الاتفاق بشأن النزاع النووي، نهاية سنوات طويلة من العقوبات الاقتصادية المفروضة من الغرب، دعم قوى الإصلاح فى الانتخابات، وصلت هذه الأخبار الإيجابية في يوم ما من إيران، إحدى بقاع العالم التي نادرًا ما يصل منها أخبار إيجابية، لكن التوترات الجديدة الواقعة بينها وبين جارتها المملكة العربية السعودية، وكذلك المؤشرات الاقتصادية المتأرجحة ترسم صورة دولة لم تجد طريقها للهدوء مطلقًا.
ويرنر فان جينت (مراسل جنوب شرق أوروبا لوسائل الإعلام السويسرية والألمانية)، وأنطونيا بيرتشينجر (عملت كاستشاري قضايا حقوق الإنسان في السفارة السويسرية في طهران) يقفان في كتابهما: (إيران مختلفة: ما وراء كواليس الدولة الثيوقراطية) على ما وراء تلك الأحداث الراهنة، ويكشفان ما وراء كواليس الدولة الثيوقراطية.
وكان خبراء الشأن الإيراني، السويسريان فان جينت وأنطونيا، قد قدَّما كتابهما لأول مرة في 2010، بعد عام واحد من قمع الاحتجاجات الجماهيرية ضد إعادة انتخاب الرئيس الإيراني السابق أحمدي نجاد.
وتشكل الأحداث المفاجئة في صيف عام 2009 في طهران، فصلًا مركزيًا من الكتاب، وكأنها جدُّ شبيهة بتلك الاحتجاجات التي تشهدتها الشوارع الإيرانية هذه الأيام، “ففي ضربة واحدة، استيقظ الشباب من اللامبالاة، واستعادوا أصواتهم وبدأوا في الاحتجاج بصوت عالٍ وبعناد ضد الجمهورية الإسلامية”.
إيران مختلفة
في عام 2007، بدأ الكاتبان مشروعهما المشترك وتجاوزوا الأحداث السياسية بعد ذلك بعامين، وقد كان كل منهما في موقف صعب عندما قرر الكتابة عن إيران بشكل محايد، إذ كان ذلك بمثابة المغامرة والسباحة ضد التيار.
وبلغَت الصعوبة ذروتها عندما عجزت المحاولات عن تصحيح صورة إيران المحملة بالكثير من الأحكام المسبقة، “وهناك دائمًا مشاهد جديدة ناشئة، ونادرًا ما تجد ما تتوقع أو ما كنت تريد أن تسمع عن إيران، لأنها دائمًا مختلفة تقريبًا عما كنت تعتقد”.
وقد ربط المؤلفان ذلك الجانب الخفي لإيران بالتحليلات السياسية والخلفيات التاريخية التي تتجاوز المشكلات المألوفة للغاية والإجابات المفترضة الواضحة، “فإيران أكبر بكثير من مسألة الحجاب أو الخطاب المناهض للغرب”.
يرى المؤلفان أن “إيران بلد مليء بالتوترات والتناقضات، وقد تعلم الإيرانيون أن يعيشوا في هذه الأجواء، ومن يريد أن يفهم هذا البلد عليه أن يُقدم على اتباع منظور مغاير”
وعرف ويرنر هذا البلد منذ الثمانينيات عندما كان مراسلًا ينقل أخبار الحرب الإيرانية العراقية لصحيفة بيرنر تسايتونج الألمانية، وقبل عدة سنوات بدأ جمالها يستولي على مخيلته منذ عمله كمرشد سياحي للمجموعات السياحية في إيران، ولا يزال آسف لأنه لا يكاد يتكلم الفارسية.
وعلى النقيض من ذلك، درست أنطونيا بيرتشينجر الفارسية، وتعترف بأنها تفضل قراءة الشعر، لأنه يساعدها في رواية الكثير عن العقلية الإيرانية، وخاصة عن حبها للباثوس (المعاناة المستشفقة) والشعر، وتقول: “في إيران يحب الناس البكاء”.
