تسود الأوساط العلمية والثقافية وجهة نظر قاتمة بشأن حركة الفكر والعلم في مصر العثمانية، حيث يعتقد كثيرون أن شعلة العلم توقفت تمامًا في تلك الحقبة، ولم يكن هناك سوى التخلف والانحطاط والجهل.
في كتاب “قبل أن يأتي الغرب.. الحركة العلمية في مصر في القرن السابع عشر” يقدم ناصر عبد الله عثمان شهادة عن الحركة العلمية والفكرية في مصر العثمانية، يدحض بها الرؤية التقليدية، ويكشف جوانب مهمة من التاريخ العلمي والثقافي آنذاك.
تطرق ناصر عبد الله في مؤلفه إلى الحالة التعليمية في مصر العثمانية في ذلك القرن، والنتاج الفكري في مجال علوم اللغة والأدب والعلوم العقلية كعلم الكلام والفلسفة والمنطق والفلك والرياضيات والطب، والعلوم الاجتماعية كذلك.
اعتمد كاتبنا في إنجاز مؤلفه على المصادر الأرشيفية الخاصة بالحقبة العثمانية مثل الحجج الشرعية ودفاتر الرزق وسجلات المحاكم الشرعية المختلفة التي رصدت وقائع الحياة اليومية في مصر العثمانية بمختلف مظاهرها الاجتماعية والاقتصادية والعمرانية والتجارية والثقافية، كما اعتمد على دراسة كم كبير من المخطوطات التي أنتجها علماء هذا القرن، فضلًا عن كتب التراجم.
السياسة على حساب المجتمع
يرى عبد الله أن القرن السابع عشر لم يحظ بدراسة وافية، فالمؤلفات المعنية بتاريخ مصر العثمانية انصرفت في معظمها إلى دراسة التفاعلات السياسية في هذه الحقبة على حساب دراسة المجتمع وكشف حظوظه من التحضر والتخلف.
في هذا السياق، رصد كاتبنا عدد المدارس التي كانت تُقام بها حركة تعليمية بالقاهرة، خلال القرن السابع عشر، حيث اقتربت من إحدى وستين مدرسة، ووصل إلى أن مصر كانت غنية بمؤسساتها التعليمية التي لم تقتصر على الأزهر فحسب، ورغم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي مر بها المجتمع في تلك المرحلة، فإن جهودًا أهلية خاصة ساهمت في إنشاء الكتاتيب، وخُصصت أموال لتطويرها والإنفاق على الأطفال الملحقين بها.
اختص علماء هذا القرن علم البلاغة بمزيد من الاهتمام، حيث أقبلوا على دراسته والتزود منه، وتعددت أشكال مساهمتهم، كالتأليف بشكل عام، والقيام بشرح وتعليق الحواشي على كتب السابقين
كما عمل المجتمع على توفير الكتاب بصورة ميسرة لطالبي العلم، فعلاوة على احتفاظ المدارس بمكتباتها، قام العديد من أفراد المجتمع بوقف مكتباتهم الخاصة على المدارس والجامع الأزهر بخلاف من جعل منزله مقرًا لمكتبته يرتاده طلبة العلم. ولم يقتصر النشاط التعليمي على القاهرة فحسب، بل انتشر في معظم أقاليم مصر، حيث ازدهر نشاط الكوادر العلمية من الأقاليم.
حركة العلوم اللغوية
لم تكن تتحدث الطبقة الحاكمة في مصر، آنذاك، اللغة العربية، ولا تجيد التعامل معها، دفع هذا أولي العلم إلى الاهتمام باللغة العربية وآدابها، لحمايتها من التحريف. المهتمون بعلم النحو والصرف في القرن السابع عشر أتت كتاباتهم عنه على صورتين: الأولى قيام العلماء بانتخاب واختيار أهم كتب السابقين وإعادة إنتاجها وذلك بالشرح وتعليق الحواشي عليها، الثانية اختصاص بعض القواعد النحوية وإفرادها بالتصنيف، وتقديمها في أبسط صورها لضمان الاستفادة منها، وجهودهم هنا لم تكن على سبيل التكرار أو الإعادة. وأهم علماء اللغة في ذلك القرن: علي الأجهوري وأحمد السندوبي المصري وياسين الحمصي وعبد الله الدنوشري.
