وأنا بين الصفين الخامس والسادس الابتدائي، وفي إجازة نهاية العام الدراسي، وبينما نحن نلعب أمام منزل أحد الأصدقاء، كما العادة منذ شهر تقريبًا في نفس الوقت والأسلوب والأداء والأصوات والعدد، خرج والد صديقنا من بوابة بيتهم وأوسع ابنه ضربًا، ثم تركه ورحل وهو يلعن الأيام والسنين والأديان، حينها هربت بكل ما أوتيت من قوة جريًا حافيًا حتى بيتنا في وسط القرية، خوفًا من المشهد.
التقطت أنفاسي ونظفت بنطالي وغسلت شعري ووجهي من “طلمبة الماء”، ودخلت البيت باحثًا عن حذاء أرتديه أصل به شقّتنا في الطابق العلوي، فلو شاهدتني أمي حافيًا دون الحذاء الذي كانت قد اشترته قبل أيام لنالني ما ينال الطفل الخائب من العقاب.
بعد ذلك، عرفت من أحد أصدقائنا أن والد صديقنا تعرض لخسارة مالية كبيرة في تجارته نتيجة هبوط مفاجئ للأسعار، بينما كان على وشك البيع، لا أتذكر إن كان ذلك نتيجة أنفلونزا الطيور أو شيء آخر مشابه، المهم أنني لم أربط بين “العلقة الساخنة” التي تلقاها صديقنا والحدث، غير أني بعد سنوات، وفي إحدى جلسات السهر أمام منزلنا، أخذنا الحديث طويلًا وطويلًا، ولم يكن صديقنا المضروب قد استمر ضمن شلتنا، فأتى الكلام ببعضه وذكرنا الحادثة، ليعايرني أصدقائي بالهروب السريع ويحكوا لي القصة من بدايتها، المهم أن والده قد وصله مكالمة تخبره بالكارثة، فخرج من المنزل ولم يجد سوى ابنه المسكين ليفرغ فيه غضبه، ثم يرحل.
أرى هذا المشهد ومشاهد التنفيس عن الغضب المشابهة له كنتيجة واقعية للقمع أو المشاكل أو الغَم أو الهزيمة، سمعت من أصدقاء كثيرين انضموا للجيش المصري مقولة أن كل صاحب سلطة يمارس القمع على من هو أقل منه رتبة أو منصب، فالرتب العليا تمارس سلطاتها على الرتب الأقل، والرتب الأقل تمارس نفس القمع على صف الضباط، وضابط الصف يقوم بتكدير العساكر، وهكذا، سلسلة من ممارساتٍ سلطوية لا مصدر لها سوى القمع والتكدير.
نتائج الهزائم لا تنتهي، فالآثار النفسية المترتبة على هزيمة لمئات الآلاف من البشر، كحالتنا المصرية، كانت دون حصر، حالات انتحار، حالات تحول نحو العنف، حالات تحول إلى ضد ما كانت تعتنقه قبل الهزيمة
في عام 2011، وفي أثناء الانفلات الأمني، شكل المواطنون لجانًا شعبية لحفظ بعض الأمان في أحيائهم، نتيجة هروب الشرطة، لكن هؤلاء الشباب، تقمّصوا شخصيات ضباط المباحث وأمناء الشرطة وأصبحوا يعاملون المارّة من نفس المُنطلق، مُنطلق صاحب السلطة والمحتكر للقوة والسلاح، رغم أنهم كانو يلعنون هذا السلوك قبل أيامٍ قليلة، ولا أشك أن أحدهم، ضُرب أو أُهين داخل قسم شرطة في ضواحي القاهرة ذات يوم.
لا أجد غضاضة في القول، إن مقولة “شرطة الأخلاق” التي أُطلقت عبر منصات التواصل الاجتماعي لنعت الممثل محمد صبحي، نتيجة حديثه الكثير عن الأخلاق والقيم، ملخصة لكل ما نراه اليوم على هذه المنصات، من ضبطيات الأخلاق.
فلفظ شرطة الأخلاق أو لفظ شرطة وإلصاقه بأي شيء يصبح وصفًا جيدًا، شرطة الأخلاق، شرطة الممثل الفلاني واللاعب العلّاني وهكذا، كلها شُرَط، لكن أهمها شرطة القيم والأخلاق والمبادئ والثورة والنضال والدين، تلك الأشياء التي يظن شُرطيوها أنهم ممثلو الله والدين والمبادئ والنضال في الأرض، يحق لهم وصم كل من يخالفهم بالوصمة التي يريدونها، يزايدون على الناس في مشاعرهم، في حياتهم الشخصية، في مأكلهم ومشربهم وملبسهم، حتى المنشورات البائسة المنفسة عن بعض الغضب على النظام، عبر فيسبوك تجد من يزايد على أصحابها، بل وينصبون أنفسهم قضاةً يحكمون على هذا بالإيمان وهذا بالكفر وهذا بالثبات على الدين وهذا بالتفريط، وهكذا، دالّة لا تنتهي من فرض الرقابة والسلطة على الناس.
