعية هي القضاء على أو تقليص عدد سكان المجموعة المستهدفة بشكل كبير بناءً على جماعتهم العرقية أو الدينية أو القومية، وهذه النية هي التي تميز الإبادة الجماعية عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وبالتالي تجعل من الصعب إثباتها.
لكن لكي تتم إدانة المتهم بارتكاب الإبادة، سواء كان فردًا أو دولة، لا يكفي فقط الإعلان عن النية، بل يجب أن يتبعها عدد من الأفعال الإجرامية على نطاق واسع، وتشمل -وفقًا للمادة الثانية من اتفاقية الإبادة الجماعية- قتل عدد كبير من أفراد مجموعة ما، أو إلحاق أذى جسدي أو نفسي خطير بهم، وإخضاع الجماعة عمدًا لظروف معيشية يُراد بها تدميرها المادي كليًا أو جزئيًا، وخلق ظروف مصمَّمة لتدميرهم، وفرض تدابير تستهدف عدم إنجاب الأطفال داخل الجماعة، ونقل الأطفال من الجماعة قسرًا إلى جماعة أو مكان آخر.
من الصعب إثبات نية ارتكاب الإبادة الجماعية لعدم وجود أدلة مباشرة أو اعتراف مباشر من مرتكبي الجريمة في المحكمة
هذا التعريف القانوني للإبادة الجماعية يرى الخبراء أنه يعيق تطبيق الاتفاقية لأن مهمة إثبات نية الإبادة الجماعية صعبة للغاية، وتتطلب إثبات أن مرتكب الجريمة لم يرتكب الأفعال فحسب، بل ارتكبها بنية محددة للغاية تتمثل في تدمير الجماعة، ويمكن أن يكون هذا عائقًا كبيرًا لأن الناس في كثير من الأحيان يساهمون في سياسات الإبادة الجماعية، حتى لو لم تكن هذه نيتهم المباشرة.
ومع ذلك، يعرِّف العديد من علماء الاجتماع الإبادة الجماعية بطريقة تتجاوز التعريف القانوني الحالي الذي يحدد مجموعة ضيقة جدًا من فئات الضحايا: العرقية والعنصرية والقومية والدينية، لكنه لا يأخذ في الاعتبار الأشخاص المستهدفين بسبب وضعهم الاجتماعي والاقتصادي أو هويتهم السياسية أو غير ذلك.
ويرى النقّاد أن هذا المبدأ القانوني الحاكم لعملية الإبادة الجماعية شديد التحديد، حتى أنه لا يكاد ينطبق على عمليات القتل الجماعي الضخمة المرتكبة بحقّ مجموعة من الناس، وبحسب الأمم المتحدة فإن “النية هي العنصر الأكثر صعوبة في تحديد جريمة الإبادة الجماعية، لا يكفي التدمير الثقافي، ولا مجرد نية تفريق مجموعة ما لإثباتها، وهذه النية الخاصة هي التي تجعل جريمة الإبادة الجماعية فريدة من نوعها”.
ووفقًا لأستاذ القانون الدولي في جامعة ميدلسكس لندن، ويليام شاباس، فإنه من الصعب إثبات نية ارتكاب الإبادة الجماعية لعدم وجود أدلة مباشرة أو اعتراف مباشر من مرتكبي الجريمة في المحكمة، ومن هنا يتعيّن على المحاكم أن تستنتج النية من سلوك المشتبه في ارتكابهم الجرائم والاعتماد على الأدلة الظرفية، كما أن تلك المحاكمات تستغرق سنوات وسنوات قد تستمر فيها عمليات القتل الواسع أكثر وأكثر.
وذكرت محكمة العدل الدولية أن الاتفاقية تجسّد المبادئ التي تشكّل جزءًا من القانون الدولي العرفي العام، وهذا يعني أنه سواء صدَّقت الدول على اتفاقية الإبادة الجماعية أم لا، فإنها جميعها ملزمة من الناحية القانونية ولا يمكن الطعن فيها، بمبدأ أن الإبادة الجماعية جريمة محظورة بموجب القانون الدولي.
