ما إن يعلن شهر يناير/كانون الثاني بدء أولى أيامه، حتى تشد الحكومة التونسية أنفاسها في انتظار احتجاجات شعبية أصبحت سمة هذا الشهر، قبل الثورة وبعدها، حتى أضحى شهر يناير الشهر الذي تخشاه الحكومات التونسية دون استثناء.
يناير هذه السمة لم يحد عن المألوف أيضًا، فالعديد من المناطق التونسية تعرف تحركات كبيرة، احتجاجًا على الوضع الاجتماعي والاقتصادي الذي يعيشه المواطن التونسي بعد المصادقة على قانون المالية للسنة الحاليّة، راح ضحيتها أمس، أحد المواطنين في مدينة طبربة التابعة لمحافظة منوبة غرب تونس العاصمة، مما ينذر بخروج الأوضاع عن السيطرة.
احتجاجات متفرقة وسقوط قتيل
احتجاجات هذه السنة بدأت يوم الثالث من يناير مع إعلان بعض شباب تونس المنتمين للعديد من التيارات الفكرية، تأسيس حملة احتجاجية جديدة، تحت اسم “فاش نستناو” (ماذا ننتظر)، تهدف حسب القائمين عليها إلى إجبار الحكومة التونسية على الرجوع في قانون المالية لهذه السنة أو سحب بعض فصوله خاصة المتعلقة بالزيادة في أسعار العديد من المواد الاستهلاكية التي من شأنها أن تؤثر سلبًا على القدرة الشرائية للمواطن التونسي.
مع وصولها يومها السادس، اتسعت رقعة الاحتجاجات ضد غلاء أسعار المواد الاستهلاكية في تونس، وشملت محافظات القصرين وسيدي بوزيد وقفصة ومنوبة والكاف وأحياء شعبية من تونس العاصمة، وشهدت تدخل الشرطة لاعتقال محتجين واستخدام القوة لتفريق التظاهرات، مما أدى إلى اندلاع اشتباكات ووفاة شخص وإصابة آخرين.
تتضمن ميزانية 2018 زيادات في بعض المواد ورفع الضرائب على الاتصالات الهاتفية والتأمين ورفع أسعار البنزين وبعض المواد الأخرى
وشهدت عدة مناطق في تونس العاصمة ليلة أمس الإثنين احتجاجات، تحولت في طبربة وحي التضامن وحي الانطلاقة إلى اشتباكات بين المحتجين وعناصر الأمن التي استعملت القنابل المسيلة للدموع من أجل تفريق المتظاهرين وحماية الممتلكات العامة، بعد أن عمد بعض المحتجين إلى خلع بعض المراكز التجارية والمؤسسات البنكية لسرقة محتوياتها وقيام بعضهم بقطع بعض الطرقات.
فيما شهدت عدة أحياء في محافظتي القصرين وسيدي بوزيد أمس، تظاهرات مناهضة للحكومة تخللتها عمليات كَر وفر بين المحتجين وقوات الأمن، ورفع المتظاهرون شعارات تنادي بإسقاط الحكومة ووقف العمل بقانون المالية والزيادات الأخيرة، كما تظاهر عشرات المواطنين في مدينة الكاف أمام مبنى المحافظة رافعين شعارات مناهضة للحكومة.
وتتضمن ميزانية 2018 زيادات في بعض المواد ورفع الضرائب على الاتصالات الهاتفية والتأمين ورفع أسعار البنزين وبعض المواد الأخرى مثل الشاي والقهوة والأدوية إضافة الى اعتزام الحكومة اقتطاع 1% من رواتب كل الموظفين كمساهمات للصناديق الاجتماعية التي تعاني عجزًا.
التخريب والعنف يشوه الاحتجاجات
أعمال العنف والفوضى والتخريب وعمليات السرقة التي تزامنت مع التحركات الاحتجاجية التي شهدتها عدة مدن تونسية ليلة أمس لمطالبة الحكومة بالرجوع عن الزيادات في الأسعار، لاقت استنكارًا كبيرًا من العديد من التونسيين.
ويتهم تونسيون ائتلاف الجبهة الشعبية وهو ائتلاف أحزاب يسارية، بتشويه هذه التحركات الاحتجاجية من خلال اللجوء إلى العنف وتأجيج الوضع في البلاد واستغلال التحركات السلمية للتخريب والنهب وفرض نظامها من خلال استغلال تحركات الشباب المشروعة.
ولجأت الحكومة التونسية إلى زيادة الأسعار ضمن حزمة إصلاحات، وُصفت بالمؤلمة للحد من عجز الموازنة الذي بلغ 6% في العام 2017، وتجاوز الأوضاع الاقتصادية الصعبة في البلاد، لكن الزيادات في أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية تفاقم الضغوط على المقدرة الشرائية للتونسيين وتواجه معارضة كبيرة من التونسيين تسعى بعض الأطراف إلى استغلالها سياسيًا.
