“هل يذهب التونسيون إلى صناديق الاقتراع؟” يُطرح هذا السؤال منذ بداية سنة 2024 داخل كل الدوائر السياسية والإعلامية وفي جلسات النخب المهنية في تونس، وليس لدى أحد جواب يقيني، رغم أن شخصيات كثيرة أعلنت ترشحها بناء على الموعد القانوني وليس على إعلان رسمي بالاستعداد لها.
بدأت الهيئة الانتخابية تحيِّن سجلّات الناخبين، وهذا مؤشر على الاستعداد للانتخابات، لكن إعلان موعدها لم يحصل بعد، وهذا يفتح الباب لتخرّصات بتأجيلها حتى تكتمل أمور نتوقعها ولا نعلمها تتعلق بضمان الرئيس للفوز قبل الذهاب إلى الصندوق. سنكتب داخل منطقة من اللايقين.
شرعية الصندوق
وصل الرئيس الحالي بالصندوق الانتخابي، فهو شرعي، لذلك إن الحرص على الشرعية يقتضي بقاءه بالصندوق أو خروجه بالصندوق، وهذه نقطة مركزية تبدو لي محل اتفاق عند القوى الصلبة الماسكة فعليًا بمجريات السياسة من وراء الرئيس.
اعتقالات انتخابية تنظّف الطريق لمرشح لا يبدو واثقًا من قدرته على المنافسة، وقد تم تحييد الكثيرين والباقي على الطريق، فالإعلام الموالي يبدأ أولًا في تشويه الشخص ثم يلحق القضاء
يمكننا القول إن كثيرًا منها يقوم بواجبه المحدد بالقانون، ولكن كثيرًا آخر متحمّس لحكم الرئيس. في كل الحالات لا أحد نراه مستعدًّا لتحمل كلفة تغيير سياسي بالقوة ونقول بيقين إن عسكرة علنية مكشوفة السلطة في تونس ليست على جدول أحد، فلماذا هذه الاعتقالات الجارية إذًا والمساس بحرّية الإعلام ومطاردة الصحفيين؟
هل لهذه الاعتقالات والمحاكمات علاقة بالموعد الانتخابي؟ بلا مواربة نعم، فالغطاء القانوني المدني لما يجري لا يمكنه أن يخفي أن هناك بنك أهداف ما قبل انتخابي. في بنك الأهداف كل سياسي ترشّح أو ينوي الترشُّح، وكل إعلامي قد يفرّط في نقد المرحلة نقدًا يؤلّب الرأي العام ضد القائم.
إنها اعتقالات انتخابية تنظّف الطريق لمرشح لا يبدو واثقًا من قدرته على المنافسة، وقد تم تحييد الكثيرين والباقي على الطريق، فالإعلام الموالي يبدأ أولًا في تشويه الشخص ثم يلحق القضاء، وحتى الآن رغم خطورة التهم الموجهة للمعتقلين (التآمر على أمن الدولة) فإن لا أحد استكملت محاكمته، بل الجميع في حالة ترقب مع تجاوزات كثيرة في الإجراءات.
هل ستحسم للرئيس قبل الصندوق؟
نسترق معلومات من غير مصادرها عن استطلاعات رأي تنزل بالرئيس من 3 ملايين صوت في عام 2019 إلى أقل من نصف العدد الآن، وهذا يعني آليًا دورًا انتخابيًا ثانيًا يضعف حظوظ الرئيس (ولم نعلم منافسه المحتمل حتى اللحظة). يمكنه تنظيف الطريق بواسطة الأجهزة الفاعلة من كل منافس جدّي، لكن ماذا يبقى له من شرعية الصندوق تحت أنظار العالم وهو السبب الذي تحرص عليه القوى الصلبة ليظل وجه الدولة المدني ظاهرًا.
المرض الذي قتل السياسة في تونس فهو مرض الاستئصال، فكل المبادرات التي هدفت إلى تجميع الناخبين خلف فكرة ومرشح واحد باءت بالفشل، لأن شقًّا من الأحزاب يرفض كل تنسيق سياسي مع حزب النهضة
تهم الفساد تلاحق كل المتقدمين والملفات جاهزة. ما زالت هناك بعض الأسماء سنتابع اعتقالها في الأيام القادمة، لكن هذا لا ينفي وجود مترشح لا شائبة فيه، قد يحدث مفاجأة انتخابية في اللحظات الأخيرة. من يكون هذا العصفور الشجاع؟ يجب أن يكون شجاعًا جدًّا ليتقدم في هذا الظرف بالذات. لا أرى أحدًا بمنجاة من ماكينة فبركة الملفات، والأبرياء تنقصهم الكفاءة لتحمل عبء المنصب.