والنتيجة أن هذا الكتاب يوضح كيف أن إيران لا تعد بشكل رئيسي إشكالية بل بلد ذو ثقافة حيوية للغاية ومكان للاستمتاع، ولكنها بلد حزين جدًا فهي بلد اليأس، وأيضًا بلد النهضة.
ويرى المؤلفان أن “إيران بلد مليء بالتوترات والتناقضات، وقد تعلم الإيرانيون أن يعيشوا في هذه الأجواء، ومن يريد أن يفهم هذا البلد عليه أن يُقدم على اتباع منظور مغاير”.
وواقعيًا، ليس هناك بلد لديها صورة سلبية في الغرب مثل إيران، حيث الثقافة الفارسية منذ آلاف السنين والآثار الرائعة وغيرها من الأشياء التي تتراجع في الإدراك العام بسبب التعصب الديني والانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان، إلا أن من يعيش قليلاً في إيران فإن استمتاعه بالحياة يكون قليلاً.
وفي كلا المجتمعين يتحدث المؤلفان على حد سواء عن إيران داخليًا، غير متجاهلين الجانب السلبي بها، ولكنهما أيضًا يسلطان الضوء على فرص وإمكانيات هذا البلد.
لقاء مع أحد مؤلفي الكتاب ويرنر فان جينت
ما وراء الدولة الثيوقراطية
رغم التأثير الإيراني الكبير في صياغة مستقبل المنطقة، فإن هذا البلد غير معروف تمامًا لدى الكثيرين، فإيران واحدة من أهم الدول التي تلعب دورًا مؤثرًا في فوضى الشرق الأوسط، وهي دولة ساحرة ذات تعدد فكري، ويصف هذا الكتاب ذلك البلد وشعبه وأيضًا “الكلشيهات” الرائجة به.
وترى أنطونيا أن إيران في السنوات الأخيرة – رغم الحكم الاستبدادي – دولة حديثة ونشطة ومنفتحة، حيث أصبحت بعد ثورة 1979 أقل تدينًا وأكثر واقعية ونسائية.
وتتساءل: “هل تعلم أن عدد النساء التي تدرس في إيران أكبر من عدد الرجال؟ وأن واحدًا فقط من كل اثنين يتكلم بلغته الأم؟”.
هذه الصورة التي ترسمها المؤلفة أعطت للمجتمع الكبير من المشهد المسرحي الحضري للشيعة المسلمين وطقوس الأكراد الصوفيين، وطقوس السبت في العائلة اليهودية، وتقول: “الحياة اليومية يُنتهك فيها قواعد النظام ويتعين إعادة النظر في المجتمع المدني والأخلاق الدينية”.
في الوقت نفسه تحلل صورة إيران عالميًا وهوس الإيرانيين بالفخر الوطني الذي يجعل لديهم خليط من الشعور بالكبر والعُقَد وخوفهم غير المفهوم أحيانًا من الغرب.
ويعرض المؤلفان بعض الأوجه غير المتوقعة المضحكة بشكل مذهل، بداية من عصافير الكناري قارئة الطالع وذائعة الصيت بين مربي الطيور، إلى الشعر الثوري، ومنه قصيدة نشرت تحت اسم مستعار “ماندانا” على شبكة الإنترنت، فتسببت في مقتل صاحبها.
حتى سر الثوم المزروع في شمال إيران الذي يُستخلص منه منتجات شامبو للشعر تمتاز بروائح غريبة، وفي حين يحتفل الإيرانيون بالنيروز( رأس السنة الفارسية)، يحتل الثوم جزءًا من الطاولة المعروفة باسم (Seven-Seen) والتي تُعرض في رأي السنة الفارسية.
ومن خلال تلك التفاصيل يدخل القارئ إلى أجواء الحياة اليومية في إيران التي ستبدو له في البداية مختلفة للغاية، إلا إنها بعد ذلك ستبدو مألوفة.
إيران التي لا نعرفها
ثمة معلومات شحيحة جدًا عن إيران، حتى إنك “لا تستطيع العثور على سوق طهران للأوراق المالية على موقع بلومبيرغ”، وعند الحديث أو السماع عنها تتبادر إلى الأذهان موقفها الجيوستراتيجي في المنطقة، “فالقليل منا يعرف شيئًا عن هذا البلد التاريخي بعيدًا عن السياسة والانقسام اللذين أصبحا مرادفين أساسيين كلما ذُكرت الجمهورية الإسلامية”.