رافقت بعض الاحتجاجات أمس أعمال عنف
وسبق أن وجه الناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية اليسارية حمة الهمامي، الدعوة إلى الأحزاب والقوى السياسية والمدنية التي عارضت قانون المصالحة الاقتصادية، للتشاور وتحديد الخطوات للتصدي لقانون المالية لسنة 2018 والعمل على تعليقه “لما تضمنه من إجراءات خطيرة” على حد تعبيره.
واعتبر متابعون محاولة الجبهة الشعبية افتعال العنف واستهداف المؤسسات الخاصة والعامة يأتي في إطار عملها لإفشال مسار عملية الانتقال الديمقراطي في تونس وإرباك الديمقراطية الناشئة في البلاد بغية السيطرة على الحكم رغم تشتته حسب ما صرح به محمد الكيلاني رئيس الحزب الاشتراكي اليساري الذي قال في وقت سابق: “اليسار التونسي لا يستطيع أن يكون فاعلاً في الساحة السياسية لأنه مشتت ويأبى أن يتوحد”.
الخميس الأسود
هذه الاحتجاجات تذكر التونسيين بأحداث سابقة حدثت في نفس هذا الشهر الذي أصبح له رمزية في التاريخ التونسي السياسي المعاصر، فهو شهر كل المخاطر على السلطة القائمة نظرًا لما شهده طوال سنوات من احتجاجات وصدامات تركت بصماتها في الوعي الجمعي التونسي.
البداية كانت في الـ26 من شهر يناير 1978، ذلك اليوم الذي شهد أحداثًا عرفت فيما بعد باسم أحداث “الخميس الأسود” المفصلية في تاريخ تونس، حيث عرفت صدامات بين الاتحاد العام التونسي للشغل (المركزية النقابية) والسلطة، بعد أن أعلنت قيادة “المنظمة الشغيلة” رفضها للسياسة التي تتبعها الحكومة، مما أدى إلى اندلاع مواجهات واعتقالات ووفاة العديد تحت التعذيب.
تشير مصادر نقابية إلى سقوط أكثر من 400 قتيل وآلاف الجرحى في العاصمة وبقية المدن التونسية خلال هذه الأحداث
في ذلك قرر الاتحاد العام التونسي الشغل الإضراب العام في البلاد، نتيجة عدم استجابة النظام لمطالبه، حيث عمت تونس مظاهرات تحمل مطالب سياسية ونقابية عديدة، واجهها نظام بورقيبة بالخيار الأمني، فكانت بداية الصدام بين الطبقة الشغيلة التي يقودها اتحاد الشغل ونظام الحبيب بورقيبة، وشهدت تونس يومها نزول الجيش لأول مرة إلى الشوارع وانتشاره في العاصمة.
وتشير مصادر نقابية إلى سقوط أكثر من 400 قتيل وآلاف الجرحى في العاصمة وبقية المدن التونسية خلال هذه الأحداث، فيما أقرت السلطة آنذاك بسقوط 52 قتيلاً و365 جريحًا فقط، كما تمت إحالة 30 من القيادات النقابية إلى محكمة أمن الدولة وهم أعضاء المكتب التنفيذي والكتاب العامين للاتحادات الجهوية والكتاب العامين للجامعات والنقابات العامة والأساسية، في حين تمت مقاضاة المئات من النقابيين الآخرين أمام المحاكم العادية، حسب مؤرخين.
ثورة الخبز
ثاني هذه الأحداث كان في يناير 1984، فيما عرف بأحداث الخبز التي تعرف أيضًا بانتفاضة الخبز، وهي من بين الأحداث الفارقة في تونس خلال الفترة الأخيرة من حكم الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، في ثمانينيات القرن الماضي.
وانطلقت الاحتجاجات من مدينة دوز بالجنوب التونسي، لتعم بعدها أغلب أنحاء البلاد وصولاً إلى العاصمة، وقد اندلعت على خلفية قرار حكومة محمد مزالي آنذاك إلغاء الدعم الحكومي عن العجين ومشتقاته، مما يعني آليًا رفع أسعار الخبز وهي مادة استهلاك رئيسية للتونسيين.
قمع قوات الأمن للممحتجين، يناير 1984
وبلغت الاحتجاجات ذروتها بدءًا من اليوم الثاني من شهر يناير، مما أدى إلى سقوط مئات القتلى والجرحى في مواجهات بين محتجين والشرطة، ومع اتساع رقعة الفوضى وأعمال العنف والتخريب وسقوط قتلى وجرحى من بين المتظاهرين أعلن الحبيب بورقيبة حالة الطوارئ في البلاد كما فرضت السلطات حظر تجوال.
وانتشر الجيش في العاصمة والمدن الكبرى لاستعادة النظام بينما شنت قوات الأمن حملة اعتقالات واسعة في صفوف المتظاهرين والنقابيين والمعارضين، واضطر بورقيبة إلى إعلان التراجع عن الزيادات التي أقرتها الحكومة في خطاب له يوم السادس من يناير.
