لا تزال أصداء حادثة مصرع الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته أمير عبد اللهيان ومرافقيهما إثر تحطم مروحيتهم الرئاسية التي كانت تقلهم من أذربيجان، مساء الأحد 19 مايو/أيار الحاليّ، تلقي بظلالها على المشهد الإقليمي برمته.
وبعيدًا عن حالة الجدل والقراءات المتباينة لسقوط الطائرة الرئاسية، فإن الرحيل المباغت لقيادات الصف الأول بحجم رئيسي صاحب الثقل والنفوذ الداخلي والمقرب من المرشد، وعبد اللهيان صاحب الحضور الدبلوماسي المحوري في إعادة طهران للأضواء السياسية مرة أخرى، يضع الكثير من التساؤلات عن ملامح السياسة الخارجية للدولة الإيرانية خلال المرحلة المقبلة، على الأقل خلال فترة الخمسين يومًا القادمة حتى انتخاب رئيس جديد للبلاد.
وكان الوضع في غزة على رأس الأسئلة الجدلية التي فرضت نفسها على الساحة منذ الإعلان رسميًا عن مقتل الرئيس الإيراني ووزير خارجيته، واللذين كانا أحد أبرز الداعمين للمقاومة – بما يخدم أجندة بلديهما – ضد الكيان الإسرائيلي، فأي انعكاسات محتملة لما حدث في إيران على المشهد الغزي؟
لا تغيير محتمل في السياسة الخارجية
لا يُتوقع أن تشهد السياسة الخارجية للدولة الإسلامية أي تغيرات محتملة، فرغم الغياب المفاجئ لعبد اللهيان الذي نجح في بناء تموضع دبلوماسي جديد لطهران وتلطيف الأجواء المتعكرة مع خصوم بلاده الإقليميين والدوليين منذ توليه حقيبة الخارجية في أغسطس/آب 2021، إلا أن الراجح أن يكون هناك نوع من الاستمرارية لتلك السياسة وعدم تأثرها بشكل جذري.
يذهب مدير شؤون إيران في مجموعة الأزمات الدولية، علي فايز، إلى نفس الفرضية، إذ يرى أن الاهتمام الأبرز لإيران خلال الأسابيع القادمة سيكون منصبًا على ترتيب البيت من الداخل حيث الانتهاء من إجراء الانتخابات الرئاسية، ومحاولة فرض السيطرة على المشهد تجنبًا لأي انفلات أو خروج عن السيطرة.
ويميل الباحث المتخصص في الشأن الإيراني إلى أن الهاجس الأكبر الذي يهيمن على عقلية الإيرانيين اليوم هو اختيار شخصية رئاسية غير صدامية، قادرة على التعامل بسلاسة وعدم اختلاق مشكلات مع مؤسسات الدولة.
أما فيما يتعلق بالسياسة الخارجية “فإن المرشد الأعلى والحرس الثوري سيحتفظان بالكلمة الفصل في القرارات الاستراتيجية”، وعليه يُرجح الاستمرارية في ذات السياسات، في ظل هذه المرحلة من عدم اليقين والرهانات الكبيرة أمام الولايات المتحدة وفي المنطقة، حسبما دون فايز على منصة “إكس”.
على الجانب الآخر، يرى مدير “مجموعة ريماركس” لتحليل العنف السياسي، مراد بطل شيشاني، أنّ غياب عبد اللهيان، سيترك أثرًا “دون أدنى شك” في السياسة الخارجية الإيرانية، لا سيما في ملف دعم الجانب الفلسطيني في مواجهة “إسرائيل” والولايات المتحدة، لافتًا في تصريحاته لـ”بي بي سي” إلى أنه رغم أن دور وتأثير الحرس الثوري سيكون أكبر من وزارة الخارجية في هذه المرحلة “لا بد أن يترك غياب عبد اللهيان أثرًا، إذ كان الدور الذي يقوم به مكملًا للسياسة الإيرانية في هذا الملف بشكل عام”.
ماذا عن الوضع في غزة؟
يأتي مصرع قيادات الصف الأول في طهران في وقت تصل فيه التوترات مع “إسرائيل” لمستويات غير مسبوقة، حيث تغير قواعد الاشتباك بين البلدين عما كانت عليه على مدار العقود الماضية، وذلك بعدما تجاوز الطرفان الخطوط الحمراء الموضوعة سابقًا، وتخطيا مرحلة المواجهات غير المباشرة بالوكالة إلى الصدام المباشر.
وصل التوتر مداه في الأول من أبريل/نيسان الماضي حين استهدفت طائرات الاحتلال مقر القنصلية الإيرانية في دمشق، ما تسبب في سقوط عدد من قيادات الحرس الثوري، لترد طهران في 13 من الشهر ذاته بهجوم ضد الكيان المحتل بـ350 مسيرة وصاروخًا، لم يصل منها إلى الأراضي المحتلة إلا القليل، الأمر الذي دفع تل أبيب للرد بضربة رمزية من باب حفظ الردع، كل هذا كان تحت رعاية ومباركة الولايات المتحدة راعية التوازن بين الخصوم في المنطقة.
