تلعب المنصات الإعلامية الرسمية في الولايات المتحدة دورًا مفصليًا في تشكيل السياسات على المستويات كافة، من أصغر بلدية إلى المستوى الفيدرالي العام، من خلال التأثير على الرأي العام وتوجيه الجموع فيما يخص البرامج الانتخابية وشخوص المسؤولين. وقد تبنّى الإعلام الرسمي الأمريكي على مدار عقود من الزمن البروباغاندا الصهيونية جملةً وتفصيلًا، مشكّلًا إلى جانب البيت الأبيض حليفًا مطيعًا لـ”إسرائيل” وسياساتها في المنطقة.
لم تختلف سياسة شبكات الإعلام الرسمية في الولايات المتحدة، الملقبة اختصارًا بـ “MSM”، عن خطها السابق في تغطية الاحتجاجات الطلابية في حرم الجامعات الأمريكية، والتي انطلقت شرارتها بعد السابع من أكتوبر لكنها بلغت الذروة منذ منتصف أبريل/ نيسان الماضي.
فما هي أبرز معالم التغطية الإعلامية الرسمية لهذه الاحتجاجات؟ وكيف تعامل الإعلام الرسمي مع مطالب الحراك الطلابي وأدوات احتجاجه؟ يحاول هذا المقال إلقاء الضوء على هذه الأسئلة وغيرها.
تواصُل لسياسة الانحياز
رغم خفوت نجم الإعلام الرسمي بين فئة الشباب منذ ظهور طفرة مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أنه ما زال وإلى حدّ بعيد يتحكم في سياسات الولايات المتحدة، خاصة بين الأجيال التي تحكم فعلًا في الكونغرس ومجمل الحكومات المحلية في الولايات.
وقد ظهر الإعلام كقناة لتصريف الرواية الإسرائيلية في أشدّ صورها فظاظة منذ السابع من أكتوبر، حيث شيطنت شبكات الإعلام الأمريكية الفلسطينيين وبرّرت الحرب الإبادية التي تشنّها “إسرائيل”، متجاهلة لا الرواية الفلسطينية وحسب لكن أيضًا حركة المناصرة للفلسطينيين التي اكتسحت شوارع الولايات المتحدة وقادتها قوى شبابية متنوعة انحدرت من أصول لاتينية وأفريقية وعربية وبيضاء، غير أن هذا التجاهل لم يصمد طويلًا مع بدء معسكرات الطلاب في الجامعات الأمريكية منذ منتصف أبريل/ نيسان الماضي.
مذيعيان في قناة “إم سي إن بي سي” يتهمان الطلاب الداعمين للقضية الفلسطينية في الجامعات الأمريكية بترديد هتافات تحريضية ضد اليهود.
جاءت التغطية الإعلامية الرسمية لاحتجاجات الطلبة متفقة تمامًا مع خطها السابق في تغطية الحرب، حيث تبنّى المراسلون والصحفيون الرواية الإسرائيلية والأمريكية الرسمية، وتجاوزوا ذلك باتجاه اتهام الطلبة باستخدام عبارات الكراهية وتمجيد الإرهاب ومعاداة السامية والمساهمة بخلق بيئة سامّة للطلاب اليهود في حرم الجامعات.
ورأى متابعون أن الاصطفاف الذي أظهره هذا الإعلام في معاضدة السلطة الحاكمة وأجنداتها، وما رافقه من كذب وادّعاءات وجنون، فاق أي مثيل له في العصر الحديث، إلا أن الضغط الشعبي المتواصل على هذه الشبكات والتهم الموجّهة إليها بالانحياز، وما ترتب عنها من رفض للحركة الطلابية للتعامل مع مراسلي هذه الشبكات والصحفيين المبعوثين من طرفها، دفع بعضها إلى محاولة إمساك العصا من الوسط، أو على الأقل تقديم مادة محدودة تمارس فيها دور الصحافة الاستقصائية الحقيقية.