ومع ذلك، لا تمتلك المحكمة التي تبتّ في النزاعات أي سلطة لتنفيذها، وفي بعض الأحيان يتم تجاهل أحكامها، فقد ألمح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، قبل إصدار محكمة العدل قرار حكمها في قضية جنوب أفريقيا، إلى عدم شعوره بالإلزام بأي قرار يصدر عن المحكمة العليا في الأمم المتحدة، وقال في منتصف يناير/ كانون الثاني الماضي: “لن يوقفنا أحد، لا لاهاي، ولا محور الشر، ولا أي أحد آخر”.
تاريخ من الإفلات من العقاب
في السنوات التي تلت اعتماد اتفاقية منع الإبادة الجماعية، المكونة من 19 مادة، والتي تشير إلى التزام المجتمع الدولي بعدم تكرار فظائع الإبادة الجماعية أبدًا، شهد العالم تزايدًا في حوادث الإبادة الجماعية، وهو النمط الذي يستمر في القرن الواحد والعشرين مع اندلاع أعمال عنف يمكن القول إنها إبادة جماعية في دارفور عام 2003، وفي جمهورية أفريقيا الوسطى عام 2014.
أصدرت المحكمة الجنائية الدولية عشرات مذكرات الاعتقال بحقّ قادة سياسيين ورؤساء وزعماء حركات مسلحة من بينهم الرئيس السوادني المعزول عمر البشير، والرئيس الليبي الراحل معمر القذافي
ورغم أن العديد من الأمثلة قد تندرج تحت تعريف الأمم المتحدة للإبادة الجماعية، لكن القليل منها فقط أدَّى إلى محاكمات في محكمة دولية، إذ نظرت محكمة العدل الدولية في 4 قضايا تتعلق باتفاقية الإبادة الجماعية في تاريخها، ولم يتم الاعتراف قانونيًا سوى بجريمة إبادة جماعية واحدة منها.
حاكمت المحاكم الجنائية الدولية، وهي المسؤولة عن محاكمة الأفراد المتهمين بجرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، 3 حالات إبادة جماعية، واعترفت بها قانونًا، وحتى تلك الحالات كان من الصعب جدًّا إثباتها مع عدد محدود من الإدانات.
كان عبء النية المطلوبة التي تميز الإبادة الجماعية عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وبالتالي تجعل من الصعب إثباتها، يمثل تحديًا أمام المحاكم الدولية، إذ أدّى إلى تبرئة المتهمين بسبب الإجراءات القانونية أو التخلي تمامًا عن لوائح الاتهام بالإبادة الجماعية لصالح جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
وهناك أيضًا من اتُّهموا بارتكاب جرائم إبادة جماعية، لكنهم لم يقدَّموا للمحاكمة أبدًا بسبب الافتقار إلى التعاون السياسي، فقد سبق أن أصدرت المحكمة الجنائية الدولية عشرات مذكرات الاعتقال بحقّ قادة سياسيين ورؤساء وزعماء حركات مسلحة من بينهم الرئيس السوادني المعزول عمر البشير، الذي صدرت بحقه مذكرتا اعتقال عامي 2002 و2010، والرئيس الليبي الراحل معمر القذافي في يونيو/ حزيران عام 2011 بعد اندلاع الثورة ضده، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مارس/ آذار 2023 على خلفية حرب أوكرانيا.
قبل ذلك، كانت المحكمة الجنائية الدولية لرواندا أول محكمة دولية تصدر إدانة بالإبادة الجماعية في سبتمبر/ أيلول 1998، حين حكمت على جان كامباندا، بالسجن مدى الحياة، وهي المرة الأولى التي تتم فيها إدانة رئيس حكومة بهذه الجرائم، ووجّهت المحكمة اتهامات إلى 93 شخصًا، وأدانت وحكمت على 62 وبرّأت 14.
