تضع الطبقة السياسية التونسية بكل مكوناتها المعارضة والحاكمة شعبها المسكين بين خيارين أحلاهما مر، فإما القبول بوضع مادي مزر ومفقر أو الدخول في فوضى مدنية قد تهلك الحرث والنسل.
فإذا احتج الناس على غلاء المعيشة ظهر لهم من يهددهم بالمثال الليبي والسوري، وقد يذهب البعض في التهديد إلى استنباط أفلام رعب سياسي ليبثها، فيضطر الناس إلى الصمت وبلع الدواء المر في شكل ضرائب وزيادات في الأسعار، فأين المفر من حكومتنا الذكية ومعارضتنا العتيدة؟ أين المفر من بين المطرقة والسندان؟ أين المفر من بين الغول وسَلاَّل العقول؟
بداية سنة مالية مضطربة
أقل ما توصف به بداية السنة هو الاضطراب، فقد صابحنا يومها الأول (وحلوى العيد لا زالت على موائد بعضنا) بزيادة مؤلمة في المحروقات والغاز المنزلي وضرائب أخرى على المواد الاستهلاكية الأساسية وما زال الحبل على الجرار، ونتوقع أن يدخل كل شهر جديد بزيادة جديدة تحمّل خاصة على أصحاب الرواتب الثابتة من الموظفين صغارهم وكبارهم وهم الأكثر عرضة للحصار الاقتصادي الذي تبرع فيه الحكومات المتتالية عبر آلية الاقتطاع من المصدر.
يروج رئيس الدولة بوجه باسم أن السّنة ستكون طيبة، إذ لم نقترض في السنة السابقة من البنوك الأجنبية وهذا كلام مغالط، فسنة 2017 سنة بلوغنا سقف القدرة على الاقتراض أو حافة الارتهان النهائي.
نحن لم نقترض لأننا لم نعد نملك هامشًا لذلك، فلم يبق إلا الاعتماد على مصادر الدين الداخلي أي ميزانية المواطن الفرد الذي تملك الدولة أن تنتزعه دون اعتراض منا. (يخفي الرئيس وحكومته أنهم اقترضوا من تركيا أردوغان الذي جاءنا من أيام قليلة يساعد ويفتح له عبر تونس له طريقًا في إفريقيا).
جوهر الاحتجاج أن الحكومة ليست وطنية بل حكومة سمسرة مع مؤسسات القرض الدولي وتعمل كمنفذ لأجندة تخريب للاقتصاد الوطني
يروج رئيس الحكومة أن نسبة النمو في السنة الماضية كانت إيجابية (2%) ولكنه يصر على إغلاق باب التشغيل في الوظيفة العمومية، بل يتحدث وزير المالية عن احتمال التسريح بالقوة خلال السنة الحاليّة بالنظر إلى ثقل أعباء الأجور العمومية على مصاريف الدولة.
إذًا ما مصداقية أخبار الحكومة وأحزابها المتوافقة على ميزانية مرت بقوة العدد النيابي لا بقوة المقترحات التي تقدمها للتونسيين؟
الاحتجاج الانتخابوي السفيه
أطلقت المعارضة اليسارية التي تقودها الجبهة الشعبية حملة احتجاج على الحكومة وتريد أن تحول يناير إلى يناير أحمر (حيث إن لتونس مع هذا الشهر تاريخ خاص من الاحتجاج).
وجوهر الاحتجاج أن الحكومة ليست وطنية بل حكومة سمسرة مع مؤسسات القرض الدولي وتعمل كمنفذ لأجندة تخريب للاقتصاد الوطني وهو خطاب كررته الجبهة الشعبية (حتى قبل أن تتشكل مكوناتها الحزبية في جبهة) فهو بمثابة سي دي قديم تضعه الجبهة في مسجلها في مفتتح كل سنة مالية وفي كل أزمة سياسية تمر بها البلاد ولفرط تكرار هذا الخطاب لم يعد أحد يستمع إليه أو يصدقه.
فالجبهة وإن أنكرت ممثلة عبر نقابتها القوية في قلب الحكومة (ووقعت على وثيقة قرطاج المرجعية)، فلو لم تقبل النقابة التي تحكمها الجبهة من رواء ستار لما مرت الميزانية، فضلاً على أن الميزانية مرت بين يدي رئيس اللجنة المالية بالبرلمان وهو نائب عن الجبهة كان بإمكانه أن يثير كل زوابع الكون (وهو مختص في إثارة الزوابع) عن الميزانية، فلا تمر إلى النقاش البرلماني حتى يتم تعديلها، لكن رئيس اللجنة مررها وناقشها ووافق عليها مع بقية نواب الجبهة ثم ظهر لاحقًا في الشارع يدعو إلى الاحتجاج على مضمونها، مما يفقد الاحتجاج كل مصداقية، ويدفع إلى السؤال المنهجي: ما علاقة هذه الدعوة بالانتخابات البلدية القادمة في شهر 5 من السنة الحاليّة؟
تخرس الحكومة وتخرس المعارضة بكل أطيافها عن الإشارة الخجولة إلى طبقة الفاسدين التي تزداد ثراءً وتفحشًا في الاستهلاك التفاخري الذي تترجمه في الشارع آخر تقليعات السيارات والملابس والعطور والعقارات الراقية
لا تفسير لهذه الثورية اللاحقة بعد معركة البرلمان إلا التفسير الانتخابي، فالجبهة تريد دخول البلديات بخطاب ثوري شعبي يظهر تعاطفًا مع الفقراء في حين تجلس نقابتها وبعض وزرائها المموهين (كوزير الشؤون الاجتماعية) حول وثيقة قرطاج التي تعتمدها الحكومة وصاغت الميزانية داخلها.