أدرك أن نتائج الهزائم لا تنتهي، فالآثار النفسية المترتبة على هزيمة لمئات الآلاف من البشر، كحالتنا المصرية، كانت دون حصر، حالات انتحار، حالات تحول نحو العنف، حالات تحول إلى ضد ما كانت تعتنقه قبل الهزيمة.
في مصر، خسر الإسلاميون معركة عمرهم، إن صح التعبير، فبعد سنوات طويلة من التهميش والقمع والسجون، وصل أخيرًا إلى سدة حكم البلاد، رئيسًا ينتمي لهم، يخاطب أنصاره الشعب بأحلام الخلافة واستعادة الدولة الإسلامية وحكم الشرع في الأرض والعودة إلى القرآن ليكون دستورًا لهذه البلاد، لكنهم استيقظوا على وقع كابوس تعيس قاده الجنرال عبد الفتاح السيسي الذي روجوا له على أنه وزير دفاع بنكهة الثورة، ويبكى في صلاة الظهر ويعلم أولاده القرآن وزوجته منتقبة ولا يترك صيام نافلة إلا ويؤديه.
المشكلة قد تكمن حقيقةً في فهم الإسلاميين لمعاني الحرية، وأن الحقوق ليست حقوقًا سياسية فقط، وهناك حقوق اجتماعية واقتصادية، وهناك حريات عامة وحريات شخصية، وهناك اختلاف وقبول، وهناك مساحة من الاحترام لا يمكن تجاوزها
وما إن مرت الأيام، حتى أقدم السيسي على ارتكاب أبشع مجزرة في التاريخ المصري الحديث، قُتل فيها ما زاد على ألف شهيد، جُلّهم من الإسلاميين، ثم تبع ذلك بجرائم متفرقة كانت نتيجتها عشرات الآلاف في السجون وأعداد قريبة منهم في المنافي، بين السودان وقطر وماليزيا وتركيا، ليتجه البعض ناحية العنف من أجل الانتقام ويتجه الآخر ناحية العزلة ضاربًا بكل شيء عرض الحائط، وتظهر هنا، شرطة الأخلاق.
خسر الإسلاميون بعد انقلاب يوليو 2013 كثيرًا من الميزات، أهمها الدور الاجتماعي الذي كانت تلعبه جماعة الإخوان المسلمين داخل المجتمع المصري، سواء من خلال المساجد أو الملتقيات الشعبية في المحافظات والأقاليم وكثير من الأنشطة التي كانت تملأ أجندة الجماعة، وكذلك ضُيّق على كثير من التحركات، سواء تلك المعنية بالمساعدات الاجتماعية لغير المحتاجين، وأنشطة شبابية أخرى.
هذه الخسارة، أو خسارة كل شيء، بعدما كانت الجماعة قادرة على هز محافظات بأكملها، قد يدفع بالكثيرين ناحية الجنون، فمثلًا لو كنت صاحب سلطة ومال، وفجأة سُحب منك كل شيء، ستتجه نحو الانتحار لا محالة، كذلك الإسلاميون بعد الخسارة الكبيرة في 2013.
وليتحول دور النصح والإرشاد الذي اعتادت عليه الجماعة وأنصارها في المساجد والمجالس، إلى منصات الإعلام الاجتماعي، لكن طبعًا مع اختلاف الخطاب تمامًا واختلاف الموضوعات المطروحة، فالإجابة عن أسئلة حسن الجوار، تختلف كثيرًا عن الإجابة عن أسئلة الحريات الشخصية مثلًا.
إن المشكلة قد تكمن حقيقةً في فهم الإسلاميين لمعاني الحرية، وأن الحقوق ليست حقوقًا سياسية فقط، وأن هناك حقوقًا اجتماعية واقتصادية، وهناك حريات عامة وحريات شخصية، وهناك اختلاف وقبول، وهناك مساحة من الاحترام لا يمكن تجاوزها، حتى وإن اختلفت كليًا مع هذه المساحة التي لا يمكنك الاعتداء عليها ما دام لم يعتد أصحابها عليك، إن التفسير المجتزء للحريات لا ينتج مجتمعًا صحيًا متصالحًا مسالمًا، بل يُنتج مجتمعًا أعور لا يرى أحد فيه الآخر، وهذا منبت شرطة الأخلاق والقيم.