ومع ذلك، فإن هذا لا يمثل سوى عدد محدود مقارنة بالآلاف المتورطين في المذابح التي ارتكبتها قبيلة الهوتو التي تشكّل أغلبية السكان، ويشغل أبناؤها المناصب الحكومية وأعلى القيادات في الجيش ضد أقلية قبيلة التوتسي، والتي خلّفت 8 آلاف قتيل يوميًا، وقُتل ما بين 800 ألف إلى مليون شخص خلال 100 يوم، وكان هدفهم القضاء عليهم تمامًا ومسحهم من الوجود.
ومع إنهاء المحكمة الجنائية الدولية لرواندا عملها، أُحيلت قضايا المتهمين المتبقين إلى السلطات القضائية المحلية، في حين توفي المشتبه بهم الآخرون قبل عرضهم على القاضي، ولا يزال اثنان من الهاربين طلقاء، وهما تشارلز سيكوبوابو وتشارلز ريانديكايو.
وتتحدث تقارير عن ضلوع “إسرائيل” في جرائم الإبادة الجماعية في رواندا، حيث سعت للاستفادة من الانقسامات العرقية هناك من خلال تقديم أطنان من السلاح والذخائر لنظام لهوتو الحاكم، من بينها قنابل ورشاشات عوزي وذخائر سوفيتية الصنع استولت عليها “إسرائيل” من الجيوش العربية خلال حرب عام 1967.
إذ كشفت صحيفة “هاآرتس” الإسرائيلية أن هذه الذخائر نُقلت من ألبانيا إلى مطار جوما على الحدود بين الكونغو ورواندا بواسطة طائرات شحن بلغارية وأوكرانية، في رحلات سرّية بعد شهرَين من قرار الأمم المتحدة فرض حظر على تصدير السلاح إلى رواندا، ومع ذلك ترفض “إسرائيل” -التي تعد من أكبر مصدري السلاح إلى جهات عنصرية تنتهك حقوق الإنسان- الإفصاح عن دورها في الجرائم وعلاقتها بالنظام الذي نفّذها، رغم بروز مطالب بالتحقيق في تورطها بالإبادة في السنوات الأخيرة.
وفي كمبوديا، كانت القضية المرفوعة ضد نظام الخمير الحمر الوحشي، الذي حكم كمبوديا بين عامي 1975 و1979 تحت قيادة الديكتاتور بول بوت، والذي تسبّب في مقتل نحو مليوني كمبودي (ربع سكان كمبوديا)، أسوأ بكثير في محاولتها تحقيق العدالة للضحايا، إذ جاءت المحاكمة بعد سنوات من العرقلة من جانب رئيس الوزراء آنذاك هون سين، وهو قائد سابق للخمير الحمر، وحكمَ لمدة 40 عامًا حتى تنحّى عن منصبه، وسلّم السلطة إلى نجله الجنرال هون مانيه.
وشهدت كمبوديا واحدة من أطول المحاكمات في التاريخ، حيث استغرق الأمر 28 عامًا قبل توجيه الاتهام رسميًا لأي شخص، واستمرت الإجراءات 15 عامًا أخرى بتكلفة 330 مليون دولار، ولم تؤدِّ إلا إلى 3 إدانات، ولا تزال هناك شخصيات راسخة في السياسة الكمبودية اليوم ممّن شغلوا سابقًا مناصب نفوذ داخل الخمير الحمر، وتصالح كثير من قياداتهم مع الحكومة الكمبودية.
وكان أحد الأمثلة الواضحة على نية الإبادة الجماعية في حالة الجنرال الصربي راتكو ملاديتش، الذي اتُّهم بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية لأنه أمر بمذبحة راح ضحيتها أكثر من 8 آلاف شخص في مدينة سريبرينيتسا، وشنَّ حملة أوسع من التطهير العرقي في البلديات في جميع أنحاء البوسنة، أدّت الى نزوح 2.2 مليون شخص فترة 1992-1995.
لكن المحكمة أدانته بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية فقط في التهمة الأولى، حيث أثبتت مجموعة من أدلة الطب الشرعي وروايات شهود العيان حدوث عمليات إعدام ممنهجة في سريبرينيتسا، وتمّت تبرئته من التهمة الثانية على أساس وجود شك معقول في النية، وذكرت المحكمة أن “الجناة لم يكن لديهم النية المطلوبة لتدمير عدد كبير من المسلمين”.
