ترجمة وتحرير: نون بوست
خلال العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، تمكن العلماء من إثبات أن أسوأ الأمراض التي تصيب البشرية هي من صنيع البكتيريا والجراثيم، وجاءت تلك الإثباتات بشكل سريع. وما إن تنتهي سنة، حتى يسند مرض شائن جديد مثل الجذام والسيلان والخناق والسل والطاعون والكوليرا والإسهال، لبكتريا تم التعرف عليها حديثا. ولقد أثر هذا المفهوم، الذي يقوم على أساس تسبب جرثومة واحدة في مرض واحد، على طريقة تفكيرنا في تعاملنا مع الأمراض منذ ذلك الوقت. وقد أوصلنا إلى حل غاية في الوضوح يتمثل في أن معالجة موطن الخلل سيؤدي حتما إلى الشفاء.
في المقابل، تبقى الصلة بين الميكروبات وتدهور الحالة الصحية أكثر تعقيدا، خاصة وأن أجسادنا تمثل موطنا لعشرات التريليونات من البكتيريا، وإن كان معظمها حميدا أو حتى مفيدا لصحة الجسم. وفي كثير من الأحيان، قد تتحول ما يطلق عليها بالجراثيم إلى الحالة السلبية أو المرضية.
على سبيل المثال، قد يسبب الالتهاب المعوي في تكون عدد كبير من البكتيريا من عائلة البكتيريا المعوية أو الأمعائيات. ويغيب في هذه الحالات العنصر الخارجي، كما يحدث مع مرض السل والكوليرا، لأن البكتيريا المعوية هي جزء عادي من تركيبة الأمعاء، باستثناء أن بعض التعديلات قد طرأت عليها.
بناء على ذلك، يبدو أنه من الصعب التعرف على مثل هذه التحولات وتصحيحها. بادئ ذي بدء، لم يثبت بعد ما إن كانت البكتيريا المعوية قد تسببت في تلك الالتهابات، أو أن الالتهابات هي من غيرت الميكروبات، أو أن كلا التخمينين صحيح. وإذا كانت الميكروبات هي الفاعل، فكيف يمكن معالجتها؟ خاصة وأن عاداتنا الغذائية غير دقيقة بالإضافة إلى أن استخدام المضادات الحيوية قاس جدا، فقد تتسبب في مقتل الميكروبات المفيدة أثناء محاولتها قمع تلك البكتيريا الضارة.
لكن، تمكن سيباستيان وينتر، من المركز الطبي الجنوبي الغربي لجامعة تكساس، من إيجاد البديل. فقد أثبت فريقه أن نمو البكتيريا المعوية يعتمد بالأساس على الإنزيمات التي تعتمد بدورها على الموليبدنوم المعدني. وفي هذا السياق، يوجد معدن يدعى التنغستن يمكن أن يُستخدم عوضا عن الموليبدنوم، ويمكنه منع تلك الإنزيمات من العمل بشكل صحيح.
من خلال تغذية الفئران بكميات صغيرة من أملاح التنغستن على وجه التحديد، تمكن فريق وينتر من منع نمو البكتيريا المعوية، دون المساس بعمل الميكروبات الأخرى. وأفضل ما في الأمر أن التنغستن قد ترك البكتيريا الحميدة تعمل بشكل طبيعي وتخلص من البكتيريا المسببة لالتهاب المعوي. لقد كانت هذه الطريقة المثلى لاستبدال الميكروبيوم دون القضاء عليها من خلال المضادات الحيوية، وكل ما يتطلبه الأمر هو إحداث تعديلات طفيفة دون الضرب بيد من حديد.\
تشير كل هذه الاكتشافات إلى نقطة ضعف واحدة وهي الإنزيمات التي توفر البيئة السانحة لنمو البكتيريا المعوية من خلال إنتاج الفورمات والنيترات لتغذيتها
للمزيد من الوضوح، لا يمكن إلى حد الآن معرفة ما إذا كان هذا العلاج سينجح مع البشر. وفي هذا الإطار، قال وينتر “يمكننا بهذه الطريقة علاج مرض التهاب الأمعاء لدى الفئران، وهذا أقصى ما يمكن قوله في هذه المرحلة”، وأضاف “نحن أبعد ما نكون الآن عن تقديم علاج واضح خاصة وأن مادة التنغستن تعتبر سامة ولا يمكن تقديمها للمرضى. ولكننا نبحث الآن عن جزيئات لها نفس النشاط شريطة أن لا تكون سامة”.
في سياق متصل، قالت مانويلا رافاتيلو من جامعة كاليفورنيا في سان دييغو “لقد أثبتت التجارب أنه يمكن التعديل في الميكروبيوم إذا فهمنا كيف تنمو بعض الكائنات الحية في بيئة معينة”. كما أفادت بأن هذا الفهم قد يتطلب سنوات من العمل الجاد.
حيال هذا الشأن، أثبتت العديد من الفرق العلمية طريقة عمل البكتيريا المعوية على إنماء الالتهاب المعوي وتعزيزه منذ البداية، في حين كشف فريق وينتر النقاب عن العديد من الطرق التي تساعد في نمو البكتيريا. فعادة ما توجد هذه الميكروبات بأعداد قليلة لأنها تحتاج إلى الأكسجين لنموها، والأمعاء خالية من هذا العنصر.