تبدو هذه السياسة واضحة في التحقيق الذي أجرته شبكة “سي إن إن” حول المعتدين الذين انخرطوا في أعمال عنف دامية ضد معسكر الطلبة المناصر للقضية الفلسطينية في جامعة كاليفورنيا، وهو ما أثار استغراب المتابعين، لا سيما أن الشبكة كشفت عن أسماء وصور لأشخاص ضالعين في أعمال العنف ضد الطلبة، في تحرك مخالف لسياستها السابقة المتبنية بالكلية للرواية الصهيونية.
وبالمثل فإن ما قامت به شبكة “إن إيه بي سي” (NABC) من تغطية لمطالب الحراك وامتعاض الطلبة من النهج القمعي الذي اتبعته إدارات الجامعات، أثار انتباه المتابعين نظرًا إلى انحيازها للرواية الرسمية الأمريكية والصهيونية في خطوطها العامة، حيث ركّزت على لغة العنف وتبريره لمعظم الإجراءات التي اتخذتها الإدارات بدافع “الحماية وحفظ الأمن”، كما ركزت تقاريرها على تهم معاداة السامية منذ اندلاع المعسكرات الطلابية منتصف أبريل/ نيسان.
تلاعُب بالمسميات والمفاهيم
تترك اللغة التي تستخدمها شبكات الإعلام انطباعًا سلبيًا حول الاحتجاجات حتى في الوقت الذي لا تصرّح فيه بذلك، فتسمية الحرب بـ”حرب إسرائيل-حماس” في محاولة لإضفاء الشرعية على الممارسات الإبادية للكيان، وتسمية الحراك بـ”الاحتجاجات المناهضة لإسرائيل” في محاولة لتجريد الفلسطينيين من وجودهم وإنسانيتهم، مقابل التركيز على العداء للكيان الإسرائيلي كدولة لليهود، وليس على حرب إبادة تجري على قدم وساق وتستهدف الأطفال والنساء والعُجّز. وهذه ممارسة واسعة النطاق بين شبكات الإعلام الرسمية وتشير إلى التوجه الذي تتبناه هذه الشبكات.
إضافة إلى الخط العام في التسميات المضللة، تمايزت الشبكات فيما بينها بسياساتها التضليلية الخاصة، مثلًا تركز “فوكس نيوز” على الصياغة المضللة لأخبارها حول الحراك الطلابي، فمقالاتها وتقاريرها تصاغ بصورة تلقي بالشكّ على حقيقة ما يجري، وصفة المشاركين في الاحتجاجات حتى أولئك الذين ينتمون إلى الهيئات الإدارية والتدريسية في الجامعات، والذين اختاروا أن ينحازوا إلى طلابهم ويشكّلوا دروعًا بشرية لحمايتهم وإضفاء مزيد من الشرعية على احتجاجاتهم والشد من أزرهم، في تطبيق عملي للنظريات التي لطالما تمّ تدريسها في أروقة الجامعات.
سلط الإعلام الضوء على دعوات تمجّد المقاومة وتدعو إلى ترحيل الإسرائيليين إلى أوروبا، وعبارات من قبيل “تحيا الانتفاضة” و”من البحر إلى النهر” كأمثلة على التوجه الإسلامي للطلبة
في إحدى التغطيات الإعلامية للشبكة تمّت عنونة التغطية بـ”إلقاء القبض على “محرضين مناهضين لإسرائيل” في جامعة إرفين كاليفورنيا “يدّعون أنهم أساتذة وخرجوا لدعم طلابهم””. يوحي هكذا نهج متّبع للشبكة في صياغة كافة مقالاتها وتقاريرها بأن المشاركين في الحراك ما هم إلا مجموعة من المدّعين المنتحلين للشخصيات والذين يرتكبون جريمة التحريض في حرم الجامعات، وذلك بدلًا من التركيز على تعامل قوات الأمن معهم بشكل يليق بالمجرمين، بإرغامهم على حل تجمعاتهم وتكبيل أيديهم وزجّهم بفظاظة في مؤخرات سيارات الشرطة.