معضلة إثبات الإبادة الجماعية في غزة
في 29 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، عرضت جنوب أفريقيا -لا أي من الدول العربية والإسلامية- قضيتها أمام محكمة العدل الدولية، متهمة “إسرائيل” بانتهاك اتفاقية منع الإبادة الجماعية، مشيرة إلى الوضع الحالي في قطاع غزة المحاصر الذي يسكنه 2.3 مليون فلسطيني، وذكرت أن “إسرائيل”، خاصة منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول، “فشلت في منع الإبادة الجماعية ومقاضاة التحريض المباشر والعلني عليها”.
وأكدت جنوب إفريقيا أن أفعال “إسرائيل” وأوجُه تقصيرها تحمل طابع إبادة لأنها مصحوبة بالنية المحددة لتدمير فلسطينيي غزة، وبذلك دعت كيب تاون إلى إصدار أمر عاجل تعلن فيه أن “إسرائيل” تنتهك التزاماتها بموجب اتفاقية منع الإبادة الجماعية، في عدوانها المستمر على قطاع غزة.
منذ اليوم الأول لعملية “طوفان الأقصى”، أدلى كبار المسؤولين الإسرائيليين بسلسلة من التصريحات التي تعبّر صراحة عن نية إبادة غزة وسكانها
وطالبت قضية جنوب أفريقيا المحكمة باتخاذ تدابير مؤقتة أو قصير المدى، تأمر “إسرائيل” بوقف هجومها العسكري في غزة والسماح بوصول المساعدات الإنسانية دون عوائق لحماية المدنيين في القطاع، لحين إصدار حكم قضائي نهائي في القضية التي قد يُستغرق النظر فيها لسنوات.
واستمعت المحكمة يوم 11 يناير/ كانون الثاني الماضي لمرافعة جنوب أفريقيا، وفي اليوم التالي استمعت لدفاع “إسرائيل”، وفي 27 من الشهر نفسه اتجهت العيون نحو قصر السلام في لاهاي، حيث أصدرت المحكمة حكمها الابتدائي الذي ركز على جانب التدخل العاجل، غير أنها لم تحكم بوقف القتال، ولم يتناول الحكم تفاصيل الاتهام الأساسي حول الإبادة الجماعية.
ورغم قساوة ما يحدث للفلسطينيين في غزة، لم تدين المحكمة “إسرائيل” حتى اليوم بارتكاب إبادة جماعية في القطاع المحاصر، وبدلًا من ذلك أصدرت حكمًا مؤقتًا قالت فيه إنه من المعقول أن “إسرائيل” ترتكب انتهاكات لاتفاقية منع الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في غزة، وبالتالي لم تضطر “إسرائيل” إلى وقف حربها على غزة، حتى مع تزايد الضغوط السياسية التي واجهتها في المرحلة اللاحقة.
وبعد هذا الحكم، انتقلت القضية لمرحلة المناقشات والمرافعات، وهو اتجاه قد يستمر لسنوات، وقد بدأت السير في هذا الطريق الذي يبدو طويلًا في 19 فبراير/ شباط الماضي، بجلسات استماع للقضية استمرت عدة أيام، واستمعت خلالها لممثلين عن عدة دول ومنظمات.
ومع سير القضية، بدأت عدة دول في التضامن ودعم موقف جنوب أفريقيا، فقد أعلنت كل من بوليفيا وبنغلاديش وليبيا وتركيا دعمها للقضية، كما انضمت مصر إلى معسكر الدول الداعمة، وذكر بيان الخارجية المصرية أن قرار الانضمام جاء في ظل تفاقم حدّة ونطاق الاعتداءات الإسرائيلية ضد المدنيين الفلسطينيين في غزة.
بعد أن انتهت مهلة الشهر التي حددتها محكمة العدل الدولية لإسرائيل لإبلاغها بالتدابير التي اتخذتها لضمان منع جريمة الإبادة الجماعية في #غزة..
