“وعدٌ سنعيد بناءها”، هذا ما يكتبه شباب مدينة غزة على ما تبقى من جدران المعالم الأثرية التي دمّرها الاحتلال الإسرائيلي منذ الأيام الأولى للحرب على القطاع، التي استهدف فيها الحجر كما البشر في محاولة لمحو المدينة وتاريخها.
وتمثّل المعالم الأثرية التي دمرتها صواريخ الاحتلال شواهد للحياة العامة القديمة من أسواق وخانات وحمّامات عامة، وزوايا ومقابر أثرية، ومساجد وكنائس ومراكز ثقافية، وكلها توثّق جزءًا من الحضارة الإسلامية، بما فيها الأيّوبية والمملوكية والعثمانية، التي مرّت على قطاع غزة.
لم يستوعب الغزيون الجريمة التي اقترفها جنود الاحتلال بمسح أقدم المباني الأثرية، عدا عن عمليات السرقة الممنهجة لقطع أثرية تعود إلى مئات السنين وتحكي قصصًا عن مدينة عريقة، كون ذلك فيه انتهاك للقواعد الدولية بشأن حماية الإرث الثقافي والتاريخي.
ومع بداية عام 2024 أصبح قطاع غزة خاليًا من نحو 200 معلم أثري وتراثي من أصل 325 موقعًا تاريخيًا، نتيجة التدمير الممنهج الذي يمارسه الجيش الإسرائيلي منذ عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
يستعرض هذا التقرير لـ”نون بوست” أبرز المعالم الأثرية والتاريخية والثقافية التي دمرها الاحتلال، وكيف سرق الجنود قطعًا أثرية عتيقة، وموقف القانون الدولي من ذلك.
ما يقوله القانون الدولي
وتواصل “إسرائيل” استهدافها للحارات القديمة بما فيها من مباني أثرية، رغم أن ذلك يخالف النصوص القانونية الدولية، حيث تنص المادة رقم 27 من الفقرة الرابعة (الملحق الرابع) من أنظمة لاهاي لعام 1907، على واجب القوات في حالات الحصار اتخاذ كافة الوسائل لعدم المساس بالمباني المعدّة للعبادة والفنون والعلوم والأعمال الخيرية والآثار التاريخية.
كما حرّمت المادة 56 من أنظمة لاهاي لعام 1954 هدم أي حجر أو تخريب للمنشآت المخصصة للعبادة والبر والمباني التاريخية.
وتضمنت البروتوكولات الإضافية لاتفاقية جنيف الرابعة لعام 1977 في المادة رقم 53 من البروتوكول الأول، والمادة رقم 16 من البروتوكول الثاني، حظرًا لارتكاب أي أعمال عدائية موجّهة ضد الآثار التاريخية، أو الأعمال الفنية وأماكن العبادة التي تشكّل التراث الروحي للشعب.
أماكن العبادة
بداية كانت المساجد الأثرية ضمن دائرة الاستهداف الأولى لتدميرها من قبل الاحتلال، سواء بالصواريخ الحربية أو القذائف المدفعية، فدمّر المئات منها، ولعلّ من أقدمها:
– مسجد السيد هاشم: تعرّض لأضرار في جدرانه الخارجية وأسقفه العلوية بعد أن أنشأ الاحتلال حزامًا ناريًا في محيطه، ما يضع المسجد تحت تهديد الانهيار أو السقوط المفاجئ في أي لحظة ما لم يتم تدعيمه.
ويمثل مسجد السيد هاشم إرثًا تاريخيًا، إذ تفيد الروايات التاريخية أن المسجد سُمّي بذلك كونه يضمّ قبر جد الرسول محمد (ص) هاشم بن عبد بناف.
– المسجد العمري في حي الدرج: تعرض للتدمير التام، تهدم المسجد بالكامل ولم يتبقَّ منه سوى مأذنته التي لحقت بها بعض الأضرار أيضًا حيث تهدم الجزء العلوي من المئذنة، فهو أحد أكبر المساجد في المدينة، شُيّد في الفترة الأيوبية، وتبلغ مساحته نحو 4 آلاف و100 متر مربع، وأقدم جزء فيه شُيّد على الطراز البازلكي لكاتدرائية القديس يوحنا المعمدان من القرن الثاني عشر ميلادي.
– مسجد ابن عثمان: يقع في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وقد شُيّد المسجد في القرن الثامن هجري، وهو من المساجد التاريخية والأثرية في مدينة غزة وصُمّم على الطراز المملوكي، بناه الشيخ أحمد بن عثمان ويضم قبر الأمير سيف الدين يلخجا، الذي تولى نيابة غزة في سنة 1445.
