تشهد منطقة القرن الإفريقي توتّرًا غير مسبوق لعوامل متعددة، تصاعدت المواقف منذ زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى السودان التي وُصفت بالتاريخية، مخرجات الزيارة وأبرزها التوقيع على اتفاق جزيرة سواكن مع الحكومة السودانية أثار ضجة واسعة في وسائل الإعلام المصرية والسعودية والإماراتية، خرجت تهديدات ووعيد بمعاقبة السودان، ولم يسلم الشعب السوداني من الإساءة على الرغم من أن سواكن تقع داخل حدود السودان ويمارس كل أشكال السيادة عليها فهي ليست محل خلاف أو نزاع مع أي دولة أخرى.
على هامش الزيارة اجتمع رؤساء أركان الجيش السوداني والتركي والقطري في مقر القيادة العامة للقوات المسلحة بالخرطوم، اجتماع قيل إنه بَحَث التعاون العسكري، لكنه ربما يكون السبب الرئيس لزيادة حدة الهجوم الإعلامي على السودان، إذ إن بوصلة الخرطوم اتجهت بقوة نحو المحور التركي القطري في الآونة الأخيرة، فقد خَفَت الحماس تجاه الرياض وأبوظبي منذ زيارة الرئيس البشير إلى روسيا وتصريحاته هناك التي غازل فيها طهران وبدا زاهدًا في التقارب مع الولايات المتحدة.
وفي الوقت نفسه، كانت قوات قطرية تختتم تمرينًا مشتركًا مع نظيرتها السودانية على ساحل البحر الأحمر، في دلالة على قوة العلاقات بين البلدين، ومن الخرطوم اتجه رئيس الأركان القطري غانم بن شاهين إلى أديس أبابا التي تعد الضلع الرابع في المحور التركي القطري السوداني بعد أن نمت علاقاتها مع قطر مؤخرًا، وفي الاتجاه المقابل يبرز محور الإمارات مصر إريتريا.
رسالة من البشير لنظيره الإريتري
أواخر ديسمبر/كانون الأول الماضي، كانت هناك زيارة مقررة للرئيس السوداني عمر البشير إلى إريتريا، لكن يبدو أنه اختار إرسال نائبه الأول الجنرال بكري حسن صالح يرافقه مدير جهاز الأمن والمخابرات محمد عطا المولى الذي يوصف بأنه على علاقة جيّدة مع الرئيس الإريتري أسياس أفورقي.
إلا أن رسالة البشير التحذيرية “كما نقلت مصادر خاصة”، لم تجد آذانًا صاغية من الديكتاتور العنيد، يستدل على ذلك من التجاهل الذي مُنيت به زيارة الوفد السوداني، فلم تذكر وسائل الإعلام التابعة لنظام أسياس أفورقي شيئًا عنها وكأنها لم تتم من الأساس، فضلًا عن التطورات اللاحقة من الجانب الإريتري التي سنكشف عنها خلال السطور القادمة.
فور مغادرة أردوغان للسودان، انطلق وزير الخارجية المصري سامح شكري إلى أبوظبي، حيث ذكرت مصادر عليمة أن الرجل تم استدعاؤه على عجل من وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد لمناقشة اتفاق جزيرة سواكن بين السودان وتركيا
استدعاء أفورقي وشكري إلى أبوظبي
مطلع يناير/كانون الثاني الحاليّ توجه رئيس إريتريا أسياس أفورقي إلى العاصمة الإماراتية أبوظبي، في ثاني زيارة له خلال 3 أشهر، فقد قام الرجل مطلع أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي بمقابلة ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، وبحسب وكالة الأنباء الإماراتية (وام)، فإنه “تم خلال اللقاء استعراض مجالات التعاون القائمة بين البلدين، وأهمية العمل على تطويرها وتنميتها في مختلف القطاعات السياسية والاقتصادية والتنموية في إطار حرص قيادتي البلدين على الدفع بالعلاقات إلى مزيد من التقدم والتطور في المجالات كافة”.