هذه 6 مؤشرات وثقها المرصد الأورومتوسطي لعدم التزام إسرائيل بقرار المحكمة⤵️ pic.twitter.com/gGvkMOsY4G
— المرصد الأورومتوسطي (@EuroMedHRAr) March 4, 2024
وثمة من يحذّر هنا من أن المرافعات والمرافعات المضادة التي ستشهدها المحكمة خلال الفترة المقبلة، قد تنقل الإبادة الجماعية من حيز الحقائق المرئية على الهواء مباشرة إلى حيز الجدل في شأن تكييفها القانوني، بينما تواصل “إسرائيل” المضيّ في طريقها على جثث الفلسطينيين، في ظل غياب العقاب والمحاسبة اللذين يكفلهما المجتمع الدولي واتفاقية الأمم المتحدة.
ولعلّ هذا ما يفسّر التحول في استراتيجية “إسرائيل” القديمة وقبولها المثول هذه المرة أمام قضاة لاهاي، بعدما رفضت في عام 2004 حضور إجراءات التقاضي بشأن جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية، ثم تجاهلت الحكم النهائي متذرّعة بعدم اعترافها بسلطة المحكمة.
وما زالت المعركة القانونية والقضائية الشرسة والطويلة تجري في أروقة محكمة العدل الدولية، ومع التصعيد الحالي في العمليات، تترقب “إسرائيل” إصدار المحكمة خلال الأيام المقبلة أمرًا جديدًا قد يرقى إلى وقف العمليات العسكرية في رفح.
وخارج أروقة المحكمة الدولية، لم يقتصر الأمر على توجيه التهم لـ”إسرائيل”، فقد قدَّم قانونيون بريطانيون رسالة إلى رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، حذّروا فيها من أن “تقديم المساعدة العسكرية والمواد لإسرائيل قد يجعل المملكة المتحدة متواطئة في الإبادة الجماعية والانتهاكات الجسيمة للقانون الإنساني الدولي”.
وفي الولايات المتحدة، استمعت محكمة اتحادية أمريكية في أوكلاند بولاية كاليفورنيا، إلى شهادات مؤلمة في قضية رفعتها الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال – فلسطين، قالت إن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تنتهك اتفاقية الإبادة الجماعية، من خلال توريد الأسلحة والمعدّات العسكرية الأخرى التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي في غزة.
وبعد 5 أيام، أصدر القاضي جيفري وايت قراره: “هذه المحكمة تناشد المتهمين بمراجعة نتائج دعمهم الثابت لحصار الفلسطينيين في غزة”، وكان هذا كان كل ما وجد وايت أنه يستطيع فعله، وكتب: “هناك حالات نادرة لا يمكن فيها للمحكمة الوصول إلى النتيجة المرغوبة، هذه واحدة من تلك الحالات”.
وبموجب المادة الثالثة من الاتفاقية، يُعاقب مرتكبو جريمة الإبادة الجماعية أو المشاركون فيها أو محاولة ارتكابها أو التآمر والتحريض المباشر والعلني لارتكابها، سواء كانوا حكامًا دستوريين أو موظفين عموميين أو أفرادًا، ومع ذلك فشلت هذه المحاولات في وقف العنف الجماعي في غزة، لكنها سلّطت الضوء على المعضلات التي يواجهها إثبات جريمة الإبادة الجماعية، ومنها ما يتعلق بتفسير معنى الإبادة الجماعية والإرادة الدولية.
وكان ذلك كافيًا لدفع كريغ مخيبر، مدير الأمم المتحدة، إلى الاستقالة بسبب “فشل” المنظمة في التحرك ضد ما أسماه “قضية الإبادة الجماعية النموذجية”، كما أعرب تحالف منفصل من خبراء الأمم المتحدة بالمثل عن قلقهم في بيان صحفي صدر في 2 نوفمبر/ تشرين الثاني، محذرين من أن الفلسطينيين “معرضون لخطر الإبادة الجماعية”.