وفي مثال آخر، انتهجت شبكة “إيه بي سي” (ABC) نهجًا تضليليًا أيضًا فيما يتعلق بحراك الطلبة، حتى في الوقت الذي كانت تقابل فيه طلبة مشاركين بالحراك، كانت أسئلة المراسلين تتجه إلى اللغة المعادية للسامية والمشاركين من الخارج والذين كانوا يتسبّبون في المتاعب وحوادث العنف، ما يبرر الهجمة القمعية التي قادتها قوات الأمن بإيعاز من إدارات الجامعات.
بينما شبّهت صحيفة “نيويورك تايمز” الطلبة بالمرض، مشيرة إلى انتشار الاحتجاجات بلفظ “معدي” مركّزة على أسباب انتشار الاحتجاجات في الولايات المتحدة وليس في أماكن أخرى من العالم، ومتجاهلة الدور الأساسي الذي تلعبه الولايات المتحدة في تمويل ودعم المقتلة المستمرة في القطاع.
اتهمت شبكة “سي إن إن” الطلبة بنشر الكراهية ومعاداة السامية لاستخدامهم عبارات من قبيل “إسرائيل لا تملك الحق بالوجود” و”الصهاينة لا يحق لهم العيش بسلام”
حتى وقت التطرق إلى حرية التعبير، تنحو الشبكات الإعلامية باتجاه تصوير الاحتجاجات كانتهاك للحدود القانونية المقبولة لحرية التعبير، وأن هناك اعتبارات أخرى مثل حرية التعلم والأكاديميا وعدم التمييز، ووجوب حماية مصالح بقية الطلبة “اليهود بشكل خاص”.
في مقال نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” يتم التلاعب بمفهوم حرية التعبير والحدود القانونية المرسومة له، لإظهار الاحتجاجات الطلابية كخرق للمفهوم لا تكريس لجوهره، إذ ذهب المقال باتجاه تمييع مفهوم حرية التعبير كمفهوم قانوني محمي بموجب الدستور، والمطالبة بمزيد من المراقبة والحدود في صورة توحي بشرعية ورصانة الطرح، بينما المقال يعتمد بشكل أساسي على تلفيق اتهامات باطلة للاحتجاجات الطلابية، وإفراغ لمفهوم الاحتجاج من أساسه وتصويره خطأ بالخروج عن الحدود القانونية.
تحريض واتهامات ملفّقة
تجاهل الإعلام السبب الرئيسي وراء الاحتجاجات ومطالب الحراك الأساسية، مقابل تلفيق مطالب أخرى بعيدة عن الواقع من أمثلة القضاء على اليهود وتدمير الجامعات وإطلاق شرارة العصيان المدني، وعلاقة كل ذلك بسياسة الجامعات وحق الطلبة المناصرين لـ”إسرائيل” والسيطرة على النظام والسلم العامَّين.
فقد حرضت شبكات الإعلام الرسمية في الولايات المتحدة “إم إس إن بي سي” و”أيه بي سي” و”سي إن إن” و”فوكس نيوز” بشكل مباشر ضد الطلبة، متهمين إياهم بالتجمعات الخارجة عن القانون والجاهلين المروّجين لدمار أمريكا وثقافتها، متبنّين الجانب الإسرائيلي للرواية ومتجاهلين بشكل متعمد رواية الطلبة والجموع المشاركة في الحراك المناصر للفلسطينيين.
الاتهام الأخطر الذي تمّ توجيهه للطلبة هو تهمة معاداة السامية، فقد تمّ تسليط الضوء على دعوات تمجّد المقاومة وتدعو إلى ترحيل الإسرائيليين إلى أوروبا، وعبارات من قبيل “تحيا الانتفاضة” و”من البحر إلى النهر” كأمثلة على التوجه الإسلامي للطلبة.
بينما قام مجموعة من الطلبة اليهود المناصرين لـ”إسرائيل” بإطلاق صيحات تدعو إلى قتل اليهود حتى يتم تلفيقها لمعسكرات الطلبة، واتهامهم بتشكيل خطر على سلامة اليهود في الجامعات، متجاهلين أن عددًا كبيرًا من الطلبة المحتجّين هم أصلًا من اليهود المعادين للصهيونية، ومانحين في الوقت ذاته غطاء لإدارات الجامعات ودوائر الشرطة للتحرك ضد المعسكرات وفضّها بالقوة.
