يتناول كتاب “الصيف الطويل” مجموعة من التفسيرات العلمية عن التغيرات الجغرافية والسياسية والثقافية المرتبطة بشكل كبير بالمناخ، ويوزعها على عدة أجزاء بعناوين مختلفة مثل “مضخات وأحزمة ناقلة” و”قرون الصيف” والمسافة بين الحظ الجيد والسيئ”، ويفسر الرؤى الجديدة في أرشيف الطبيعة التي وضعت المناخ والتاريخ القديم جنبًا إلى جنب، بدءًا من زيادة حرارة المناخ بشكل متواصل منذ عام 1850، ومؤلفه براين فاغان أستاذ أنثروبولوجيا بريطاني في جامعة كاليفورنيا.
يكتب لنا فاغان في كتابه عن علاقة الإنسان والحضارات بالمناخ، ويعرض بصورة دقيقة التحولات المناخية التي حدثت على مر 15 ألف سنة قضت، ويشرح كيف تطورت وتأقلمت البشرية على إثرها، موضحًا طبيعة الظروف المختلفة التي كان عليها العالم مقارنة مع عصرنا الحاليّ التي يقسمها إلى العصر الجليدي الكبير والعصر الجليدي الصغير والصيف الطويل، وهي المرحلة التي نعيشها الآن.
كيف غير المناخ من ملامح العالم القديم؟
الجانب المثير للاهتمام في الكتاب هو مساهمة المناخ في كتابة التاريخ ودوره في خلق أغلبية المنعطفات المهمة في حياة البشرية، مثل الهجرات والأمراض والمهن والثورات الزراعية والصناعية والتكنولوجية، كما يشير الكتاب إلى جميع التحديات التي وقفت أمام الإنسان القديم والهواجس المستقبلية التي تسيطر على تنبؤات علماء البيئة، إضافة إلى الشعوب البسيطة التي تفتقر إلى الوسائل المتطورة التي تساعدها على تخطي الصعوبات المناخية.
وبشكل تفصيلي يسرد الكتاب كيف أجبر المناخ الإنسان على التخلي عن الصيد واللجوء إلى الزراعة النباتية ودور الفيضانات في البحر الأسود في هجرة السكان إلى أوروبا، وانتقال سكان المناطق الصحراوية من أماكن الحر والجفاف إلى العيش بالقرب من المسطحات المائية لمقاومة عذاب الجفاف.
ومن ناحية أخرى، يوضح كيف ساعدت الأمطار المتزايدة في شرق إفريقيا في القرن السادس على انتشار الفئران والذباب والطاعون في أنحاء مناطق البحر الأبيض المتوسط، مما دفع السكان إلى الهجرة بأعداد كبيرة إلى أوروبا والشرق الأوسط، مسلطًا الضوء على نجاح الإنسان في الاستجابة لمتطلبات المناخ المتغيرة باستمرار، هذا واعتبر الكاتب أن انقراض بعض أنواع الحيوانات مثل النمور المسننة والماموث (نوع من الفيلة)، نتيجة التغير المناخي.
حاول الكاتب إثبات أن البشر أصبحوا أكثر عرضة لتغير المناخ منذ أن ترك الإنسان نمط حياة البدو الزراعية، وعندما بدأ بقطع الأشجار واستخدم الفحم والبترول الذي شكل ظاهرة الاحتباس الحراري
ويحاول الكاتب إثبات أن البشر أصبحوا أكثر عرضة لتغير المناخ منذ أن ترك الإنسان نمط حياة البدو الزراعية، وعندما بدأ بقطع الأشجار واستخدم الفحم والبترول الذي شكل ظاهرة الاحتباس الحراري، كذلك يشجع القراء على الربط بين التغيرات المناخية والمجتمعات والسياسة والإبداع البشري في مقاومتها.
