تزخر المراكز العلمية التاريخية في موريتانيا، والمكتبات العتيقة المنتشرة في العديد من المدن التاريخية للبلاد على غرار شنقيط وتيشيت وولاتة، بعشرات الآلاف من المخطوطات النادرة المكتوبة بالخط العربي، ورغم ذلك لم يتطور فن “الخط العربي” في هذه البلاد، بل شهد تراجعًا متواصلاً، على عكس الدول المجاورة، مما جعل العديد من الخطاطين يسعون جاهدين للنهوض بهذا الفن.
الخط العربي المغربي: أقرب إلى العفوية والتلقائية
يعتبر فن “الخط العربي” من أصعب الفنون الإسلامية التي تتطلب مهارات عالية في تطبيق القواعد وذوقًا رفيعًا في التركيب والتنسيق، مما جعل العديد يتهافتون لتعلم هذا الفن المفعم بكل ما هو جميل وأصيل، وقد كان هذا الفن في بداياته مجرد أداة للكتابة، وأصبحت له مع وحي الإسلام قيمةٌ مميزة، كما أصبحت له بسرعةٍ كبيرة، في قلب الحضارة العربية الإسلامية، استخدامات ثُلاثية، دينية ووظيفية وتزيينية.
رغم عدم تطور الخط العربي المغربي، فقد عملت الدول المغاربية خاصة تونس والمغرب على الاعتناء بهذا الفن والسعي إلى إعلاء مكانته لدى النشء، عكس موريتانيا التي بقيت، الاستثناء
ويوجد في الخط العربي مدرستان بارزتان، لكل منهما خصائصها وفروعها: مدرسة الخط المشرقي ومدرسة الخط المغربي، وقد عرفت المدرسة الأولى تطورًا كبيرًا خاصة أنها كانت في مركز الحضارة الإسلامية، على عكس المدرسة الثانية.
ولم يعرف الخط المغربي الذي هو أصل الخط الشنقيطي، التطور، وإنما ظل أقرب إلى العفوية والتلقائية، وإن كانت له سمات جمالية مشتركة، وأخرى تعود للتجميل الذي يقوم به كل خطاط، انطلاقًا من حاسته الفنية، ولكن ذلك كله لم يتطور إلى قواعد يمكن ضبطها والقياس عليها، كما حصل للخط المشرقي الذي استطاع الوزير ابن مقلة البغدادي (ت: 328 هـجريًا) تقعيدَه في وقت مبكر، عن طريق النقطة “المعينة” هندسيًا التي جعلها الوحدة المعيارية لقياس نسبة كل حرف، وبذلك صار الخط المشرقي يعرف بـ”الخط المنسوب”.
حديث نبوي شريف بالخط العربي
ورغم عدم تطور الخط العربي المغربي، فقد عملت الدول المغاربية خاصة تونس والمغرب على الاعتناء بهذا الفن والسعي إلى إعلاء مكانته لدى النشء، عكس موريتانيا التي بقيت، الاستثناء، فلا معارض فنية خاصة بهذا الخط، ولا مشاركة في أي مسابقة دولية، ولا اهتمام بهذا الفن العربي الأصيل في المدارس بمختلف مراحلها.
أسباب التراجع
تراجع مكانة الخط العربي في موريتانيا، يرجع، حسب عديد من الخبراء، إلى عدم اهتمام الأجيال الناشئة من الموريتانيين بفنون الخط عكس أسلافهم الذين تركوا تراثًا هائلاً من المخطوطات المكتوبة بالخط العربي التي تدل على علو الهمة التي تمتعوا بها رغم الظروف القاسية في البلاد.
أينما أدار المرء عينيه في الآثار الإسلامية القديمة في موريتانيا يجد كلمات مكتوبة بخط جميل وزخرف إسلامي بديع
ويرى عدد من الخطاطين في البلاد إمكانية الاستلهام من النماذج الفنية الرائعة التي تقدمها تلك المخطوطات المنتشرة في مختلف مكتبات البلاد التقليدية الراجعة للدولة أو المملوكة من أناس عاديين ورثوها عن أجدادهم، والبناء عليها، لإحياء الخط الشنقيطي الأصيل.
مخطوطة قديمة كتبت بالخط العربي
واحتل الخط العربي في بلاد شنقيط التي يعد “فن الخط” إحدى صناعاتها في العصور السابقة مكانة كبيرة، حيث نال الخطاطون هناك كل حفاوة ورعاية وتكريم، وذلك لعناية الموريتانيين القدامى واعتزازهم بهذا الفن العربي الأصيل، فأينما أدار المرء عينيه في الآثار الإسلامية القديمة في موريتانيا يجد الكلمات المكتوبة بخط جميل وزخرف إسلامي بديع.
مركز ابن مقلة للخط العربي والزخرفة الإسلامية
بداية شهر ديسمبر من العام الماضي، أعلن مجموعة من الخطاطين الموريتانيين، إنشاء أول مركز من نوعه للخط العربي في موريتانيا، أطلقوا عليه اسم “مركز ابن مقلة للخط العربي والزخرفة الإسلامية”، ليكون بذلك ملتقى للخطاطين الذين لم يكن لهم من قبل إطار جامع، ليجتمعوا فيه وينسقوا الجهود ويتبادلوا الخبرات والأفكار، حيث كان بعضهم يقوم بجهود متفرقة لإحياء هذا الفن من خلال دورات تحتضنها المراكز الثقافية.
يسعى القائمون على هذا المركز الجديد إلى تطوير الخط العربي الشنقيطي، ليدخل مجال المنافسة إلى جانب الخطوط العربية المغاربية والمشرقية
ويهدف “مركز ابن مقلة للخط العربي والزخرفة الإسلامية”، إلى إحياء هذا الفن الأصيل في بلادٍ عرفت بكونها منارة العلم والأدب في المغرب العربي، وتضم مكتباتها آلاف المخطوطات التي تدل على ما وصل إليه الأجداد من تقدم في مجال الخط والمخطوط، على الرغم من قسوة الظروف التي عاشوا فيها.
شعار المركز
ويسعى القائمون على هذا المركز الجديد إلى تطوير الخط العربي الشنقيطي، ليدخل مجال المنافسة إلى جانب الخطوط العربية المغاربية والمشرقية، عبر إقامة المعارض الفنية والدورات والورشات والصالونات الفكرية والثقافية، فضلاً عن تضمين مادة الخط العربي في المناهج المدرسية في البلاد، بالتعاون مع المؤسسات التعليمية.