فقد اتهمت شبكة “سي إن إن” الطلبة بنشر الكراهية ومعاداة السامية لاستخدامهم عبارات من قبيل “إسرائيل لا تملك الحق بالوجود” و”الصهاينة لا يحق لهم العيش بسلام”، حيث شارك مراسلوها ومقدمو نشراتها في مهاجمة الحراك الطلابي، ومضايقة الطلبة أثناء إجراء مقابلات معهم بالخصوص، واستخدموا تعبيرات امتعاض واستهجان تحرّض على الطلبة وتضع سلامتهم الشخصية على المحكّ، مع إطلاق عبارات تعميمية من قبيل “معظم اليهود ومعظم الأمريكيين هم صهاينة”.
على صعيد آخر، حاول بعض الصحفيين التقليل من أثر الاحتجاجات باتهام الطلبة بالجهل وبأنهم لا يفهمون أسباب التظاهر، فقد قللت شبكة “إيه بي سي” من حجم وأثر الاحتجاجات الطلابية، مركّزة تغطيتها على خفوت الحراك وتراجع وتيرته إما بالاتفاق وإما بالإخلاء القسري، موردة اقتباسات لأعضاء الهيئات التدريسية وطلاب يعتبرون هذا النوع من الحراكات من قبيل التخريب المتعمّد للعملية التعليمية ولحفلات التخرج وخلق لبيئة متوترة، في محاولة لإضفاء صورة من اللاشرعية واللاأخلاقية على احتجاجات الطلبة.
استضاف برنامج “جو صباحًا” في شبكة “إم إس إن بي سي”، جوناثان غرينبلات، المدير التنفيذي لرابطة مناهضة التشهير (ADL)، لعكس الرواية الصهيونية وشيطنة الحراك الطلابي
فيما اتخذت قناة “إم إس إن بي سي” خطًّا مناوئًا لاحتجاجات الطلبة، وشنّت حملة من التضليل والشيطنة للطلبة تبنّاها مراسلوها ومقدمو برامجها بصورة مباشرة ومكثّفة، فقد هاجمت الشبكة الاحتجاجات بوصفها تحركات بربرية خارجة عن سرب الشباب الأمريكي “لأطفال مدللين وأنانيين”، وليست محل اهتمام جماعي كما يبدو من التغطية الإعلامية عبر وسائل التوصل الاجتماعي.
وفي إحدى المقابلات التي أجراها برنامج “جو صباحًا”، تم التركيز على إحصاءات هامشية وغير رسمية تظهر أن 13% فقط من الشباب الأمريكي يهتم بالصراع في الشرق الأوسط، وأن غزة ليست محل اهتمام فعليّ في الولايات المتحدة كما يظن الجمهور.
إملاءات خارجية وجهل بالمطالب
يتشابه الدور الذي يلعبه الإعلام الرسمي اليوم فيما يخص الاحتجاجات المناصرة للفلسطينيين، مع الدور الذي لعبه إبّان احتجاجات الطلبة على حرب فيتنام، حينها اتُّهم الطلبة بمعاداة القيم الأمريكية والعمل لصالح جهات خارجية.
يأتي هذا الخطاب الإعلامي متفقًا مع الخطاب اليميني المتطرف لبعض النواب الجمهوريين، الذين يرون في حراك الجامعات زوبعة لجموع جاهلة يتم سوقها وتوجيهها بأجندات خارجية، وتنافي رسالة التعليم العالي التي من المفترض -وفقًا لهؤلاء- أن تبتعد عن النقاط المثيرة للجدل حفاظًا على سلامة وأمن الجميع واستقرار العملية التعليمية، بدلًا من الانخراط الجاد والفعلي في الثقافة الاحتجاجية والقضايا الإنسانية التي من المفترض أن هذه الجامعات تسعى لبنائها وتبنيها.