أثناء تشكل الالتهاب المعوي، يتسرب الأكسجين داخل الأمعاء فيمنح البكتيريا الفرصة لالتهام مادة كيميائية تسمى الفورمات، التي تنتجها الميكروبات الأخرى الموجودة في الأمعاء. وفي هذا السياق، أورد وينتر أنه “يمكن للبكتيريا حينها التهام المخلفات المتروكة على الطاولة”. كما يمكن أن تتسبب تلك الالتهابات في إفراز الخلايا المضيفة لمادة النيترات، التي قد تستخدمها البكتيريا المعوية “للتنفس” عوض الأكسجين.
مع ذلك، تشير كل هذه الاكتشافات إلى نقطة ضعف واحدة وهي الإنزيمات التي توفر البيئة السانحة لنمو البكتيريا المعوية من خلال إنتاج الفورمات والنيترات لتغذيتها، وتستخدم هذه الإنزيمات في نشاطها ذرة واحدة وهي الموليبدنوم. وتجدر الإشارة هنا إلى أن ذرة التنغستن تشبه إلى حد كبير ذرة الموليبدنوم، فهي تقبع أسفلها في الجدول الدوري. وتركيبتها الكيميائية متشابهة بما يكفي لكي تحل محل المعادن الأخرى في الإنزيمات البكتيرية، ولكنها مختلفة بما يكفي حتى يسبب استبدالها موت الإنزيمات. وبموتها تتوقف البكتيريا المعوية عن النمو.
في الواقع، هذا ما توصل إليه فريق وينتر؛ فقد غذى العالمان ونهان تشو وماريا وينتر الفئران التي حقنت بمادة الدي إس إس المسببة لالتهاب المعوي، بأملاح التنغستن. وكان من المفترض أن تنشط البكتيريا المعوية بشكل مدهش في مثل هذه البيئات، ولكن قضى عليها التنغستن بنسبة كبيرة من دون أن تضر بباقي الميكروبيوم.
في هذا السياق، قالت كاثرين ناغلر من جامعة شيكاغو إن النتائج كانت مثيرة للاهتمام، ولكنها مخيبة للآمال في الوقت نفسه لأن الفريق قد استخدم مادة الدي إس إس، التي تستخدم عادة من أجل محاكاة الالتهاب، لأن نتائجها سريعة وسهلة ولكنها أيضا بدائية ولا تمنح صورة كاملة عن تعقيدات مرض الالتهاب المعوي.
من جهته، أقر وينتر بكل ما سبق ولكنه جادل بأن فريقه قد أثبت أيضا فعالية التنغستن مع القوارض التي عانت من الالتهاب المعوي بشكل أو بآخر. بل أثبت الفريق أن التنغستن قد قلل من الالتهاب عند الفئران التي حقنت بالمكروبيوم البشري للالتهاب المعوي، حيث قال “هذا الحد الأقصى الذي يمكننا بلوغه لمعرفة مدى نجاح هذا العلاج مع البشر دون إجراء تجارب سريرية”.
في شأن ذي صلة، قال غاري وُو من جامعة بنسلفانيا “لقد أحرزوا تطورا هاما جدا”. أولا، أظهرت التجارب أن تجمعات البكتيريا المعدلة المرتبطة بمرض الالتهاب المعوي قد أحدثت استدامة للمرض بدلا من الحضور السلبي دون تأثير. أما ثانيا، أشارت هذه التجارب إلى فكرة جديدة حول “طريقة التعامل مع تلك التجمعات دون الإضرار بالبكتيريا كما يحدث عند تناول المضادات الحيوية”.
إن تحويل هذه الميكروبات للمغذيات في نظامنا الغذائي إلى مواد كيميائية يمكن أن تبطئ من تخلص الجسم من الكولسترول، قد يؤدي إلى تراكم الدهون في الشرايين،ولكن، عند إعاقة عمل الإنزيمات المرتبطة بهذه العملية، يمكن حينها إنقاذ القلب من تلك الأمراض دون قتل الميكروبات
تجدر الإشارة هنا إلى أنه يوجد علماء آخرون يعملون على مقاربات مماثلة. فقد كتبت سنة 2015 عن فريق من مؤسسة كليفلاند كلينيك، الذي يبحث عن المواد الكيميائية التي تقلل من خطر الإصابة بأمراض القلب عن طريق استهداف بكتيريا الأمعاء.
بناء على ذلك، فإن تحويل هذه الميكروبات للمغذيات في نظامنا الغذائي إلى مواد كيميائية يمكن أن تبطئ من تخلص الجسم من الكولسترول، قد يؤدي إلى تراكم الدهون في الشرايين. ولكن، عند إعاقة عمل الإنزيمات المرتبطة بهذه العملية، يمكن حينها إنقاذ القلب من تلك الأمراض دون قتل الميكروبات. وربما كان هذا هو الدواء الذي نطمح له مستقبلا، من خلال تركيز الحرب ضد جراثيم محددة، والإكثار من العمليات التي تعزز بكل لطف عمل التجمعات الميكروبية بأكملها.
المصدر: مجلة الأتلانيتك