لا يمكن الحديث عن التصوير الفوتوغرافي في إسطنبول دون ذكر “أرا جولير” المصوّر الذي بلغت رحلته التصويرية ما يقارب الاثنان وستون عامًا جمع خلالها أكثر من مليونيْ صورة جعلته جديرًا بحمل لقب “عين إسطنبول” التي أرّخ حياتها وحياة أناسها على مدى عقودْ طويلة.
ولد أرا جولير في حيّ بي أوغلو في إسطنبول عام 1928 لعائلة أرمنية الأصل، وتأثر بالفن والسينما منذ صغره نظرًا للأجواء العائلية التي كانت تحيط به واهتمامها بالفنون والأفلام كثيرًا، و أثناء دراسته الثانوية عمل في عدة فروعٍ لاستديوهات صناعة الأفلام السينيمائية في المدينة، ما نمّى حلمه بأن يصبح مخرجًا أو كاتبًا مسرحيًا.
في عام 1950 بدأ العمل بالصحافة في جريدة إسطنبول الجديدة، كما قام بنشر مقالاته في الصحف والمجلات الأرمنية في الوقت الذي كان مستمرًا فيه بالالتحاق بكلية الاقتصاد في جامعة إسطنبول، لكنه بعد التخرج قرّر أن يتفرغ للتصوير الصحفيّ، وهكذا بدأت رحلته.
أصبح جولير رئيس قسم التصوير الفوتوغرافي في مجلة الحياة حتى عام 1962، وفي العام الذي يسبقه نُشرت صوره الفوتوغرافية السنوية في إنجلترا، وعُرف كمصور من أفضل سبع مصورين عالميًا، كما تم قبوله في جمعية مصوري المجلات الأميريكية، وبذلك أصبح التركيّ الأول الذي ينضمّ لتلك الجمعية.
سافر آرا بهدف التصوير إلى بلدان عديدة مثل كينيا وبورنيو وغينيا الجديدة والهند وباكستان وأفغانستان وكازاخستان وإيران ومدن أخرى في تركيا. وفي السبعينات من القرن الماضي، أجرى مقابلات تصويرية مع فنانين وسياسيين بارزين مثل سلفادور دالي ومارك شاغال وفيلي براندت والمصور الأمريكي الشهير أنسيل آدامز ومخرج الأفلام البريطانيّ المعروف ألفريد هيتشكوك وجون بيرغر وماريا كالاس وبرتراند راسل وبابلو بيكاسو وإنديرا غاندي بالإضافة إلى ونستون تشرشل.
كما صوّر العديد من الشخصيات التركية، السياسية والأدبية والفنية، أمثال نجم الدين أربكان وأورهان باموق وأورهان كمان وعصمت إينونو وناظم حكمت وعزيز نيسين وغيرهم الكثير.
عام 1967 عُرضت أعماله في المعرض المفتوح “نظرات الناس للعالم” في كندا، ومعرض الفن الحديث الذي نُظِّم في نيويورك، وفي نفس السنة أيضًا في ألمانيا نظّم جولير معرض التصوير الفوتوغرافى الملون. أما في عام 1970 فقد قام بنشر ألبوم صور حمل اسم “تركيّ في ألمانيا”، ونُشرت صوره في الفن وتاريخ الفن في مجلة “الحياة وقت” في الولايات المتحدة الأمريكية.
التقط عام 1971 صورًا لكتاب اللورد كينروس “أياصوفيا”، كما أعدّ تقريرًا مصورًا لبيكاسو لكتابه المسمى “تحول بيكاسو وتوحّد الاَخرين” الذي نُشر بمناسبة عيد ميلاد بيكاسو التسعين.
عام 1972 افتتح في باريس المعرض الدولي للكتاب. وفي عام 1975 تمت دعوته إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بكونه مصّورًا التقط صورًا كثيرة لمشاهير الأمريكان، وتم عرض صوره في معرض “الأمريكان المبدعون” الذي كان يُعدّ واحدًا من أهم المعارض آنذاك. وفي نفس السنة صور الفيلم الوثائقيّ “نهاية البطل” الذي تحدث عن تفكك المدرعات الرديئة في الحرب العالمية.
وعندما سئل في إحدى المقابلات الصحفية عن شخصيات ودّ لو التقط صورًا لها، أجاب جولير أنه تمنّى فعلًا لو قابل آينشتاين والتقط صورة له، لكنه لم يكون إلا هاويًا في ذلك الوقت. كما أنه تمنى لو التقط صورًا لكلّ من جان بول سارتر وتشارلي تشابلن وغيرهم من الشخصيات.
وثّق جولير حياة إسطنبول بناسها منذ خمسينات وستيناتها القرن الماضي، كلّ صورة تجسّد جانبًا إنسانيًّا خاصًا بسحره وتميّزه، الأطفال والعجائز وصيادي السمك والقوارب الخشبية والخيول وأسوار بيزنطة القديمة وبائعي الخبز والسيميت والقبعات العثمانية ومقاهي المدينة ومسارحها ونساءها. كلّ تلك اللحظات اليومية استطاعت عدسة جولير الاستيلاء عليها بالقصص الكثيرة التي يمكن أن تقولها كلُّ قصة على حدة، مؤلفةً جميعها حياة إسطنبول في مرحلة غابرة.
وعلى الرغم من ولادته لعائلة أرمنية وتنشئته الثرية، غالبًا ما كان جولير يركّز في صوره على حياة الطبقة الكادحة وعامة الشعب والأحياء الفقيرة أو الشعبية، لما تحويه من قصص واقعية أكثر شبهًا بالحياة من من غيرها من الطبقات.
بالنسبة لجولير، الذي بدأ حياته المهنية كمصورٍ صحفيّ، التصوير الفوتوغرافي في المقام الأول هو شكل من أشكال التأريخ والتوثيق. فيقول في إحدى مقابلاته الصحفية: “التصوير الفوتوغرافي هو جزء من الواقع. حيثما يكون هناك تصوير، هناك حياة”، معقّبًا “أنا لا ألتقط الصور من دون الناس ولا أشعر بالحماس بالتقاط المناظر الطبيعية الجميلة أبدًا”.
فلسفة أرا في التصوير الفوتوغرافي إذن هي تعليقه الأهمية الكبيرة على وجود الأشخاص في الصور، ولذلك يعتبر نفسه مؤرّخًا مرئيًا لا مصوّرًا فوتوغرافيًّا، حيث أنّ التصوير الفوتوغرافي قد لا يعكس الواقع في كثير من الأحيان أو قد يكذب، لكنّ تصوير حياة الناس اليومية بمعاناتهم وتفاصيلهم الصغيرة لا يكذب أبدًا، ويرتبط بدرجة عالية بالواقع.
لا يزال جولير يلتقط الصور حتى يومنا هذا، ولا يقبل تعريفه بفنان أو مصوّر فوتوغرافي، إنما هو مصوّر صحفي. وجديرٌ بالذكر أنه يمتلك مقهىً يحمل اسم “أرا” في منطقة غلاطة سراي في إسطنبول، تحوي جدران المقهى عددًا من صوره القديمة، ويقصده بين الفينة والأخرى، فقد تحظى يومًا بمقابلته في حال ذهابك هناك.