سلطت “نيويورك تايمز” الضوء في إحدى مقالاتها على خطر “الصحوة الإسلامية” في جامعات الولايات المتحدة وكراهية اليهود التي بعثتها هذه الاحتجاجات
ركزت “وول ستريت جورنال” في هذا السياق على الجانب السلبي من الاحتجاجات، مظهرة التعاطف مع الطلبة الذين لم يستمتعوا بالتجربة الجامعية لأنهم دخلوها في ظل كوفيد-19، والآن يغادرونها في ظل احتجاجات تمنعهم من التمتع بمنجزاتهم وتضيّع عليهم فرصة حفلات التخرج، مشيرة في إحدى مقالاتها إلى أن هذه الاحتجاجات التي “صدمت الأمة” ليست جهدًا طلابيًا بحتًا، لكنها تأتي نتاج تدريب وتجهيز دام لأشهر سبقتها قامت به منظمات وشخصيات يسارية، في إشارة إلى إملاءات خارجية عن الحركة الطلابية.
فيما تم اختيار ضيوف برنامج “جو صباحًا”، أحد أهم برامج الحوار في شبكة “إم إس إن بي سي”، بعناية لعكس الرواية الصهيونية وشيطنة الحراك الطلابي في الجامعات، فقد استضاف البرنامج جوناثان غرينبلات، المدير التنفيذي لرابطة مناهضة التشهير (ADL) إحدى أبرز المنظمات الصهيونية العاملة في الولايات المتحدة، للحديث عن الاحتجاجات الطلابية، والذي شبّه الطلبة بأعضاء تنظيم الدولة واتهمهم بأنهم “معضلة الجميع ويجب حلها”.
حاولت شبكة “سي إن إن” أن توحي بوجود تدخلات خارجية في الحركة الطلابية، وأن وجود الأغراب عن حرم الجامعات خارج أسوارها يحوّل الحراك المتضامن إلى حراك عنيف يهدد سلامة الطلبة اليهود
كما استضاف البرنامج شخصيات سياسية مهمة مثل هيلاري كلينتون، للعمل على زعزعة أساس هذه الاحتجاجات باتهام المشاركين فيها بالجهل بتاريخ الصراع، وأنه تم تضليلهم بوسائل الاتصال الاجتماعي وجهات أخرى عملت على “تجهيل” الشباب الأمريكي.
وفي إحدى مقالات “نيويورك تايمز”، والتي تحلّل كيف يرى العالم احتجاجات الطلبة في الولايات المتحدة، تم تسليط الضوء على خطر “الصحوة الإسلامية” في جامعات الولايات المتحدة وكراهية اليهود التي بعثتها هذه الاحتجاجات، من خلال إيراد مواقف منتقاة لبقية الدول الغربية المنتقدة للحراك، بينما رأت الدول الإسلامية -وفقًا للمقال- الحراك مبشّرًا والقمع الشرطي له يظهر اللون الحقيقي للنفاق الأمريكي، في محاولة لإظهار الحراك خارجًا عن الثقافة الغربية ومنتميًا أكثر للثقافة الإسلامية ودول العالم الثالث.
حاولت شبكة “سي إن إن” أيضًا أن توحي بوجود تدخلات خارجية في الحركة الطلابية، وأن وجود الأغراب الخارجين عن حرم الجامعات خارج أسوارها، والذين هم بالأصل أهالي هؤلاء الطلبة وأقاربهم وداعمون لهم، يحوّل الحراك المتضامن إلى حراك عنيف ومرهب للطلبة اليهود وسلامتهم في حرم الجامعة، كما اتهم متابعون الشبكةَ بالتحريض على الطلبة الذين تسميهم بـ”البالغين الشباب” بدل الطلبة، بصورة توحي بانخراطهم في مخططات شغب وفوضى.
عنف وخروج عن القانون
بينما تبرع شبكات الإعلام الرسمية عادة بتغطية عنف الشرطة والحكومات في مواجهة المحتجين في الشوارع، حيث نراها تنقل بشغف وانخراط معسكرات القمع الحكومية في شوراع أفغانستان وباكستان وإيران، لم تتطرق هذه الشبكات بشكل شفّاف للخطاب الداعي إلى تكميم الأفواه، والذي ينتهك حق الطلبة في التعبير كحقّ أصيل مكفول في التعديل الأول من الدستور، ولا حتى لتجاوزات قوات الأمن التي استخدمت العنف في مواجهة الاحتجاجات السلمية، بإيعاز من الهيئات الإدارية للجامعات التي قامت بدورها بالتحريض على الطلبة، وتجاهل مطالب الحراك وإيقاع العقوبات الانتقامية على المحتجين.