نحن إذًا بين حكومة كاذبة ومعارضة أكثر كذبًا ولا حول لنا ولا قوة بمعارضة صادقة، فبقية الطيف المعارض مشتت كأن بين مكوناته ثارت داحس والغبراء، وأعني بالتحديد حزب المرزوقي وحزب عبو.
الحاجة إلى انتحار جماعي
في هذا الوضع السريالي نحتاج أن ينتحر الشعب كله لتبقى الحكومة بلا موارد ضريبية وتبقى الجبهة الكذابة بلا جمهور انتخابي، لكننا لن ننتحر، فنحن تقريبًا ميتون وليس في هذا مبالغة.
موتنا يترجم من خلال هشاشة طبقة الموظفين الواسعة المرتهنة رواتبها للحكومة نفسها ولتجار المهربات الذين يتحكمون في سوق عشوائية من وراء ستائر الفساد في الجمارك والمراقبة العمومية المغشوشة على السلع، ومن خلال الابتزاز الذي يمارسه الموظفون في مواقعهم على بعضهم البعض، فقد صار كل ذهاب لقضاء شأن إداري يمر بالواسطة وكل واسطة بوابة فساد.
موتنا يترجم من خلال انهيار طبقة اجتماعية تعيش أدنى من الموظفين العموميين وتعمل بشكل متقطع في الزراعة والبناء ولا تختم الشهر إلا بصعوبة بالغة ومؤشراتها الاستهلاكية متدنية أمام ارتفاع جنوني في الأسعار التي لم يعد يتحكم فيها أحد.
إعلام يمنح الأوسمة لبطلة التعري ويستهين عامدًا بامرأة تونسية (العالمة الفذة حياة العمري) نالت تقدير العالم لعلمها وفكرها لمجرد ميلها إلى الإسلاميين وعملها معهم نائبة في البرلمان، وما هذه إلا معركة تفتح على الفوضى
هذه الطبقة تضم الفلاحين الصغار الذين أنتجوا صابة تمور قياسية وصابة زيوت ممتازة، لكنها وقعت بين أيدي سماسرة التجارة والتهريب، فلم ينلهم من جهدهم إلا القليل.
في الأثناء تخرس الحكومة وتخرس المعارضة بكل أطيافها عن الإشارة الخجولة إلى طبقة الفاسدين التي تزداد ثراءً وتفحشًا في الاستهلاك التفاخري الذي تترجمه في الشارع آخر تقليعات السيارات والملابس والعطور والعقارات الراقية.
هذه اللوحة السوداء مرعبة وأصر أنها لا تنبني على مبالغات نخبوية بل على معاينة ومعايشة لحال فقراء البلد الذين يزدادون فقرًا ويجدون وجوههم في مواجهة جدار الطبقة السياسية الأصم.
الطبقة المشغولة بأعمال القوادة الرخيصة لنظام الإمارات الذي تجرأ على إهانة شعب بكامله متهمًا نساؤه بالإرهاب، والمنشغلة بمعركة التحاسد البيني الذي تقوده أفكار عششت في رؤوس نخبة مريضة بالتنافي الأيديولوجي المقيت الذي رغم نفور الشعب منه ما زال يملك وسائل إعلام شرسة تخرب عقول الناس بجرها إلى مربعات هامشية مثل حق المثليين في الزواج المثلي أو واجب الحكومة في الحفاظ على حياة الكلاب السائبة.
إعلام يمنح الأوسمة لبطلة التعري ويستهين عامدًا بامرأة تونسية (العالمة الفذة حياة العمري) نالت تقدير العالم لعلمها وفكرها لمجرد ميلها إلى الإسلاميين وعملها معهم نائبة في البرلمان، وما هذه إلا معركة تفتح على الفوضى.
أين نحن ذاهبون في سنة 2018؟ كان يجب أن نكون الآن في الشوارع محتفلين بثورتنا السلمية ولكننا منكبون على معالجة همومنا المادية الدنيا لأن الحكومة والمعارضة (الطبقة السياسية الفاسدة بكل مكوناتها) تصر على إرغامنا على التفكير في بطوننا لكي لا ننصرف إلى الانشغال بأكثر من ذلك.
يوجد أكثر من الاهتمام بالخبز الأدنى، لكن سيمر ذلك حتمًا بإعادة بناء نخبة سياسية مختلفة لا تزال تتشكل في رحم الغيب، وقد تؤجل مسائل الخبز ميلادها العبقري في مفتتح سنة جديدة لثورة ولدت من خارج النخب ولكنها لم تنج من شرهها الفج إلى السلطة.