كما اختص علماء هذا القرن علم البلاغة بمزيد من الاهتمام، حيث أقبلوا على دراسته والتزود منه، وتعددت أشكال مساهمتهم، كالتأليف بشكل عام، والقيام بشرح وتعليق الحواشي على كتب السابقين، وأبرزهم: علي الشبراملسي وأحمد المقري وابن الصائغ السري المصري وإبراهيم الميموني.
حركة الأدب
على عكس ما تتجه إليه الدراسات الحديثة من وصف علوم الأدب في العصر العثماني بالتخلف والانحطاط، لم تكن الصورة بهذه القتامة، يقول كاتبنا إن هذا القرن شهد ظهور العديد من الشخصيات التي أولت الأدب اهتمامًا كبيرًا، فلم تقف اجتهاداتهم عند حد إجادة الفنون الشعرية والنثرية كافة، بل أخضعوا أعمالهم الأدبية للنقد والتحليل.
وبالنسبة للنثر، تعددت أشكال كتابات رجال الأدب في هذا القرن، منها التي عنيت بتراجم الأدباء والشعراء، وتسليط الضوء على أعمالهم الأدبية، ومنها ما جاء لتلبية أغراض اجتماعية كتسكين أحوال العشاق والمحبين، أو إعطاء الطريقة المثلى للمكاتبات والمراسلات ومحاولة سد النقص الذي أصاب الأساليب الإنشائية في تلك الفترة، ومنها التي عمدت إلى جمع بعض الحكم والأمثال الشعبية.
أبرز رجال الأدب في تلك الفترة: الشيخ مدين القوصوني صاحب كتاب “ريحانة الألباب وريعان الشباب في مراتب الآداب”، والأديب شهاب الدين الخفاجي صاحب “ريحانة الألبا وزهرة الحياة الدنيا” و”خبايا الزوايا فيما في الرجال من البقايا”.
وعلى مستوى الشعر، شهدت تلك المرحلة عددًا من الشعراء الذين أنتجوا أعمالًا دلت على كفاءتهم وقدرتهم على نظم الشعر الجيد في أغراض مختلفة كالمدح والفخر والغزل والهجاء والرثاء، واتسم شعرهم بالقوة والأسلوب البياني والبُعد عن الزينة اللفظية والمحسنات البديعية، ومن شعراء هذا العصر، الطبيب الأديب محمد الحناتي المصري، ومن شعره:
كسا الروض من رياه ريح الصبا مرطا … فأثقله واعتل فاعتمد الأبطا
أرى الدوح مفتون النسيم فراقص … يصفق أن وافى ويطرق إن شطا
يمد له من حليه وثيابه … وتيجانه من تحت أخمصه بسطا
وكم من أياد للنسيم على الربى … فيرقدها شطا ويوقظها نشطا
يهذبها بالغيث تهذيب مصحف … فيعر بها شكلا ويعجمها نقطا
كذلك الأديب شهاب الدين أحمد الخفاجي، ومن شعره:
خد الربيع من الحياء توردا … خجلا لما أهدى إليه من الندى
وبنفسج الكثبان أطرق رأسه … لما رأى صدغ الحبيب تجعدا
وأرى الخريف اشتم أنفاس الشتا … فاصفر منه خيفة لما بدا
ورأى جيوش سيوله قد أقبلت … وعليه حلة سندس فتجردا
حركة العلوم العقلية
تعددت أشكال كتابات القرن السابع عشر في مصر في مجال العلوم العقلية كعلم الكلام والفلسفة والمنطق والفلك والرياضيات والطب. على مستوى علم الكلام، تم تأليف كتب منفردة عن العقيدة على هيئة النظم، ومن أشهر المنظومات التي أُلفت خلال ذلك القرن منظومة إبراهيم اللقاني واسمها “جوهرة التوحيد”.