وللمرة الأولى لم تسلم الكنائس المسيحية من القصف الإسرائيلي، فعادة ووقت العدوان على قطاع غزة ينزح المسلمون والمسيحيون إليها، لكن في هذه المعركة الشرسة الصليب كما الهلال كان له نصيب في التدمير والخراب على يد الاحتلال.
– كنيسة القديس برفيريوس: دمّرت طائرات الاحتلال كنيسة القديس برفيريوس التابعة للأسقفية الإنجيلية في القدس، وهي تعدّ ثالث أقدم كنيسة في العالم، وتقع في منطقة الزيتون شرق المدينة، حيث يُعتقد أن الصليبيين بنوها حوالي عام 1150.
وأدّى القصف الإسرائيلي للكنيسة إلى حفرة بلغ قطرها 7 أمتار، كما أدّى إلى انهيار في مبنى الخدمات التابع للكنيسة، وارتقى على إثر القصف الإسرائيلي للكنيسة 18 شهيدًا، منهم نازحون ورجال دين مسيحيون.
– دير القديس هيلاريون: ويشتهر موقع تل أم عامر الأثري في دير البلح بآثار دير القديس هيلاريون الذي تأسّست المباني الأولى فيه عام 329مـ، وكان من أكبر الأديرة المسيحية في الشرق الأوسط.
تعرض لقصف شديد خلال شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، ورغم محاولات اليونسكو لفرض حماية معززة مؤقتة على الموقع، إلا أنه لم يتم إنقاذه حتى الآن.
– الكنيسة البيزنطية في جباليا: تم اكتشاف هذا الموقع عام 1997، وكان مفتوحًا للجمهور منذ عام 2022، والكنيسة التي تبلغ مساحتها 800 متر مربع تتكون من صحن الكنيسة حيث تؤدى الصلوات والشعائر الدينية، و3 أروقة وآثار بنيت في الفترة البيزنطية على الطراز البازيلكي.
الكنيسة البيزنطية التي تعود إلى القرن الخامس وفسيفساؤها العديدة، والمحمية تحت مبنى حديث، كانت ملاصقة لمستشفى مخيم جباليا الذي تم قصفه، ووفقًا لمنظمة “التراث من أجل السلام” غير الحكومية، فقد تم تدمير المكان بالكامل من خلال القصف المباشر.
معالم تاريخية
وكانت المعالم السياحية أيضًا هدفًا لمحو الطابع الحضاري للقطاع، حيث استهدفت البيوت القديمة التي يعود بناؤها إلى مئات السنين، خاصة الموجودة في حيَّي الزيتون والدرج، ومن بين تلك المعالم التي اُستهدفت:
– حمّام السمرة: يقع في حي الزيتون ويعود بناؤه إلى ما يقارب 1000 عام، حيث تم تدميره بشكل كامل، وهو أحد النماذج الرائعة للحمّامات العثمانية ويدرَّس كنموذج متكامل ضمن منهجيات دراسة تاريخ الحمّامات في العمارة الإسلامية، وهو الحمّام الوحيد الباقي في غزة، تبلغ مساحته نحو 500 متر ويعتبَر مزارًا سياحيًا وعلاجيًا في الوقت ذاته.
يذكر أن أول من قام بالعمل بالحمّام هم السامريون، ومن ثم بدأ يطلق عليه اسم حمّام السمرة.
– مقبرة الإنجليز: دُفن فيها أكثر من 3 آلاف جندى بريطاني وجنود دول الكومنولث من المشاركين في الحرب العالمية الأولي، ومن بين جميع القبور 781 قبرًا مجهولة الهوية ومكتوبًا عليها: “جندي من الحرب العظمى معروف عند الله”.
وتضررت تلك المقابر تضررًا كبيرًا خلال الحملة الإسرائيلية الشرسة على غزة، وفقًا لمعلومات صحيفة “ديلي ميل”.
أما بالنسبة إلى المراكز الثقافية القديمة، فكان لها أيضًا نصيب في التدمير والقصف والحرق، ومسح ملامح العشرات منها.
– مركز رشاد الشوا الثقافي: وهو أكبر مركز ثقافي في قطاع غزة، يحتوي على وثائق وكتب ومخططات تاريخية، ويقوم بالعديد من الأنشطة من تعليم وتدريب ومؤتمرات ومعارض وعروض مسرحية وسينمائية، ومبنى المركز بحدّ ذاته تحفة معمارية أُنشئ سنة 1985، وتم ترشيحه لجائزة آغا خان المعمارية الدولية.
– الأرشيف المركزي لبلدية غزة: حيث تم تدمير مبنى الأرشيف المركزي في المقر الرئيسي للبلدية، وإعدام آلاف الوثائق التاريخية التي يزيد عمرها عن 100 عام.