وفي الجزء الخاص بالقدرة البشرية بشأن مقاومة الضغوط، يذكر الكاتب بعض الشعوب التي لم تستطع التكيف وهلكت في النهاية، ومثال ذلك، الفايكنج (سكان المناطق الإسكندفانية) في غرينلاند الذين ماتوا جوعًا بدلًا من الاعتماد على الثروة البحرية لديهم.
الحضارات القديمة.. بين الشتاء والصيف
كانت الفترة ما بين 13000 و8000 قبل الميلاد في أوروبا غير مستقرة بتاتًا من الناحية البيئية، وللحد من هذه الاضطرابات حاول الإنسان التعامل مع هذه الظروف من خلال إتقانه لمجموعة من المهن التي ساعدته على تخطي الهلاك وذلك من الانتقال من الرعي وجمع الثمار والزراعة إلى الاعتماد على صيد الحيوانات باستخدام الرمح ومن ثم القوس والسهام، حتى توصل إلى الثورة الصناعية.
وبشكل أكثر تحديدًا وتسليةً يكشف الكاتب كيف أدى اختراع الإبرة والخيط إلى إحداث جلبة إيجابية أو ثورة في حياة الإنسان في المناطق الباردة، فابتكار الحياكة ساعد الإنسان على صنع ملابس ذات طبقات توفر دفئًا وحماية من الريح له، وأتاحت للبشر التعامل مع ضروب المناخ المختلفة.
ومدينة أور السومرية القديمة في العراق التي تأسست على ضفاف نهر الفرات، وبسبب موقعها المثالي وقدرتها العالية على استيعاب التغيرات المناخية، استطاعت حماية سكانها من أجواء الحر والجفاف، فلقد شبهها الكاتب بالسفينة الصغيرة المقاومة للعواصف الكارثية، ولكنها انتهت بشكل مفاجئ بسبب هزيمة الجفاف والبراكين لها.
ومثال آخر حضارة المايا التي استمرت أكثر بكثير من الحضارة السومرية في بلاد ما بين النهرين أو المملكة القديمة المصرية التي امتدت من سنة 200 ميلادي حتى 800 وانتهت بسرعة بالغة وهلك سكانها وتناثرت قراها، بعد آلاف السنوات من الازدهار بسبب استهداف الجفاف لهم وعدم توفر أي مورد مائي.
تم التركيز على قدرة الإنسان في التأقلم والإبداع البشري في استخدام التكنولوجيات المختلفة من أجل التخفيف من الضغوط المناخية وحماية نفسه من الكوارث الطبيعية المتتالية
ومن هذه النقطة، يحاول الكاتب أن يتساءل عن مدى قدرة المدن الحديثة والعصرية على الاستجابة لهذه الكوارث البيئية بكل ما تمتلكه من أدوات وبنى تحتية صلبة، خاصة في ظل تعاظم هذه التهديدات البيئية التي أساسها تصرفات الإنسان.
جدير بالذكر، أن الكتاب مليء بالأدلة الجيولوجية والأثرية التي تدعم فكرته الرئيسية القائلة إن الحضارة الإنسانية تشكلت بفعل التغير المناخي التي تفيد في فهم الأحداث التاريخية القديمة ووضع العالم بصورته الحاليّة، ولا شك أنه من جانب آخر، تم التركيز على قدرة الإنسان في التأقلم والإبداع البشري في استخدام التكنولوجيات المختلفة من أجل التخفيف من الضغوط المناخية وحماية نفسه من الكوارث الطبيعية المتتالية.
وينتهي الكتاب بمجموعة من التحذيرات بسبب الاضطرابات المناخية، ويتوقع أن النتائج النهائية لهذه التحولات كارثية، خاصة في ظل وجود ستة مليارات شخص يواجهون عواقب لا يمكن تخيلها بسبب ارتفاع مستويات البحر وغرق المدن الساحلية ومعاناة المناطق الأقل مطرًا من الجفاف الحاد، ويختم قائلًا: “ليس لدينا أي فكرة متى أو كيف سينتهي هذا الصيف الطويل”.