ولم يحتقر علماء ذلك العصر الفلسفة والمنطق، بل ترجموا لعلماء اهتموا بالفلسفة، وأولوا اهتمامًا كبيرًا بالمنطق سواء في الحرص على تعلمه أو المشاركة في التصنيف فيه، ما بين انتخاب أهم كتب العلم، والعمل على إعادة إنتاجها إما بالشرح أو تعليق الحواشي عليها أو اختصاص إحدى مسائل هذا الفن بالكتابة، فهذا مثلًا أحمد الغنيمي يضع رسالة متعلقة بتحرير النسب الأربعة مع نقائضها المذكورة في أوائل المنطق، والعالم أحمد القليوبي الذي وضع رسالة بعنوان “أقسام القياس في علم المنطق”.
خلافًا لما وُصف به الطب خلال هذه الفترة بأنه كان عبارة عن مجموعة من الخرافات والتعازيم، رأى “عبد الله” أن وجهة النظر هذه يعتريها عدم الدقة، حيث وُجد الأطباء بمختلف التخصصات، آنذاك، فهناك الطبيب العادي، وهناك صاحب التخصص
كان هناك اهتمام أيضًا بعلم الفلك، فاستخدم العلماء، آنذاك، الآلات والأدوات وأخضعوا دراساتهم للتجربة، فاتخذ الطلاب مصنفاتهم كمناهج دراسية، وبشكل عام اعتنى العلماء برصد ما يتعلق بالكون المحيط بهم من كواكب ونجوم وما يظهر من أذناب، وأحوال الشمس والقمر من حركات كسوف وخسوف، وغير ذلك من الظواهر الطبيعية.
كذلك المسائل الخاصة بالتقويم، وكيفية تحديد التاريخ القبطي والتاريخ العربي، وتحديد اتجاه القبلة من غير استخدام آلة ليلًا ونهارًا، وقدموا النصائح الخاصة بصحة الإنسان ومنها أهم الإرشادات الزراعية مثل المواعيد المناسبة لزراعة المحاصيل المختلفة ومواعيد حصادها ومواعيد تخفيف الملابس ومواعيد زيادة النيل ومواعيد هبوب الرياح، وأهم علماء الفلك في مصر في القرن السابع عشر: سراج الدين عمر الفارسكوري الذي وضع مؤلفًا بعنوان “ناشئة الليل ونظم الارتشاف”، محمد أحمد العوفي الذي وضع مؤلفًا أوضح فيه كيفية استخراج التقويم.
شهد هذا القرن ظهور طائفة من الأطباء الذين تمكنوا من علم الطب وحرصوا على تعليم غيرهم أصوله، كذلك حرصوا على اقتناء الكتب الطبية في شتى الموضوعات، مثل عبد الرؤوف المناوي مؤلف “النزهة الزهية في أحكام الحمام الشرعية والطبية”
وفيما يتعلق بالرياضيات، لم تقف حدود العلماء في هذا القرن عند علم الحساب فقط، بل اعتمدوا عليه في فهم بعض المسائل الفقهية والعمل على حلها، ومنهم الفقيه حسن الشرنبلالي صاحب رسالة “الزهر النضير على الحوض المستدير”، كما جاءت مؤلفاتهم في فروع أخرى كالأعداد والجبر والمقابلة، مثل محمد بن علي الشبراملسي الذي وضع عدة مؤلفات، منها: “النبذة الوفية في وضع الأفاق العددية” و”إيضاح المكتتم في حساب الرقم” و”مباهج التكسير بمناهج التكسير”.