وفيما يتعلق بتداعيات الحادثة على المشهد في غزة، فرغم هيمنة المرشد الأعلى على صناعة القرار السياسي والعسكري في إيران، وسيطرته على مفاتيح الملفات الإقليمية والدولية، وأنه صاحب السلطة المطلقة في رسم ملامح السياسة الإيرانية إزاء مختلف القضايا التي تتشابك فيها مع دول المنطقة، فإن ذلك لا يعني أن غياب الرئيس ووزير الخارجية لن يكون له تأثيره على المشهد بأكمله.
وفي هذا السياق يرى الكاتب المتخصص في الشأن الإيراني، أسامة الهتيمي، في حديثه لـ”نون بوست” أن الرحيل المفاجئ للرئيس الإيراني ووزير خارجيته، سيجعل الموقف الإيراني إزاء الوضع في غزة لا يخرج عن أحد سيناريوهين:
السيناريو الأول: إذا ما استقر في يقين طهران تورط “إسرائيل” أو أمريكا في إسقاط مروحية الرئيس، وهنا لا يمكن التكهن بشكل حاسم برد الفعل الإيراني، حيث الإيعاز لأذرع طهران في المنطقة أو ما يعرف بـ”محور المقاومة” في لبنان واليمن والعراق بتكثيف عملياتها ضد المصالح الإسرائيلية والأمريكية، ودعم حركات المقاومة في غزة في عملياتها الميدانية واللوجستية، كنوع من الانتقام، وهو الموقف الذي ربما يحظى بالدعم الشعبي تعبيرًا عن رفض الشارع الإيراني بمختلف طوائفه وتياراته السياسية لاغتيال قياداته على أيدي قوى خارجية مهما كان حجم الخلاف معها.
ومن المرجح أن تنأى طهران بنفسها عن تحمل كلفة الاعتراف بتورط “إسرائيل” في تلك الحادثة – إذا ثبت ذلك – لما يترتب على هذا الاعتراف من التزامات قد لا تكون إيران على استعداد لها في الوقت الراهن، وعليه فلن يكون أمامها إلا أذرعها الإقليمية للثأر ورد الاعتبار.
السيناريو الثاني: إذا اقتنع الإيرانيون بالرواية الرسمية كون الحادث عرضيًا نتيجة الطقس السيئ، وهذا أمر وارد في ظل تعدد الحوادث من هذا النوع رغم علامات الاستفهام العديدة التي تفتقد للإجابات المقنعة، فإن الأمر لم يتغير عما كان عليه في عهد رئيسي، خاصة أن صناعة القرار السياسي الخارجي بأيدي المرشد والحرس الثوري وفق أيديولوجيات ثابتة لا تتغير – في الغالب – بتغير القيادات.
يتفق مع تلك الرؤية الخبير في الشؤون الإقليمية والدولية، حكم أمهز، الذي يرى أن ملف الحرب في غزة لن يتأثر برحيل عبد اللهيان، لأنه “بالدرجة الأولى ملف أمني عسكري قبل أن يكون شأنًا سياسيًا دبلوماسيًا”، مضيفًا أن هذا قرار لدى “المؤسسات العميقة في الجمهورية الإسلامية مثل الأمن القومي والحرس الجمهوري، وبالتالي الدور السياسي يأتي بعد الدور العسكري والأمني”.
ولعل ما شهدته الساحة الفلسطينية خلال الساعات الماضية بعد الإعلان رسميًا عن مصرع القيادات الإيرانية يبرهن بشكل واضح توجه الاستمرارية في ذات السياسة الخارجية إزاء الوضع في غزة، حيث مواصلة حزب الله استهدافه للمستوطنات الإسرائيلية على الحدود الجنوبية اللبنانية، وتعالي صافرات الإنذار في شمال الأراضي المحتلة، كذلك إعلان جماعة الحوثي عن إسقاط مسيرة أمريكية – هي الخامسة من نوعها – من طراز MQ9 في أجواء محافظة البيضاء اليمنية، علاوة على استهداف المقاومة الإسلامية العراقية، بالطائرات المسيرة، هدفين إسرائيليين في منطقة أم الرشراش المحتلة “إيلات” .
أيًا كانت السيناريوهات فليس هناك من سبيل أمام الإيرانيين إلا استمرارية السياسة الخارجية التي كانت تتبناها الدولة في عهد رئيسي وعبد اللهيان وعدم إحداث أي تغيير بشأنها، مهما كان الثمن، وذلك في محاولة إيرانية لإيصال رسائل للخارج والداخل على حد سواء، مفادها أن الأمور لن تتأثر بغياب الرئيس ووزير خارجيته، وأن الجمهورية الإسلامية لم تهتز بهذا الغياب المفاجئ.
ومن المرجح أن تعمل طهران على كي هذا الجرح ولو بالنار، والهرولة لأجل ترتيب البيت الداخلي من جديد في أسرع وقت وربما قبل المهلة المخصصة لذلك والمحددة بـ50 يومًا على حد أقصى حسب الدستور، على أمل تجبير كسورها وتفويت الفرصة على استغلال ما حدث من المعارضة داخليًا، وترميم سمعتها المشوهة التي تُعرض طموحها الإقليمي للخطر، بعد تساقط قيادات الصف الأول والثاني، عسكريًا وسياسيًا، خلال الآونة الأخيرة، إما قدرًا وإما بفعل فاعل.