نص استقالة كريج مخيبر، مدير مكتب نيويورك للمفوضية السامية لحقوق الإنسان:
٢٨ أكتوبر ٢٠٢٣
عزيزي المفوض السامي،
ستكون هذه آخر اتصالاتي الرسمية معكم بصفتي مديرًا لمكتب نيويورك للمفوضية السامية لحقوق الإنسان.
إنني أكتب في لحظة من الألم الشديد للعالم، بما في ذلك للعديد من زملائنا.…
— Belal Fadl (@belalfadl) November 1, 2023
إبادة جماعية نموذجية
لم تكن جنوب أفريقيا بحاجة إلى إثبات أن “إسرائيل” ترتكب إبادة جماعية، فقد قدَّمت في طلبها إلى محكمة العدل الدولية اقتباسات من تصريحات كبار المسؤولين الإسرائيليين تحدثوا عن محو غزة وتسويتها بالأرض، وأعربوا عن “نوايا صريحة وواضحة ومباشرة” للإبادة الجماعية، وأشارت إلى العدد الكبير من المدنيين الذين قُتلوا بدم بارد، وتدمير المدارس والمستشفيات وأماكن العبادة ومصادر الغذاء.
ومنذ اليوم الأول لعملية طوفان الأقصى، أدلى كبار المسؤولين الإسرائيليين بسلسلة من التصريحات التي تعبّر صراحة عن نية إبادة غزة وسكانها، وكان الخطاب القاتل في “إسرائيل” واضحًا ومتسقًا، ولم يأتِ من فراغ بل من نفس الأشخاص الذين يصنعون السياسة العسكرية، فبعد يوم واحد من تصريحات غالانت التي سبق ذكرها في البداية، قال قائد المنطقة الجنوبية اللواء غسان عليان، الذي يرأس منصب منسّق عمليات حكومة الاحتلال في المناطق: “يجب معاملة الحيوانات البشرية على هذا النحو. لن يكون هناك كهرباء ولا ماء، ولن يكون هناك سوى الدمار. لقد أردت الجحيم، سوف تحصل على الجحيم”.
وفي بيان للرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ خلال مؤتمر صحفي عُقد في 13 أكتوبر/تشرين الأول، أشار علنًا إلى عدم وجود مدنيين فلسطينيين أبرياء في غزة، وقال: “ليس صحيحًا هذا الخطاب القائل بأن المدنيين ليسوا على علم أو غير متورطين. إنه غير صحيح على الإطلاق. كان من الممكن أن ينتفضوا”، ولا شك أن هذه اللغة التي تصور جميع الفلسطينيين “سكانًا أعداء” يمكن أن تساعد في إثبات النية.
كما تعهّد وزير الطاقة، يسرائيل كاتس، بحرمان غزة من الكهرباء والمياه، وقال: “لن يتم تشغيل أي مفتاح كهربائي، ولن يتم فتح صنبور مياه، ولن تدخل أي شاحنة وقود حتى يعود المختطفون الإسرائيليون إلى منازلهم”، وهذا يعني بحسب ممثل جنوب أفريقيا، تمبيكا نغكوكايتوبي، “خلق ظروف موت الشعب الفلسطيني في غزة”.
ومن الأمور المحورية في إثبات نية الإبادة الجماعية، خطاب نتنياهو المتلفز لشعبه يوم 28 أكتوبر/ تشرين الأول حين بدأت قوات الاحتلال الغزو البرّي لقطاع غزة، عندما أعلن صراحةً أن الحرب بين “إسرائيل” وحماس معركة صفرية إما حياة وإما موت، واستشهد بكلمات من التوراة لتبرير قتل الفلسطينيين، تدعو إلى “دمروا كل ما للعماليق، ولا تعف عنهم، بل اقتلوا الرجل والمرأة، الرضيع والمرضع”.