ويستعرض المولفان لائحة بأهم الحقائق عن إيران، وتشمل قائمة المحظورات طويلة:
– في إيران، لا تقتصر الرقابة على الصحافة واستخدام الإنترنت، بل تشمل مختلف مناحي الحياة الاجتماعية أيضًا، حيث تفرض السلطات ضوابط ومعايير خاصة تحددها قراءة الدولة للدين والعرف والأخلاق.
تُمنع المرأة في إيران من حضور ومشاهدة الأحداث الرياضية مباشرة، مما يجعل بعض السيدات والفتيات الإيرانيات يرتدين ملابس رجالية لحضور مثل هذه الأحداث
– الإيرانيون لا يعرفون أنهم أناس خطيرون إلی درجة تدفع البعض إلى توصية الآخرين بعدم الاقتراب منهم أو حتی الحديث معهم، “ولو سألتم الإيرانيين العاديين: لماذا تكذبون علی أهل السنّة وتجيزون قتلهم، لبقوا صامتين متعجبين وهم ينظرون إليكم بابتسامة مصحوبة باستغراب شديد”.
– بينما ينتشر “البرقع” في كل مكان، تتراجع الأغطية عن مقدّمة الرؤوس بين الشابات وتزدهر عمليات التجميل، مع عدد مذهل من عمليات الأنف البارزة على وجوه الجنسين.
– تحاول السلطات الإيرانية منذ الثورة في عام 1979 فرض نمط محدد من الحياة على المواطنين الإيرانيين، لتشمل المجالات الاجتماعية والثقافية والفنية كافة بهدف إبعاد الشباب عن المعايير الغربية للحياة.
– تُمنع المرأة في إيران من حضور ومشاهدة الأحداث الرياضية مباشرة، مما يجعل بعض السيدات والفتيات الإيرانيات يرتدين ملابس رجالية لحضور مثل هذه الأحداث.
– تمنع إيران ارتداء رابطة العنق التقليدية المكملة للزي الرسمي للرجال في مختلف أنحاء العالم، وذلك لاعتبارها أحد العلامات المميزة لاتباع الثقافة الغربية التي يناصبونها العداء.
تُنقل المشروبات الكحولية في إيران داخل حاويات (جراكن) معدة لنقل المواد البترولية، وذلك نظرًا لكونها ضمن المواد المحظور تداولها
– تفرض وزارة الإرشاد الإيرانية قصات شعر محددة على دور الحلاقة للرجال، وتمنعها من أي قصة شعر رجالية لا تتطابق مع تلك المسموح بها، بدعوى الحيلولة دون تبعية الشباب للموضة الغربية أو الشرقية، وأنها تنظم ذلك بالتعاون مع المتخصصين في هذا المجال وبعض المؤسسات التعليمية.
– من الناحية الاجتماعية، تتزوج الفتيات الإيرانيات بمجرد بلوغهن سن الحيض، أما الشباب الذين لم يتزوجوا بعد فيأخذون لقب “نا-مارد” التي تعني “ليس رجلاً”، لأنهم لا يزالون يقيمون برفقة عائلاتهم.
– تُنقل المشروبات الكحولية في إيران داخل حاويات (جراكن) معدة لنقل المواد البترولية، وذلك نظرًا لكونها ضمن المواد المحظور تداولها.
– وعن الطبقية، يبدو أن رؤية إيرانيين في إيران يعيشون حياة لم نر ما يشبهها أو نسمع عنها يومًا أمرٌ مغر، لذلك لم تنجح حسابات (RichKidsOfTehran) على إنستغرام من حيث المتابعة والتغطية والأداء في تقليد أطفال بيفيرلي هيلز، كما نجح أطفال أغنياء طهران.
باختصار، من المؤكد أن ذلك الكتاب سيخلق بداخلك الرغبة لتعرف خبايا هذا البلد، وربما تتعرف من خلاله على الأسباب التي تدفع الإيرانين إلى الاحتجاج الآن، كما حدث في 2009.