ليس جديدًا أن نكشف موقف إريتريا من الأزمة الخليجية، فمنذ البداية اختار أفورقي الانحياز إلى الرياض وأبوظبي رغم علاقاته التي كانت وطيدة مع الدوحة، ربما شجّعه على ذلك التفاهمات التي عقدها قبل الأزمة مع السعودية والإمارات بشأن استخدام ميناء “عصب” ليكون منصة تنتطلق منها طائرات التحالف لمهاجمة الحوثيين في اليمن.
وقد كشف معهد “سترافور” الأمريكي في مطلع العام الماضي عن بدء أبوظبي العمل في إنشاء قاعدة عسكرية بمدينة “عصب” في إريتريا على البحر الأحمر لتكون منطلقًا لها في القارة الإفريقية بعد إخفاقها في تدشين هذه القاعدة في جيبوتي، وبالتأكيد فإن الرجل حصل على مساعدات مالية أغرته لاتخاذ كل هذه المواقف.
قبل أفورقي، وفور مغادرة أردوغان للسودان، انطلق وزير الخارجية المصري سامح شكري إلى أبوظبي، حيث ذكرت مصادر عليمة أن الرجل تم استدعاؤه على عجل من وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد لمناقشة اتفاق جزيرة سواكن بين السودان وتركيا، ولم تُخفِ الخارجية المصرية أجندة الزيارة، فقد ذكر بيان للوزارة أن الجانبين “مصر والإمارات” “أكدا رفضهما كل أشكال التدخل الأجنبي في شؤون المنطقة والدول العربية من خارج الإقليم، وحرصهما على اتخاذ مواقف مشتركة من شأنها الحفاظ على المصالح العليا للبلدين، وتعزيز الأمن القومي العربي ودعم استقرار المنطقة”.
السودان يستدعي سفيره من القاهرة
في تطور لافت يدل على عمق الأزمة، استدعت وزارة الخارجية السودانية السفير عبد المحمود عبد الحليم من القاهرة، ووفق بيان للناطق الرسمي باسم الخارجية السودانية السفير قريب الله الخضر، فإن الاستدعاء اختصر فقط على مسألة التشاور دون إبداء أي مسببات أخرى، لكنّ مصادر دبلوماسية سودانية أكدت أن العلاقات السودانية المصرية وصلت إلى توتر غير مسبوق.
ويرى بعض المحللين أن زيارة أردوغان للخرطوم المحرك الأبرز لتلك الأزمة، في حين يرى آخرون أن موقف السودان المخالف لمصر بشأن سد النهضة الإثيوبي وتباين رؤى الحكومتين عما يجري في ليبيا والاتهامات التي تم تبادلها بهذا الشأن هي عناصر إضافية للأزمة.
نقلت صحيفة الصيحة السودانية، أن “الجيش السوداني أرسل الآلاف من جنوده إلى شرق البلاد في وقت تشهد فيه المنطقة توترات بعد أنباء عن وصول تعزيزات عسكرية من مصر إلى إريتريا”
وكانت صحف سودانية نقلت عن مصادر أن وزير الخارجية إبراهيم غندور أجّل زيارة كانت مقررة إلى القاهرة الأربعاء الماضي، وكشفت تسريبات أن التأجيل جاء احتجاجًا على الهجوم الإعلامي المصري المستمر على السودان بعد زيارة الرئيس التركي أردوغان للخرطوم.
حشود عسكرية وتعزيزات على الحدود
وفي هذه الأثناء نقل مراسل قناة الجزيرة في أديس أبابا، عن مصادر خاصة أن تعزيزات عسكرية مصرية، تشمل أسلحة حديثة وآليات نقل عسكرية وسيارات دفع رباعي وصلت إلى قاعدة “ساوا” العسكرية في إريتريا التي تقع في إقليم “القاش بركة” المحاذي للسودان في حدوده الشرقية، وقالت المصادر إن اجتماعًا عُقد في القاعدة وضم عددًا من القيادات العسكرية والأمنية من مصر والإمارات وإريتريا والمعارضة السودانية ممثلة في بعض الحركات المتمردة في إقليم دارفور.
