ترجمة وتحرير: نون بوست
دب اليأس في غرف الأخبار الأمريكية بعد انتخابات سنة 2016، حيث لم يقتصر الأمر بالنسبة لمعظم وسائل الإعلام على فشلها في توقع نتيجة الانتخابات فقط، حيث انتابهم شعور بالإحباط، نظرا لأنه، وحسب أحد زملائي، “ما نقوم به لا طائل منه”. في المقابل، أدت موجة اليأس إلى إيجاد حل مغاير تولد عنه خلق المزيد من الاشتراكات، وذلك استنادا على الاعتقاد المشترك الشائع بأنه طالما أن هناك المزيد من الأشخاص الذين يتابعون أخبار وقصص أكثر دقة، سيسمح ذلك بانقاذ الديمقراطية الأمريكية.
وفقا لما يتصوره الجميع، ينقسم الجمهور الأمريكي إلى فئتين متساويتين تقريبا، وهما “الفقاعة الليبرالية” “والفقاعة اليمينية”. في الواقع، لم يكن هناك دليل واضح يثبت أن هذه الصورة واقعية، في حين تثبت مجموعتان من البيانات أن هذا التصور خاطئ. وتتمثل المجموعة الأولى من البيانات في دراسة شاملة حول مدى تأثير الأخبار المزيفة. أما المجموعة الثانية من البيانات فهي متأتية بالأساس من استطلاعات للرأي حول مشروع قانون الإصلاح الضريبي الذي أقره الكونغرس ووقع الرئيس ترامب عليه في كانون الأول/ ديسمبر. وتهدم هذه البيانات نظرية الفقاعتين، في حين تثبت أن معظم الأميركيين على علم بما يدور من حولهم وأقل سذاجة مما هو سائد. ويؤكد هذا الأمر بدوره أن محاربة “الأخبار الزائفة” ليست الحل، ولكن ربما تكون تلك الأخبار الحل لمشاكلنا السياسية الراهنة.
بالعودة إلى الدراسة المتعلقة بالأخبار الزائفة، جمع ثلاثة علماء في مجال السياسة من ثلاثة جامعات مختلفة، وهم أندرو غاس من جامعة برينستون وبريندان نيهان من جامعة دارتموث وجاسون ريفلر من جامعة إكستر، البيانات الصادرة عن حركة مرور الويب خلال الشهر الذي سبق الانتخابات وبعد أسبوع واحد من انتهائها، وذلك في ظل التعاطي مع استطلاع رأي عام طال 2525 أمريكيا، من أجل تحديد الأفراد الأكثر عرضة للأخبار الزائفة ومدى تعرضهم لها.
في تعريفهم لمفهوم “الأخبار الزائفة”، اعتمد العلماء على دراسة حديثة أجراها أستاذا الاقتصاد، هانت ألكوت وماثيو جينتزكو الذين فحصا مختلف القصص “التي زيفت عمدا وتم التأكد من زيفها من أجل تضليل القارئ”. وتؤكد هذه الدراسة أن كل الأمريكيين البالغين كانوا عرضة مرة واحدة على الأقل للأخبار الزائفة خلال الانتخابات الرئاسية 2016، إلا أن عددا قليلا منهم قد صدق تلك الأخبار، وبالكاد تبلغ نسبتهم 8 بالمائة.
من خلال دراسة جديدة، ارتكزت على مقاربات مختلفة حول جمع البيانات، على غرار مزج المشاركات عبر مواقع التواصل الاجتماعي ومختلف أنماط الربط التشعبي واللغة المستخدمة، تم التوصل إلى نتائج مماثلة
في الأثناء، تعتمد الدراسة التي أجراها العالمين في الاقتصاد على ما تذكره الأفراد من أخبار تعرض لها، بينما استخدمت الدراسة التي أجراها علماء السياسة بيانات أكثر دقة. بيد أن النتائج كانت متشابهة. بادئ ذي بدء، تبين للعلماء أن أنصار ترامب تعرضوا لأخبار زائفة داعمة لترامب، بينما تعرض أنصار هيلاري كلينتون لأخبار زائفة داعمة لها. ولكن أنصار كلينتون كانوا أقل استهلاكا للأخبار الزائفة مقارنة بأنصار ترامب.
في سياق متصل، لم تتطرق الدراسة بشكل مباشر للإجابة عن التساؤل بشأن كيفية ترسخ هذه الميولات الانتخابية في صفوف الناخبين حتى قبل تعرضهم للقصص الزائفة. في المقابل، خلص الباحثون إلى أن مدى تأثير الأخبار الزائفة كان عميقا ولكن على مستوى ضيق. أما الخبر الأبرز والأهم، فيتمثل في أنه وعلى الرغم من أن عددا كبيرا من الأشخاص كانوا عرضة للأخبار الزائفة، إلا أن عددا محدودا فقط تأثر بها، وذلك استنادا على احتساب عدد التقارير المشابهة التي اطلعوا عليها. ووفقا لاستطلاعات الرأي التي أجراها علماء السياسة، 10 بالمائة فقط من متابعي الأخبار، عمدوا إلى تتبع الأخبار الزائفة، وقد اطلعوا على قرابة 33.16 بالمائة من القصص الزائفة.
من خلال دراسة جديدة، ارتكزت على مقاربات مختلفة حول جمع البيانات، على غرار مزج المشاركات عبر مواقع التواصل الاجتماعي ومختلف أنماط الربط التشعبي واللغة المستخدمة، تم التوصل إلى نتائج مماثلة. كما ورد في تقرير نشرته “كولومبيا جورناليست ريفيو” في شهر آذار/ مارس الماضي، أن باحثين وعلماء من جامعة هارفارد وريتسوميكان ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا قد توصلوا إلى أن “الاستهلاك الإعلامي” قد تميز بعملية استقطاب غير متكافئة.