بل على العكس من ذلك، أفردت هذه الشبكات لصور العنف المفتعل والمحدود كبرى صفحاتها وعنونتها بالخط العريض، كما جنّدت عنصرًا بصريًا متماشيًا مع أجندتها المناوئة لهذه الاحتجاجات، حيث تصدرت مقالاتها وتقاريرها صور لاشتباكات وأعمال عنف تظهر فيها وجوه الطلبة إما صارخين وإما ملثمين، وحولهم فوضى عارمة من المتاريس المكسّرة في صورة توحي بالعنف والتهديد، عكس الواقع الذي يكشف عن سلمية هذه التحركات في مجملها مع بعض الاشتباكات هنا وهناك، والتي يبدأها عادة إما عناصر الأمن وإما طلبة ومتظاهرون مناصرون لـ”إسرائيل”.
على سبيل المثال، قامت صحيفة “نيويورك بوست” بصياغة المواد المتعلقة بالحراك بلغة توحي بالبربرية والخروج عن القانون، مستخدمة في المقالات والتقارير عبارات إثارة الشغب والفوضى في وصف الهتافات التي تعتبر جزءًا أساسيًا من فعل الاحتجاج، قبل أن ينتقل الخبر إلى ردّ فعل إدارة الجامعة والأمن القمعي في تبرير مسبق لهذه التجاوزات والعنف في التعامل مع الطلبة.
صورت قناة “سي إن إن” الطلبة كمجموعة ملثمين مجرمين يخترقون الخصوصية ويهددون سلامة الآمنين في البيوت، دون ذكر للسياق والإحباط والقمع الذي تعاني منه الحركة الطلابية في جامعات الولاية
في برنامج البودكاست “ديلي (Daily)” التابع لـ”نيويورك تايمز”، تمّت تغطية الحراك الطلابي بصورة ترهيبية مستخدمين موسيقى مخيفة وأصوات صراخ وتكسير في الخلفية، قبل التركيز على الدور الذي لعبته الاحتجاجات في إرهاب بقية الطلبة وتضييع فرحتهم بالتخرج، وعلى الجذور المختلطة للطلبة المشاركين في الحراك، وعلى هوياتهم “التي لا تعدّ أمريكية نقية”.
أكملت قناة “سي إن إن” في نهج التضليل والتغطية الانتقائية للنشاطات الاحتجاجية للطلبة، مخرجة إياها عن سياقاتها وخطوطها العامة ومطالبها، ومصوّرة إياها بتصرفات همجية “لا تصدَّق وغير مقبولة” من مجموعة من الطلبة الخارجين عن العرف والقانون، ففي مقابلة أجرتها القناة مع القائم بأعمال وصي الجامعات في ولاية ميشيغان، تم تسليط الضوء على ما قام به مجموعة من الطلبة، حيث قاموا بوضع رموز وعلقوا مطالبهم على باب منزله، في محاولة للفت انتباه إدارات الجامعات بعد القمع الذي تعرضت له الحركة الطلابية من قوات الشرطة في الولاية.
وبالطبع تم تصوير الطلبة كمجموعة ملثمين مجرمين يخترقون الخصوصية ويهددون سلامة الآمنين في البيوت، دون ذكر للسياق والإحباط والقمع الذي تعاني منه الحركة الطلابية في جامعات الولاية.
في حين غطت شبكة “إيه بي سي” الحراك بشكل موجّه لإضفاء صورة الفوضى والعنف على تحركات الطلبة، حيث تستهلّ نشراتها وتقاريرها بأخبار تكسير النوافذ ومنع الصفوف من الانعقاد والنزعة التدميرية لهذه التحركات، بينما تمجّد في الوقت ذاته قمع الشرطة الذي “أعاد الهدوء والسلام لحرم الجامعات”.