وعمد نتنياهو إلى تسمية الفلسطينيين بـ”العماليق”، وهو اسم مستوحى من التوراة كان يطلقه العرب على قبائل الكنعانيين والأموريين والآشوريين وقبائل عربية سكنت شبه الجزيرة العربية قبل هجرتها إلى الشام والعراق ومصر، لكن الكتب العبرية تذكرهم شعبًا معاديًا لليهود، وتصورهم على أنهم قوم عُرفوا بالجلافة وخشونة الطبع، وتحرِّض على إبادتهم عن بكرة أبيهم: “الآن اذهب واضرب عماليق، وحرموا كل ما له علاقة ولا تعف عنهم بل اقتل رجلًا وامرأة، طفلًا ورضيعًا، بقرًا وغنمًا، جملًا وحمارًا”.
وفي ديسمبر/ كانون الأول، تمّ تصوير مجموعة من الجنود الإسرائيليين وهم يرقصون في دائرة، ويغنون أبياتًا من تصريحات مسؤولي دولتهم: “أنا قادم لاحتلال غزة وهزيمة حزب الله، ألتزم ببلوغ واحد لأمسح نسل عماليق، لأمسح نسل عماليق. تركت المنزل خلفي، لن أعود حتى النصر. نحن نعرف شعارنا: لا يوجد مدنيون غير متورطين، لا يوجد مدنيون غير متورطين”.
“IDF” soldiers party while singing:
“I’m coming to occupy Gaza
and beat Hezbollah.
I stick by one mitzvah,
to wipe off the seed of Amalek.
I left home behind me,
and won’t come back until victory.
We know our slogan,
there are no ‘uninvolved civilians.'” pic.twitter.com/JxUvZo1HNe
— Quds News Network (@QudsNen) December 8, 2023
ووفقًا لمدير برنامج دراسات الإبادة الجماعية في جامعة ستوكتون، راز سيجال، فإن ما تفعله “إسرائيل” يمثل “حالة نموذجية للإبادة الجماعية”، ويرى أن قوات الاحتلال ارتكبت 3 أعمال إبادة جماعية مع النية المطلوبة، تشمل “القتل، والتسبب في أضرار جسدية وعقلية جسيمة، وفرض ظروف معيشية متعمدة تؤدي إلى تدمير المجموعة”، مشيرًا إلى المستويات الهائلة من الدمار والحصار الشامل للضروريات الأساسية -مثل الماء والغذاء والوقود والإمدادات الطبية- كدليل.
ويعني هذا أن الحد الأدنى الذي يشير إلى ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية قد تم استيفاؤه، علاوة على ذلك فإن “الإبادة الجماعية في غزة هي المرحلة الأكثر تطرفًا في عملية الاستعمار الاستيطاني الطويلة الأمد لمحو السكان الفلسطينيين الأصليين”، كما تقول المقررة الخاصة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة فرانشيسكا ألبانيز، في تقريرها الأخير بعنوان “تشريح الإبادة الجماعية” الذي قدمته إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف.
وبحسب القاضية عديلة هاشم، وهي عضوة الفريق القانوني في قضية جنوب أفريقيا، فإن “إسرائيل” ترتكب 4 من أصل 5 أفعال موصوفة في المادة الثانية لاتفاقية منع الإبادة الجماعية.
وبحسب قولها للمحكمة في 11 يناير/ كانون الثاني الماضي، فإن “إسرائيل” تجعل الحياة مستحيلة على سكان غزة بـ 4 طرق مختلفة، أولها قتل الفلسطينيين في غزة في منازلهم، وفي الأماكن التي لجأوا إليها، وفي المستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس، وأثناء محاولتهم العثور على الطعام والماء لعائلاتهم، كما قُتلوا إذا فشلوا في الإخلاء في الأماكن التي فرّوا إليها، وحتى أثناء محاولتهم الفرار عبر الطرق الآمنة التي أعلنتها “إسرائيل”.
ثانيًا من خلال التهجير القسري لمعظم سكان قطاع غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، ففي الأيام الأخيرة فقط أجبر الاحتلال أكثر من 800 ألف فلسطيني -معظمهم هُجّروا أصلًا مرات عديدة بسبب الهجوم العسكري الإسرائيلي الذي لا يرحم على قطاع غزة طوال 7 أشهر- من رفح جنوبي قطاع غزة، تزامنًا مع تكثيف العمليات البرية والجوية في المنطقة، معرّضًا آلاف الأرواح للخطر ومانعة وصول المساعدات الإنسانية الضرورية.
