أًطلقت منذ أيام حملة “فاش تستناو؟” الشبابية في جل ربوع البلاد احتجاجًا على قانون المالية لسنة 2018 وما رفقه من قرارات اقتصادية صادمة ومؤلمة منها رفع الضريبة على القيمة المضافة واستحداث ضرائب أخرى، مما نتج عنه ارتفاع أسعار المواد الأساسية ومشتقات البترول في إطار سياسة متواصلة منذ سنوات ضمن اتفاقات سرية أُبرمت مع المانحين الدوليين تشمل جل القطاعات الحيوية ومجالات التدخل الاقتصادي والاجتماعي.
وذهب كثير من الساسة والخبراء الاقتصاديين إلى أن المؤسسات المالية الدولية تحـاول فـرض برنـامج إصـلاح هـيكلي مدمر للاقتصـاد التـونسي له تبعات اجتماعية خطيرة على مستوى عيش المواطنين، يقضي بإلغــاء صـندوق الدعـم طيلة السـنوات القادمة ورفع الضـغط الجبائي إضـافة إلى مراجـعة مزايا نظام التقاعد وصنـاديق التـغطية الاجتـماعية ورعاية الفئات الفقيرة.
ويستذكر التونسيون أن الصندوق الدولي كان قد فرض على بلادهم ذات يوم من سنة 1986 برنامج إصلاح اقتصادي بموجبه تم خصخصة القطاع العام وخلق الأشكال الهشة للتوظيف على غرار المناولة والآليات، طبقها النظام السابق بحرص شديد؛ مما خلق تباينًا في المستوى المعيشي بين الفئات الاجتماعية والجهات.
فهل إن تم تطبيق هذا البرنامج القديم مجددًا في تونس سيقضي على تحقيق حلم دولة الرعاية الاجتماعية؟
ألم تكن ثورة اجتماعية؟
صار الاستحقاق الاجتماعي الديمقراطي للثورة التونسية مجرد شعار رفع وتُركت مطالبه جانبًا، فالطيف الواسع من الشعب التونسي لديه قناعة راسخة أن الغاية من الثورة لم تكن أبدًا منح بضع مئات الأحزاب تراخيص العمل السياسي القانوني وخوض لعبة الانتخابات بهدف التراقص على كراسي الحكم وتأجيج الصراع الهوياتي بين الإسلاميين والعلمانيين.
فالمطالب الشرعية للثورة كانت إنهاء حالة التفاوت التنموي المجحف بين الجهات ومعالجة مشكلة البطالة وتشغيل الشباب ومعالجة أزمة التعليم بما تتناسب الاختيارات التربوية مع مطامح الشباب الاجتماعية وتحسين ظروف عيش الطبقة الفقيرة والطبقة الوسطى التي اقتربت من حافة الفقر وكسر من أجلها الشباب هذه الأيام حاجز الصمت ونزلوا للشارع مجددًا لأنهم أيقنوا أن حكامنا الجدد يجتهدون في إضاعة دور الدولة الاجتماعي.
الدور الاجتماعي للدولة
إن الحديث عن الدور الاجتماعي للدولة يأتي هنا باعتباره حديثًا عما “يجب أن تقوم به مؤسسات الدولة من تدخلات لحماية مواطنيها اقتصاديًا واجتماعيًا من خلال وضع السياسات وسنِ التشريعات اللازمة لتنظيم قوى السوق وإصلاح الاختلالات الناجمة عن عملها لتحقيق العدالة الاجتماعية وضمان الاستقرار وذلك بتوفير شبكات الأمن الاجتماعي ضد المخاطر والأمراض كالفقر والتهميش والفوارق الجهوية وتوفير المواد المدعمة والخدمات العامة والحد من الآثار السلبية للعولمة والنيوليبرالية الموحشة على الفقراء”.
فالفقر موجود في تونس منذ زمن ليس بقريب وأسبابه متعددة ومتشابكة وتقدر نسبته العامة المسجلة لدى وزارة الشؤون الاجتماعية خلال سنة 2014 بـ24% خولت لـ250 ألف عائلة الانتفاع بالمساعدات الاجتماعية والمنح المرصودة من الدولة، ونلفت الانتباه إلى أن هذا الرقم يمثل 90% من نسبة العائلات الفقيرة المقدرة لدى المعهد الوطني للإحصاء في نفس السنة.
يذكر أن المعهد الوطني للإحصاء يقسم الفقر في تونس حسب تصنيفات البنك الدولي إلى فقر مدقع ونسبته قدرت سنة 2012 بـ3.5%، أضف إليه أكثر من 700 ألف شخص ممن ينتمون إلى الفئات الفقيرة لتكون النسبة قد تجاوزت 11.5% أي أن ما يزيد على مليون وربع مليون تونسي يعيشون تحت خط الفقر
وهنا يطفو خلاف غير مفهوم وغير مبرر لتأثيراته السلبية في سياسة الدولة بين وزارة الشؤون الاجتماعية والمعهد الوطني للإحصاء بشأن تحديد نسبة الفقر وتفاوتها بينهما ذلك أن تقديرات المعهد الوطني للإحصاء مبنية على “المنهجية العلمية”، في حين تقول وزارة الشؤون الاجتماعية إن تقديراتها مبنية على معايير متبعة في برامجها.