كما نقلت صحيفة الصيحة السودانية أن “الجيش السوداني أرسل الآلاف من جنوده إلى شرق البلاد في وقت تشهد فيه المنطقة توترات بعد أنباء عن وصول تعزيزات عسكرية من مصر إلى إريتريا”، وذكرت مصادر أخرى أن القوات السودانية وصلت بالفعل إلى حامية كسلا على الحدود الشرقية، وزادت الصيحة نقلًا عن مصادر إثيوبية أن قيادة المنطقة الغربية الإثيوبية أرسلت تعزيزات عسكرية قبالة المثلث الحدودي مع إريتريا والسودان.
يتزامن مع تلك التطورات، إعلان الرئيس السوداني عمر البشير حالة الطوارئ في عدد من ولايات البلاد بينها ولاية كسلا شرق السودان المحاذية لإقليم القاش بركة الإريتري.
طلعات جوية للطيران الإثيوبي
أكد مواطنون سودانيون يقطنون ولاية القضارف السودانية التي تقع ضمن مثلث حدودي يضم أجزاءً من السودان وإثيوبيا وإرتريا، أنهم شاهدوا طائرات يشتبه أنها إثيوبية تقوم بطلعاتٍ جوية وعمليات تمشيط واسعة، ومنطقة المثلث الحدودي بين البلدان الثلاثة تقدر بـ20 كيلومترًا، حيث توجد “الحمرة” الإثيوبية وبالقرب منها توجد “حمداييت” السودانية، إلى جانب “أباي خديرة” الإثيوبية وبها معابر تؤدي إلى كل من السودان وإريتريا.
كما أفادت أنباء أخرى بتشديد الإجراءات حول محيط المنطقة التي يقام عليها سد النهضة على الحدود السودانية الإثيوبية.
إذا ما ربطنا بين وصول التعزيزات العسكرية المصرية وزيارة أسياس أفورقي إلى أبوظبي، إلى جانب إرسال السودان تعزيزات عسكرية كبيرة إلى شرق البلاد وأنباء متضاربة عن إغلاق الحدود السودانية ـ الإريترية من جانب، والحدود الإثيوبية ـ الإريترية من الجانب الآخر، فإن الأحداث لا تبشر بالخير وتبنئ ربما بتطورات خطيرة تجعل المنطقة في مهب الريح.
السيناريوهات المتوقعة
إذا بدأنا من إريتريا ـ التي بدأ منها التصعيد ـ فإنه من الصعوبة بمكان الحصول على معلومات موثوقة من بلدٍ منعزلة عن العالم ولا توجد فيها إلا صحيفة الحزب الحاكم وفضائيته بالإضافة إلى الإذاعة التابعة له، لكن ما نقلته قناة الجزيرة حتى الآن هو تزويد مصر لنظام أفورقي بكميات كبيرة من الأسلحة والذخائر، إضافة إلى الاجتماعات التي عُقدت في معسكرات ساوا بين قيادات عسكرية إريترية ومصرية مع عناصر معارضة سودانية مسلحة تابعة لفصيل مني أركو مناوي المتمرد الدارفوري الذي يعتقد أن لديه وجودًا عسكريًا داخل إريتريا.
يبقى احتمال أن تشن إريتريا حربًا على السودان شيئًا بعيدًا لأسباب متعددة أولها الغليان الذي يتصاعد في الداخل الإريتري، بالإضافة إلى أن الإريتريين يحصلون على معظم احتياجاتهم الغذائية حاليًّا من السودان
غير أن إريتريا ذاتها لا تملك جيشًا قويًا بحسب مراقبين، فقد هرب آلاف الجنود من الخدمة العسكرية الطويلة بلا مقابل مادي يذكر والحروبات التي يورطهم فيها أسياس أفورقي، ويؤكد مراقبون أن الجيش الإريتري الحاليّ ليس لديه مقدرة على شن هجوم عسكري إلا بدعمٍ من قوات المعارضة السودانية وحركات دارفور.