تهديد وترهيب
برعت شبكات الإعلام الرسمية في استخدام لغة الترهيب والتهديد الموجّهة لا إلى الطلبة والمشاركين في الاحتجاجات من الأساتذة وحسب، لكن أيضًا لإدارات الجامعات التي تتجاوب مع مطالب الحراك.
نشرت صحيفة “نيويورك بوست” مقالًا يهاجم الجامعات التي كرّمت مطالب المحتجين ووصلت إلى اتفاقات معهم، مثل جامعة هارفارد وبريكلي وجامعة كاليفورنيا، واصفةً هذا الأسلوب بالرضوخ وتلقين الطلبة درسًا أنه بإمكانهم الحصول على ما يريدون إذا ما كانوا بغيضين ومشاغبين، ومتهمةً الطلبة بأنهم “متعاطفون مع الإرهابيين”، وأن الجامعات التي ترضخ لضغوط “مضحكة لمن يعتبر نفسه يملك المكان”، في إشارة إلى الطلبة، ترتكب خطأ فادحًا وأسبقيةً خطيرة.
وفي مقال آخر نشرته صحيفة “نيويورك بوست”، يطالب أستاذ قانون جامعي بمحاكمة الطلبة الضالعين في الاحتجاجات، ويعتبر ذلك أمرًا “مدفئًا للقلب”، في تحريض واضح ضدهم واستخدام بغيض لثقافة التهريب والتهديد.
يصف المقال الطلبة بالغوغاء المحتلين والمتذاكين والمشاغبين والمدللين، الذين لا يكنّون احترامًا للعاملين في الجامعات ويتصرفون بعنجهية ووقاحة، ويشبّههم بأعضاء جماعة “كيه كيه كيه (KKK)” المصنفة كجماعة إرهابية، مستغربًا أن يحصلوا على أي نوع من التعاطف.
وفي معرض تركيزها على ترهيب الحراك وإحباط أي منجز له، نشرت شبكة “فوكس نيوز” تقريرًا ركّزت فيه على إجبار رئيس جامعة في كاليفورنيا لأخذ إجازة، بسبب استجابته لمطالب المحتجين بمقاطعة الجامعات الإسرائيلية وتوسيع دائرة الدراسات الفلسطينية وإنشاء مجلس استشاري لحركة طلاب من أجل العدالة في فلسطين، مقتبسة مستشارة التعليم للولاية التي أعلنت عن رفضها للقرار واعتباره قرارًا منفردًا وغير مراعٍ لمشاعر فئة من الطلبة في الجامعة، وأنه سيخضع للتحقيق والمراجعة.
كما نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” مقالًا حول إجبار الطلبة على كتابة رسائل اعتذار في جامعة نيويورك، كوسيلة للتكفير عن الخطأ إذا ما أردوا العودة إلى مقاعد الدراسة، وكبديل لرفع دعاوى جنائية ضدهم في استكمال لخطّ الترهيب المستخدَم ضدهم مع اندلاع شرارة الأحداث.
ختامًا، يكاد الإعلام الأمريكي الرسمي يفقد صوابه وهو يلعب في المربع الأخير له، قبل أن يخسر معركته التي جنّد في سبيلها كل جهوده ولعقود، حيث يبدو أن اللوبي الصهيوني قد هُزم في أوساط الشباب الأمريكي الصاعد، فوفقًا لاستطلاع رأي نشرته قناة “سي إن إن” نهاية أبريل/ نيسان الماضي، فإن 81% من الشباب الأمريكي بين 18 و35 عامًا تعارض سياسة بايدن الداعمة للحرب الإسرائيلية على القطاع، وتأتي هذه الاحتجاجات التي انتشرت انتشار النار في الهشيم كتتويج لهذا التوجّه الشبابي الجديد المناوئ لخطّ السياسة الأمريكية الرسمية، والتي يبدو حتى اللحظة أنها مصمّمة على التغيير ومنذرة ببداية عهد أمريكي جديد مختلف فيما يخص القضية الفلسطينية.