يذكر أن المعهد الوطني للإحصاء يقسم الفقر في تونس حسب تصنيفات البنك الدولي إلى فقر مدقع ونسبته قدرت سنة 2012 بـ3.5%، أضف إليه أكثر من 700 ألف شخص ممن ينتمون إلى الفئات الفقيرة لتكون النسبة قد تجاوزت 11.5% أي أن ما يزيد على مليون وربع مليون تونسي يعيشون تحت خط الفقر.
ولكن المفاجأة الصادمة أن آخر الدراسات التي أنجزها المعهد عن الفقر متعدد الأبعاد في تونس (لم يتم كشفها رسميًا إلى حد الآن وحصل موقع نواة للصحافة الاستقصائية على نسخة منها وتم عرضها في ندوة دولية عن موضوع الفقر متعدد الأبعاد نظمت في مدينة “أكابولكو” بالمكسيك يومي 8 و9 من نوفمبر 2016 ) توصلت إلى أن نسب فقر وطنية تقدر بـ28.97%، ويأخذ هذا المؤشر بعين الاعتبار أربعة أبعاد تتمثل في الصحة والتعليم والشغل وظروف العيش، وكل واحد من هذه الأبعاد يتم قياسه حسب جملة من المعايير.
فما مصير هذه الملايين من المواطنين تحت خط الفقر في ظل الحديث عن الإصلاحات المفروضة من صندوق النقد الدولي؟
الرعاية الاجتماعية في ظل شروط صندوق النقد الدولي؟
رغم الحديث عن تعدد البرامج الاجتماعية لحكومات نصف قرن ولكنها لم تستطع أن تخفف من سلبيات السياسة الاقتصادية التونسية في تهميش قطاعات واسعة من السكان، وإذا كانت قد قامت بتمويل برامج أمن اجتماعي فإن هذه البرامج لم تقدم سوى الحد الأدنى من الدعم من خلال عنايتها بإبقاء المحرومين على قيد الحياة.
فالرعاية الاجتماعية منذ إقرارها بعيد الاستقلال تمثل وسيلة لتخفيف المعاناة على الطبقات المحرومة خاصة في فترات التقلبات الاقتصادية والكوارث الطبيعية، وتكون في كثير من الأحيان مساعدات رمزية ضمن برامج مسقطة، بل إن الكثير من المتابعين ربطوا بين هذه المساعدات وخاصة منحة العائلات المعوزة والعلاج المجاني بالفساد والمحسوبية، وهو كلام منطقي إذا تذكرنا ممارسات النظام السابق في ربط إسناد هذه المساعدات بالولاء الحزبي للتجمع المنحل، بل إن الكثير انتفع بالتشغيل عن طريق هذه المنظومة دون وجه حق.
صيحة الفزع التي أطلقها الشباب اليوم من خلال تحركاتهم في أرجاء الوطن لا أعتقد أنها ستُفيق النظام الساقط من غيبوبته وهو الفاعل الذي تتنازعه قوى تتقارب أحيانًا وتتعاند أحيانًا أخرى
ولكن رغم الجهد ومساعي الإصلاح من المتدخلين في القطاع لتكون البرامج موجهة بالأساس لمستحقيها ولكن تبقى دائمًا دون المأمول وهي برامج مفرغة حتى إن تغيرت مسمياتها أجزم أنها لن تستطيع مجابهة الإصلاحات الجديدة المفروضة من صندوق النقد الدولي كشروط قاسية على تونس نحو التخلي عن الدعم المالي للسلع الضرورية في حياة المواطنين كالخبز والسميد والشاي والسكر والزيت والمشتقات النفطية وغير ذلك من السلع التي تشكل القوت اليومي للناس.
كما ستلزم هذه الإصلاحات بتقليص الإنفاق على القطاعات الخدماتية كالصحة والتعليم والسكن والضمان الاجتماعي وبالمقابل زيادة الضرائب على الخدمات اليومية كالكهرباء والمياه والنقل والاتصالات وما شابهها.
صيحة الفزع التي أطلقها الشباب اليوم من خلال تحركاتهم في أرجاء الوطن لا أعتقد أنها ستُفيق النظام الساقط من غيبوبته وهو الفاعل الذي تتنازعه قوى تتقارب أحيانًا وتتعاند أحيانًا أخرى، ولكنها في كل الأحوال تضع المواطن البسيط بين شقي رحى، فهي تطمع دومًا لتضحيات جسام من الطبقات الفقيرة والمتوسطة لعبًا على وتر “التضحية من أجل الوطن” وكأنها قدر من الإله.
وفاتهم أن الوضع الاقتصادي الصعب الذي تمر به بلادنا وعلى عكس ما يروج له خطابهم الرسمي، ليس وليد الظرف الراهن فقط (الوضع الهش وعدم الاستقرار وطبيعة المرحلة الانتقالية…) بل نتيجة مباشرة لخيارات اقتصادية واجتماعية لم تقطع في جوهرها مع الخيارات النيوليبرالية ومنوال التنمية الفاشل ومع واقع الارتهان لمصالح الرأسمال الاستعماري العالمي والحفاظ على مصالح الطبقات المحلية المرتبطة به.