السودان وإثيوبيا كما ذكرنا، أعدّا العدة لمواجهة محتملة لأن الخطر يتهدد الدولتين، فإثيوبيا لن تفرط في أمنها وفي حماية وتأمين سد النهضة بعد أن أنجزت 63% من أعماله، كما أن السودان يسعى لتأمين حدوده وأراضيه، ويساعد هو الآخر إثيوبيا في حماية سد النهضة، فقد سلّم من قبل متهمين بمحاولة استهداف السد للسلطات الإثيوبية.
ووفقًا للمعطيات أعلاه، يبقى احتمال أن تشن إريتريا حربًا على السودان شيئًا بعيدًا لأسباب متعددة أولها الغليان الذي يتصاعد في الداخل الإريتري جراء سياسات النظام الحاكم الذي أدى أول مرة إلى خروج مظاهرات حاشدة في العاصمة أسمرة والمدن الأخرى في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بالإضافة إلى أن الإريتريين يحصلون على معظم احتياجاتهم الغذائية حاليًّا من السودان سواء بالطرق المشروعة التي تحتكرها شركة البحر الأحمر “مملوكة لحزب أفورقي” أو عبر التهريب الذي تنشط فيه عصابات سودانية وإريترية، هذا إلى جانب قلة أفراد الجيش الإريتري وعدم استعداده لشن هجوم أو التورط في حروب جديدة كما ذكرنا سابقًا.
هل ستشن مصر حربًا على إثيوبيا؟
على عكس ما تشيع وسائل الإعلام المصرية المحسوبة على نظام السيسي، فإن مصر لن تستطيع شن حرب مباشرة على إثيوبيا، والسبب الأول بعد المسافة بين الدولتين، ولن تستطيع القاهرة أيضًا شن الحرب انطلاقًا من إريتريا لبُعد سد النهضة عن الحدود مع إريتريا إذ يقع السد بعيدًا أقصى جنوب غرب إثيوبيا قرب الحدود السودانية، فعلى القوات المصرية اختراق العمق الإثيوبي ذو الكثافة السكانية العالية من مدن عدوة وأكسوم وشيراتو وغيرها بالإضافة إلى صعوبة اجتيازها التضاريس الشاهقة والسلاسل الجبلية التي تعرف بـ”الهضبة الإثيوبية”.
لكن احتمال قيام مصر بتنفيذ ضربة جوية لسد النهضة يظل واردًا، إذا تجاهلت المحاذير السياسية والقانونية، غير أنه خيار غير مأمون العواقب، فقد اتخذت إثيوبيا احتياطات بفرض حظر جوي يمتد إلى داخل العمق السوداني، ووضعت مقاتلات إف 16 الاعتراضية على أهبة الاستعداد، بينما تسلّم السودان طائرات السوخوي 35 الروسية ذات الإمكانات العالية وينسق مع إثيوبيا بشكل مستمر وفق اتفاقية دفاع مشترك بينهما.
سوخوي 35 الروسية
استهداف شرق السودان
ما يمكن أن يحدث فعليًا، هو ضرب السودان في عمقه الشرقي بعمليات نوعية خاطفة، لمنع الخرطوم من استضافة القاعدة التركية المحتملة وإنهاء أي وجود محتمل لتركيا لأن القلق المصري السعودي الإماراتي منه يبدو واضحًا جدًا، كما نتوقع أن يكون المخطط المصري الإريتري يهدف إلى إنهاء التحالف الإستراتيجي بين السودان وإثيوبيا، ربما يكون هناك مسعى لإسقاط حكومة هايلي ديسالين بدعم فصائل المعارضة الإثيوبية، والرهان على حدوث صراع عرقي كبير بين القوميات الإثيوبية خصوصًا أوروميا وأمهرا من أجل إيقاف بناء سد النهضة.