– متحف قصر الباشا الأثري: ويضم قصر آل رضوان أو قصر الباشا المملوكي الطراز، يعدّ النموذج الوحيد المتبقي للقصور في قطاع غزة، يقع في حي الدرج بالطرف الشرقي من البلدة القديمة لمدينة غزة، وهو حاليًا يستخدَم كمتحف رسمي لمدينة غزة ويحتوي على الكثير من القطع الأثرية المهمة.
“إسرائيل” تسرق قطعًا أثرية وتوثق جريمتها بنفسها
لم يقتصر ما فعله الاحتلال على التدمير والحرق بل سرق عشرات القطع الأثرية، حين وثق الجريمة بنفسه وفضح الأمر، وذلك لمّا نسف جامعة الإسراء وفيها المتحف الوطني الذي أسّسته الجامعة، وهو الأول من نوعه على مستوى الأراضي الفلسطينية وضمّ أكثر من 3 آلاف قطعة أثرية نادرة، في وقت قالت الجامعة إن قوات الاحتلال نهبت تلك القطع قبل نسف المبنى.
وقتها نشر رئيس سلطة الآثار الإسرائيلية على حسابه في انستغرام، مقطع فيديو يُظهر جنود الاحتلال في موقع يضم مئات القطع الأثرية الفلسطينية داخل غزة دون توضيح مصيرها.
وبعد انتشار الفيديو وتدمير العشرات من المعالم الأثرية، قال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إن “إسرائيل” تنتهك القواعد الدولية بشأن حماية الإرث الثقافي على نطاق واسع، ومخاوف على مصير آلاف القطع الأثرية التي فُقدت من قطاع غزة، مؤكدًا أن “إسرائيل” تنتهك على نطاق واسع قواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان، والقانون الدولي الإنساني المتعلق بحماية الإرث الثقافي.
واعتبر الأورومتوسطي أن سرقة الآثار تعدّ من جرائم الحرب وفقًا للقانون الدولي، والإتجار غير المشروع بالأملاك الثقافية، بما في ذلك الآثار، جريمة بموجب اتفاقية اليونسكو لعام 1970.
وعبّر الأورومتوسطي عن مخاوفه إزاء احتمال سرقة القطع الأثرية من غزة، ويأتي ذلك في خضمّ استهداف إسرائيلي ممنهج للمواقع الأثرية والتاريخية والمتاحف في القطاع منذ بدء الهجمات العسكرية.
بدوره، قال القانوني صلاح عبد العاطي: “خلال العدوان الإسرائيلي وحرب الإبادة المتواصلة، استهدف الاحتلال الآثار الفلسطينية والمعالم التاريخية داخل قطاع غزة بهدف مسح التاريخ والهوية الوطنية الفلسطينية والمراحل التاريخية التي مرّت بها فلسطين، والتي تثبت بالمطلق أنه لا وجود لليهود في داخل هذه المنطقة”.
ويضيف: “هذه المعالم التي جرى مسحها هي أماكن دينية وتاريخية وتراثية من مراحل وعصور سابقة تمتد إلى ما قبل 4 آلاف سنة قبل الميلاد، إضافة إلى تدمير مسجد العمري ثالث مسجد بُني في الإسلام في السنة العاشرة للهجرة”.
وأكّد عبد العاطي لـ”نون بوست” أن الاحتلال يستهدف الهوية الفلسطينية، وكان ذلك واضحًا من تصريحات وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش وغيره من المتطرفين، والتي تُظهر بأنهم يمارسون إبادة حتى للتاريخ الوطني من خلال تهديدهم بتدمير القطاع ونسل الكنعانيين.
ويشير إلى أن استهداف الآثار الدينية والتاريخية يعتبَر جريمة تتعارض مع قواعد وأحكام اتفاقيات لاهاي وجنيف التي تتعلق بالممتلكات الثقافية والأماكن الدينية، لذا لا بدَّ من مساءلة الاحتلال على تلك الجرائم أمام محكمة الجنايات الدولية، داعيًا منظمة اليونسكو إلى القيام بدورها كمنظمة حارسة على التراث الإنساني.
ويرى أنه من الضروري تحرك المنظمات الدولية للحفاظ على ما أمكن من التراث والمعالم التاريخية، وإعادة إعمارها بطريقة تضمن الحفاظ على تاريخ وهوية الشعب الفلسطيني.
ويظن الاحتلال الإسرائيلي بمحاولات تدميره ونسفه للمعالم الأثرية لقطاع غزة أنه سيمحو تاريخ المدينة، لكن في حقيقة الأمر بات كل حجر في غزة يوثّق ويسرد 1000 حكاية تعزز الهوية الفلسطينية لشعب اعتاد أن ينتفض كطائر العنقاء، يعمّر ويرمّم ما أفسده المحتل الغاصب.