هذه الصورة تجعل طريق الرئيس مفتوحًا لعهدة ثانية بلا منافسة جدّية، فيحصل على صورة انتخابات ويجدد شرعيته، ولن يحتاج إلى برنامج انتخابي لإقناع ناخبيه.
وأين المعارضة الديمقراطية؟
المعارضة التونسية مصابة بأمراض كثيرة، منها مرض الزعامات الفذّة التي لا تُراجع خطابها وفكرها، ومرض الاستئصال يقسم تونس قسمَين لا يبدوان في وارد التعايش. إننا نرى الوجوه نفسها ونسمع الخطاب المعارض نفسه ونتابع التحركات نفسها منذ زمن بورقيبة مرورًا بزمن بن علي. لذلك وجب التواضع والتنسيب عند الحديث عن معارضة في تونس.
الزعامات كثيرة وجميعها مصابة بمتلازمة بورقيبة الذي يعرف كل شيء ويتقن كل شيء، وله حلول لكل مشاكل الأرض ولا يمكنه قسمة الموقع والسلطة مع أحد. وكل جهده أن يجمع الناس من ورائه ليكون هو القائد رقم واحد، فإن لم يجتمعوا شذَّ في الموقف وشتّت الناس.
المعارضة التونسية المشتّتة خلف الزعامات والتي يشقّها عقل استئصالي كانت وراء وصول الرئيس إلى سدّة الحكم، وأمراضها المزمنة لا تزال تخدم الرئيس في موقعه
طبعًا لا أحد من هذه الزعامات (باستثناء زعيم حزب النهضة) أفلح في بناء حزب سياسي من خلفه، وألف جمهورًا يسير برأيه، لكن رغم ذلك يريد لكل الشعب أن يصعِّده إلى المنصب. هذه الشخصيات لا تخيف الرئيس، والأجهزة الصلبة الماسكة بالدولة لا توليها أهمية أو اعتبار في الشارع، لذلك نراها تفكّك الساحة ولا تجمعها خلف شخص مقبول ولديه قدرة على المواجهة.
أما المرض الذي قتل السياسة في تونس فهو مرض الاستئصال، فكل المبادرات التي هدفت إلى تجميع الناخبين خلف فكرة ومرشح واحد باءت بالفشل، لأن شقًّا من الأحزاب يرفض كل تنسيق سياسي مع حزب النهضة.
من قبيل التذكير نقول إن هذه الأحزاب كانت وراء الانقلاب وشرّعت له وأسندته، وهي واعية بعد أن تحولت إلى المعارضة في الأيام الأخيرة إلى أن انفتاحها على الإسلاميين سيشرّع لهم البقاء والاستفادة من الديمقراطية، فيخسرون ما يعتبرونه مكاسب حصلت لهم من الانقلاب، وأعني تحييد حزب النهضة وتدميره.
حبّذا عندهم العودة إلى السياسة وبهرجها ومكاسبها لكن دون الإسلاميين، دون أن يعي كل هؤلاء، متفرقين ومجتمعين، أنهم عاجزون عن توليف جمهور انتخابي، هذه الأحزاب لا وزن لها في الشارع لذلك لا اعتبار لها عند القوى الصلبة وعند الرئيس، بمن في ذلك الذين لا يزالون واقفين في صفّه ويرشحونه للعهدة الثانية.
إن المعارضة التونسية المشتّتة خلف الزعامات والتي يشقّها عقل استئصالي كانت وراء وصول الرئيس إلى سدّة الحكم، وأمراضها المزمنة لا تزال تخدم الرئيس في موقعه، وستوفّر له مرورًا آمنًا إلى العهدة الثانية.
إذًا هل نبدأ في تهنئة الرئيس بالعهدة الثانية؟ قبل إعلان الموعد الانتخابي يبدو ذلك هو الاحتمال الأقوى، وإن كان لا يحتاج إلى تهنئة ككلّ حامل لرسالة إلهية، فالزعامات الفذّة لا تريد الانسحاب من المشهد فلا تفسح لوجه جديد، والاستئصاليون يمنعون أي تحالفات انتخابية فلا يتجمع الناس أبدًا، والناس فقدوا الأمل في أن يغيّر الصندوق الانتخابي مصيرهم، والأجهزة تنظف الطريق من الاحتمالات العشوائية بمن في ذلك الشخصيات التي لا تمتلك سيرة نضالية.
في زمن سابق كان وزير القلم في دولة البايات (أحمد بن أبي الضياف) يكتب تاريخ البلد المحطم بالفقر والفوضى، ويختم كل فقرة من كتابه “الإتحاف” بدعاء صميم: “نسأل الله حسن العاقبة”. نؤمن هذه الأيام بدعائه.