أحدثت ثورة المعلومات وما نتج عنها من تطورات هائلة في مجال تكنولوجيات الإعلام والاتصال طفرة نوعية مسّت مجالات الحياة كافة، وقد أفرز التطور المعلوماتي عدة مظاهر وتقنيات جديدة على غرار الإنترنت وما تبعه من آليات جديدة إلى غاية ما يعرف بالشركات الرقمية الكبرى ومنصات التواصل الاجتماعي التي أحدثت طفرة في مجال التواصل وجعلت من العالم مجرد قرية صغيرة.
ولم يقتصر استخداماتها على الشعوب فقط بل تجاوزت ذلك إلى قادة وزعماء الدول والمنظمات الدولية الحكومية منها وغير الحكومية، ولعلّ هذا ما أثر بشكل مباشر على واقع العلاقات الدولية وجعل الدول مجبرة للتعاطي والتواصل وفق منطق جديد تؤدي فيه التكنولوجيا دورًا حاسمًا، هذا المنطق الجديد تجسدّ في مفهوم الدبلوماسية الرقمية، وبدأت بوادر هذه الدبلوماسية بالتشكل منذ سنة 2002 حين أقدمت الخارجية الأمريكية على تأسيس مكتب خاص بالدبلوماسية الإلكترونية.
أمّا مؤخرًا فقد عيّنت الدنمارك “كاسبر كلينغ” في سبتمبر 2017 كسفير في وادي السيليكون (كاليفورنيا، الولايات المتحدة) الذي يحتضن كبريات شركات التكنولوجيا والتواصل الاجتماعي في العالم على غرار “آبل” و”إنتل”، وقال السّفير التكنولوجي كاسبر كلينغ في تصريحاته: “بعض الشركات التكنولوجية لها تأثير كبير على كل البلدان”، ويضيف “هذا يؤكد تمامًا الحاجة إلى تيكبلوماسي”.
الدول التي لا تستطيع الدفاع عن مصالحها في المجال الرقمي ولا حتى حماية نفسها من تبعات الحرب الإلكترونية هي بمثابة دول ضعيفة
وتيكبلوماسي التي استخدمها السفير جمع بين كلمتي تكنولوجيا ودبلوماسية، ومشت فرنسا في نفس الخط، فقامت بدورها بتعيين دافيد مارتينون سفيرًا لشؤون المجال الرقمي في نوفمبر من العام نفسه، يتجلى اختصاص السفير الرقمي الجديد في العمل على القضايا التي تتعلّق بالمجال الرقمي والتي تقع ضمن نطاق عمل وزارة أوروبا والشؤون الخارجية مثل المفاوضات الدولية بشأن أمن الفضاء الإلكتروني وحوكمة الإنترنت والشبكات، وحرية التعبير عبر الإنترنت والمسائل المتعلقة بالملكية الفكرية عبر الإنترنت، ودعم صادرات منشآت المجال الرقمي.
إن كل ما سبق يعكس مدى تأثير العالم الرقمي على واقع العلاقات الدولية وكيف ساهم في تغيير آليات التواصل وجعل الدول خاصة القوية منها ملزمة في الدفاع عن مصالحها داخل هذا العالم ولدى الشركات المهمينة فيه، فالدبلوماسية الرقمية خلقت لنفسها قنواتها الجديدة التي تختلف عن القنوات الدبلوماسية التقليدية، وهي دبلوماسية قائمة بذاتها لها أسلوبها الخاص الذي يختلف عن الدبلوماسية التقليدية، ومن إيجابيات هذه الدبلوماسية الجديدة أنها شفافة وسريعة وقوة تأثيرها ظاهرة للعيان، وهي ليست حكرًا على الدول وإنما يمكن أن يمارسها أشخاص وجماعات ومنظمات.
أما أبرز سلبياتها غياب قانون دولي ينظمها، وأخطار القرصنة والحرب الإلكترونية، فلا أحد ينكر اليوم أن الهجمات الإلكترونية باتت أخطر من أي هجوم عسكري، كما أن التجسس الإلكتروني يعد أخطر أنواع التجسس على مرّ التاريخ.
الدبلوماسية الرقمية أضحت اليوم واقعًا معاشًا قد لا تفصح عنه المفاهيم المتداولة حاليًّا في الأوساط السياسية والإعلامية
وفي كل الحالات، فإن هذا العالم الافتراضي وما يضمه من مواقع وشركات رقمية أصبح أمرًا واقعًا في عالمنا، ويتدخل في حياتنا اليومية ويؤثر على الدول وعلاقاتها الخارجية السياسية والتجارية، ولعل حجم التجارة الإلكترونية العالمية الذي بلغ 23 تريليون دولار عام 2016 أبرز دليل على ذلك.
إن المتأمل في المشهد الدولي يجد أن الدول أصبحت مجبرة على التأثير في هذا العالم الرقمي، فهذا الأخير أصبح من بين مؤشرات قياس مدى قوة الدول، فالدول التي لا تستطيع الدفاع عن مصالحها في المجال الرقمي ولا حتى حماية نفسها من تبعات الحرب الإلكترونية هي بمثابة دول ضعيفة.
إن الدبلوماسية الرقمية أضحت اليوم واقعًا معاشًا قد لا تفصح عنه المفاهيم المتداولة حاليًّا في الأوساط السياسية والإعلامية غير أن الإجراءات التي باشرتها فرنسا والدنمارك على سبيل المثال لا الحصر دليل على وجودها أو على الأقل بداية تشكلها، ولا بد أن المستقبل يحمل في طيّاته العديد من التغيرات التي ستطرأ على العلاقات الدولية خاصة أننا أمام تشكل عالم رقمي ستتغير فيه الأساليب والمفاهيم الكلاسيكية إلى أخرى جديدة أكثر تكيفًا مع منطق الثورة الرقمية.