انتفاضة الحوض المنجمي
اندلعت الأحداث يوم 5 من يناير سنة 2008، على إثر إعلان نتائج انتداب أعوان شركة فسفاط قفصة، وانطلقت الأحداث بتجمعات حاشدة بمدينة أم العرائس (تتبع محافظة قفصة) منعت حركة المرور وأغلقت الطريق إلى شركة الفسفاط ورفعت شعارات تطالب بالحق في التشغيل.
بعد ذلك، خرجت مسيرات كبيرة شارك فيها الأهالي، انتهت بتنظيم الشباب العاطلين عن العمل وأرامل عمال الشركة ضحايا حوادث الشغل، اعتصامات، تحت الخيام، أمام المقرات الرسمية، وتصاعدت الحركة الاحتجاجية بالحوض المنجمي بشكل مفاجئ، حيث أغلقت مداخل مدن أم العرائس والمظيلة والمتلوي (أهم مركز لإنتاج الفسفاط) بالعجلات المطاطية المحترقة ومنعت حركة القطار الذي يحمل الفسفاط.
استمر التوتر في مدن الحوض المنجمي، طيلة ستة أشهر كاملة رافقها تحرك لمتظاهرين في عواصم غربية عدة
جوبهت هذه التحركات الاحتجاجية بالقمع من قوات الأمن حتى لا تصبح رمزًا لغضب الشباب والعمال في أرجاء البلد، حيث أقدمت الشرطة التونسية على القيام بحملة مداهمات وإيقافات بالمنازل للعشرات من الشباب المعطل عن العمل، وأدت هذه الأحداث إلى موت ثلاثة شبان من أبناء الحوض المنجمي.
استمر التوتر في مدن الحوض المنجمي، طيلة ستة أشهر كاملة رافقها تحرك لمتظاهرين في عواصم غربية عدة، من ذلك دخول عدد من الشباب أصيلي منطقة الحوض المنجمي في إضراب عن الطعام جماعي في إحدى الحدائق العمومية في العاصمة الفرنسية باريس.
ثورة الياسمين
يناير 2011، خرج التونسيون في وجه نظام ابن علي للمطالبة بالشغل والحرية والكرامة الوطنية قبل أن تطالب بإسقاطه، بداية الأحداث كانت في الـ17 من شهر ديسمبر 2010 حين صفعت الشرطية فادية حمدي بائع الخضار المتجول محمد البوعزيزي في مدينة سيدي بوزيد (وسط)، فلم يجد البوعزيزي غير إشعال النار في جسده أمام مبنى المحافظة، تعبيرًا عن شعور عميق بالإحباط واليأس بعد أن طرق أبواب المسؤولين المحليين للمدينة ولا مجيب.
حادثة سرعان ما أخذت صداها لدى شباب تونس خاصة العاطلين عن العمل منهم، دفعت المئات إلى تنظيم مظاهرات واحتجاجات سلمية في مدينة سيدي بوزيد، سرعان ما تحولت في اليوم التالي إلى مواجهات دامية مع قوات الأمن، لتمتد بعدها إلى محافظة القصرين المحاذية ومن ثم إلى محافظات أخرى في البلاد قبل أن تصل العاصمة تونس يوم 12 من يناير 2011.
خروج الشعب للشارع للمطالبة بإسقاط النظام في يناير 2011
مظاهرات واحتجاجات شملت مختلف مدن تونس نتج عنها سقوط العديد من القتلى والجرحى في صفوف المتظاهرين لم يحدد عددهم إلى الآن، وأجبرت ابن علي قبل هروبه على إقالة عدد من وزراء حكومته على رأسهم وزير داخليته وتقديم وعود لمعالجة المشاكل التي طالب بحلها المتظاهرون، وعزمه على عدم الترشح لانتخابات الرئاسة سنة 2014.
وأمر ابن علي بالتزامن مع المعالجة الأمنية بفتح المواقع المحجوبة في تونس كاليوتيوب بعد سنوات من الحجب، كمسكنات لتهدئة الأوضاع والتحكم في المحتجين، بالإضافة إلى تخفيض أسعار بعض المنتجات الغذائية، ومع ذلك لم تنجح المسكنات ولا القبضة الأمنية في إخماد ثورة ارتفع لهيبها واشتد حتى سقط النظام ورحل عشية 14 من يناير.
تشترك كل هذه الاحتجاجات في الأسباب، فجميعها اشتعل في البداية نتيجة مطالب اجتماعية واقتصادية لتحسين وضع المواطنين ليبلغ فيما بعد المطالب السياسية، من قبيل فتح البلاد أمام التعددية السياسية وإسقاط النظام وغيرها من المطالب السياسية، إلا أن نتائجها اختلفت من حدث إلى آخر.