حتى أمر الإخلاء القسري الأول الذي أصدرته “إسرائيل” لسكان شمال غزة البالغ عددهم حوالي مليون نسمة في 13 أكتوبر/ تشرين الأول “كان في حد ذاته إبادة جماعية”، لأن الأمر “يتطلب حركة فورية، مع أخذ ما يمكن حمله فقط، في حين لم يُسمح بأي مساعدات إنسانية، وتم قطع الوقود والماء والغذاء وغيرها من ضروريات الحياة عمدًا”.
ثالثًا، تتعمد “إسرائيل” التسبُّب في انتشار الجوع والجفاف والمجاعة، حيث يواجه سكان غزة مستويات غير مسبوقة من الجوع، كما تحرم “إسرائيل” الفلسطينيين من الضروريات مثل المأوى والملابس ومواد الصرف الصحي والمياه، كما يجعل الهجوم الإسرائيلي المستمر على البنية التحتية للرعاية الصحية في غزة الحياة غير مستدامة.
وأخيرًا، تنتهك “إسرائيل” المادة الثانية من اتفاقية الإبادة الجماعية “بفرض تدابير تهدف إلى منع الولادات داخل المجموعة” من خلال منع الإمدادات الطبية اللازمة للولادة، وتشكّل كل هذه الأفعال، الفردية والجماعية، نمطًا محسوبًا من السلوك من قبل “إسرائيل” يشير إلى نية الإبادة الجماعية.
قانونيًا، تعرِّف المادة السادسة من نظام روما الأساسي الإبادة الجماعية ضمن مجموعة من البنود، أبرزها ما يستند إليه قانونيون بأن إحكام الحصار على قطاع غزة بقطع المياه والكهرباء ومنع إدخال المواد الطبية يندرج ضمن هذه المادة.
وبحسب المادة 25 من نظام روما الأساسي الذي أُسّس لإنشاء محكمة الجنايات الدولي، فإن مسؤولية جنائية قد تترتب على مسؤولين إسرائيليين، ويُستدل على ذلك بحسب قانونيين بتسليح المستوطنين وحثّهم على ارتكاب جرائم القتل ونزع صفة البشر عن الفلسطينيين، كما ورد في خطاب المسؤولين الإسرائيليين.
كما أن هذه الأفعال وغيرها تندرج ضمن فقرة جرائم الحرب، ويستند خبراء في ذلك إلى استهداف أحياء سكنية مدنية ومكتظة في مناطق قطاع غزة، إضافة إلى تعمُّد استهداف ومهاجمة مرافق طبية ودينية ومنشآت مدنية. وتنص فقرة ضمن مواد جرائم الحرب على أن محاولة قوات الاحتلال إبعاد السكان أو إجبارهم على الابتعاد عن مناطقهم تدخل ضمن جرائم الحرب.
ومع ذلك، جادل ممثلو “إسرائيل” بشكل أساسي في المحكمة بأنه لا ينبغي عليهم تقديم حجّة، وتصرفت “إسرائيل” كما لو أن الاتهام بالإبادة الجماعية لا ينبغي أن يؤخذ على محمل الجد، واحتفل نتنياهو بفشل ما أسماه “المحاولة الدنيئة” لحرمان “إسرائيل” من حقها في الدفاع عن النفس، واستمر في قصف غزة وقتل وتجويع وتهجير سكانها.
ومن المقرر أن تشكّل الطريقة التي تقرر بها محكمة العدل الدولية المضيّ قدمًا في هذه القضية سوابق جديدة لكيفية تعريف الإبادة الجماعية في نظر القانون الدولي لعقود قادمة، لكن مهما كان القرار النهائي في القضية، فمن شبه المؤكد أن المدّعين لن ينجحوا في تحقيق ما يطالبون به ويريدونه بشدة، وهو وضع حدّ للمجازر في غزة.