بعبارة أخرى، وعوضا عن تشكل فقاعتين، فقد تشكلت فقاعة واحدة تموقعت إلى اليمين من الطيف السياسي. وأظهرت الدراسة أن غالبية الأمريكيين يستقون الأخبار من مختلف وسائل الإعلام. في الوقت ذاته، يطلع الأمريكيون على الكثير من الآراء المختلفة التي لا يتبنونها. وبالتالي يمكن القول إنهم لا يعيشون في محيط يعكس رؤاهم وأفكارهم بشكل متكرر.
أما النقطة الثانية المثيرة للاهتمام في الدراسة التي أجراها كل من غاس ونيهان وريفلر، فتتعلق بمدى نجاعة التقارير المتعلقة بالتحقق من الأخبار الزائفة أو لنقل عدم فاعليتها على اعتبارها تقارير أو مواقع مخصصة للغرض على الإنترنت، على غرار قسم كشف الحقائق التابع لصحيفة واشنطن بوست بالإضافة إلى “بوليتيفاكت”. وفي هذا الصدد، قال الباحثون: “لم نتوصل فقط إلى أن استهلاك التقارير المتعلقة بالتحقق من الأخبار يقتصر على الأفراد الذين لا يتعاطون مع الأخبار الزائفة، ولكن لم نلحظ أي تجاوب من قبل القراء مع التقارير التي تعمد إلى التحقق من الأخبار المزيفة من بين التقارير التي يقرؤونها”.
تتمثل النتيجة الأبرز والأكثر اتساقا والمخالفة للحدس الشائع لهذه الدراسات في أنها عمدت إلى هدم الصورة التي تحيل إلى أن الجمهور الأمريكي مقسم إلى فقاعتين حزبيتين متساويتين
من جانب آخر، أشارت الدراسة التي نشرت في كولومبيا جورناليست ريفيو إلى أنه في الوقت الذي بالكاد يطلع فيه جماهير فقاعة اليمين الإعلامية ببقية وسائل الإعلام، انتقل أسلوب الخطاب المعتمد في بريتبارت إلى وسائل الإعلام الرئيسية. كما حدد الباحثون الموضوعين الذين أثارا القصص الكاذبة، وهما الرسائل البريدية الإلكترونية لهيلاري كلينتون والتهديد الذي تمثله الهجرة، في حين تعقبا التركيز غير المتكافئ لوسائل الإعلام الرئيسية على هاذين الموضوعين وهاجس مواقع الأخبار المزيفة بهما.
بعد الرصد تبين أن تلك التقارير العقيمة حول التثبت من الحقائق قد تكون العنصر الأول الذي دفع نحو الانتقال لوسائل الإعلام الرئيسية، على غرار المثال الذي نشرته واشنطن بوست حول التثبت من تصريحات ترامب خلال حوار له مع الإعلامي المؤمن بنظرية المؤامرة شان هانيتي، حيث أكد أن الرسائل البريدية الإلكترونية لهيلاري كلينتون قد تسببت في مقتل منشق إيراني.
على الرغم من ذلك، تتمثل النتيجة الأبرز والأكثر اتساقا والمخالفة للحدس الشائع لهذه الدراسات في أنها عمدت إلى هدم الصورة التي تحيل إلى أن الجمهور الأمريكي مقسم إلى فقاعتين حزبيتين متساويتين. ولعل أبرز دليل على ذلك، البيانات المتأتية من استطلاعات الرأي المتعلقة بالإصلاح الضريبي، التي أكدت أن معظم الأمريكيين يتقاسمون وجهة نظر واقعية. وتظهر استطلاعات الرأي الواحدة تلو الأخرى أن الناخبين مُعارضون لمشروع قانون الضرائب، وأن قرارهم يستند إلى قواعد ثابتة، حيث يؤمنون أن هذا القانون سيخدم مصلحة الأغنياء في المرتبة الأولى.
في حال وجد بالفعل فقاعتين من المعلومات متساوية الحجم في هذا البلد، فيمكن للمرء أن يتوقع أن يصدق نصف المواطنين ادعاءات ترامب المتكررة حول حقيقة أن مشروع القانون سيساهم بشكل ما في خفض الضرائب على الطبقة الوسطى. كما يمكن للمرء أن يتوقع تأييد نصف الناخبين إلغاء قانون “الرعاية الصحية الأمريكي”. لكن أغلبية الأميركيين يدعمون منظومة أوباماكار ولا يدعمون قانون الضرائب، وهذا أوضح دليل على أن التقارير المعمقة وذات المصداقية تعد مهمة للغاية.
قد يكون لدى أعضاء الكونغرس الذين صوتوا لصالح مشروع قانون الضرائب، الذي سيصب في مصلحة الأثرياء والذي سينهي منظومة أوباماكار، ما يبررون به موقفهم. فقد آثروا ارضاء مانحيهم على حساب ناخبيهم، لاعتقادهم بأن التأييد الحزبي والتلاعب سيمكنانهم من الحفاظ على مقاعدهم. بعبارة أخرى، يعد الجمهور المستنير شرطا ضروريا للديمقراطية، ولكنه ليس شرطا كافيا. قد تموت الديمقراطية في الظلام، ولكن الحقيقة أيضا لن تضمن لها البقاء.
المصدر: نيويوركر