وخلافًا لما وُصف به الطب خلال هذه الفترة بأنه كان عبارة عن مجموعة من الخرافات والتعازيم، رأى “عبد الله” أن وجهة النظر هذه يعتريها عدم الدقة، حيث وُجد الأطباء بمختلف التخصصات، آنذاك، فهناك الطبيب العادي، وهناك صاحب التخصص كأخصائي العيون الذي كان يسمى بـ”الكحال”، وهناك تخصص الجراحة، وكان لكل تخصص شيخ أو نقيب، ولكي يصبح نقيبًا وجب عليه أولًا أن يكون مرجعًا في تخصصه، وأن يترفق بالمرضى ويداوم بالسؤال عنهم ويحافظ على الأدوات الطبية، ومن كان يفقد هذه الشروط اجتمع الأطباء على عزله.
وشهد هذا القرن ظهور طائفة من الأطباء الذين تمكنوا من علم الطب وحرصوا على تعليم غيرهم أصوله، كذلك حرصوا على اقتناء الكتب الطبية في شتى الموضوعات، مثل عبد الرؤوف المناوي مؤلف “النزهة الزهية في أحكام الحمام الشرعية والطبية” و”بغية المحتاج إلى معرفة أصول الطب والعلاج”، وكان له اهتمام خاص بعلم التشريح ودراسة الأوبئة، فوضع كتاب “منحة الطالبين لمعرفة أسرار الطواعين”.
حركة العلوم الاجتماعية
يؤكد كاتبنا أن الناظر في تراث القرن الثامن عشر يجده اعتمد بشكل كلي على الكتابات التاريخية في القرن السابع عشر قبل مجيء الغرب، والتي لقيت نشاطًا ملحوظًا، فجاءت المصنفات في أشكال متعددة، وأهم مؤرخي هذا العصر: علي الحلبي صاحب كتاب “إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون” و”تلخيص أوصاف المصطفى وذكر من بعده من الخلفاء”، وأحمد المقري الذي وضع “الدر الثمين في أسماء الهادي الأمين”، كذلك أحمد العجمي صاحب “الآثار النبوية” و”تنزيه المصطفى المختار مما لم يثبت من أخبار”.
تمتع القرن السابع عشر بوجود عدد من المؤرخين التقليديين الذين أثروا الحركة التاريخية بأعمالهم، وعلى رأسهم الإسحاقي صاحب مؤلف “تاريخ الإسحاقي”، ابن أبي السرور البكري مؤلف “عيون الأخبار ونزهة الأبصار”
كما اهتم علماء هذا القرن بالتراجم، فحرصوا على جمع تراجم معاصريهم وتدوينها في كتب خاصة بها، مثل عبد الرؤوف المناوي الذي وضع “الكواكب الدرية في تراجم السادة الصوفية”، ويُعرف بالطبقات الكبرى، و”إرغام أولياء الشيطان بذكر مناقب أولياء الرحمن” الذي يُعرف بالطبقات الصغرى، كذلك “قضاة مصر في القرن العاشر وأوائل الحادي عشر الهجري” الذي وضعه أحمد بن الدميري، أيضًا إبراهيم اللقاني الذي وضع مصنف ترجم فيه لبعض علماء القرن العاشر الهجري تحت عنوان “نثر المآثر فيما أدركتهم من علماء القرن العاشر”.
كما تمتع القرن السابع عشر بوجود عدد من المؤرخين التقليديين الذين أثروا الحركة التاريخية بأعمالهم، وعلى رأسهم الإسحاقي صاحب مؤلف “تاريخ الإسحاقي”، ابن أبي السرور البكري مؤلف “عيون الأخبار ونزهة الأبصار” و”المنح الرحمانية في الدولة العثمانية” و”فيض المنان بذكر دولة آل عثمان” و”الروضة المأنوسة في تاريخ مصر المحروسة”، كذلك مرعي الحنبلي وأحمد بن سعيد العثماني والبرلسي ومصطفى الحلبي.