تحدّث فرويد بشكلٍ كبير عن المعارك التي تخوضها “الأنا” أو “ego” بالقوى الثلاث التي تحيط بها، الهو “id” التي تمثل محرّكاتنا البيولوجية والغرائزية، والأنا العليا “super ego” متمثلة في القيم والمبادئ الأخلاقية والعائلية والمجتمعية، والواقع “reality” الذي لا مفرّ منه. وعندما تكون كل تلك الضغوط أكثر من اللازم، تشعر “الأنا” بالإرهاق أو أنها على وشك فقد السيطرة أو الخروج من الواقع، وهنا ينشأ القلق والتوتر.
أفضل طريقة للتعامل مع ذلك القلق هي عن طريق حلّ المشكلات التي تسببه، لكننا في كثيرٍ من الأحيان نلجأ للكذب على أنفسنا وخداعها بطرقٍ شتى بلاوعيٍ منا لتخليص أنفسنا من ذلك القلق والتوتر أو أي مشاعر سلبية أخرى قد تنتج عن الضغوطات الصراع بين القوى الثلاث، الأمر الذي يُطلق عليه “آليات الدفاع النفسية”.
آليات الدفاع هي استراتيجيات نفسية يأتي بها العقل الباطن بهدف التلاعب بالأفكار والتحايل على العواطف أو تشويه الواقع وتغييره، وذلك لحماية النفس من المشاعر السلبية.
كان سيغموند فرويد أول من تطرّق لآليات الدفاع هذه، وعلى عكس الكثير من نظرياته وفرضياته التي أثبتت بطلانها مع الزمن ولم يعد لها أي أساس من الصحة، فإنّ نظرية الدفاع النفسي ظلت صامدة وأحدثت صدىً كبيرًا في علم النفس إلى يومنا هذا. لاحقًا عملت ابنته آنا فرويد، عالمة النفس كذلك، على النظرية وقامت بتطويرها وإضافة بضع آلياتٍ على تلك التي وضعها أبوها، وبذلك فتحت الباب لعلماء آخرين من بعدها لفهم طريقة تصرّف البشر وتعاملهم مع واقعهم أو مشاعرهم وأفكارهم السلبية.
نشرت آنا عام 1934 كتابها “الأنا وآليات الدفاع”، الذي رسّخ للمرة الأولى الفكرة الأساسية القائلة بأنّنا نسعى بشكلٍ غريزيّ وفطريّ لحماية “الأنا” والحفاظ على صورة مقبولة لدينا من ذواتنا أمام أنفسنا أولًا وأمام من حولنا ثانيًا، وذلك من خلال آليات دفاع متنوعة نهدف من خلالها لتتعامل مع الواقع بأقل ألمٍ ممكن.
في علم النفس، تعرّف آليات الدفاع “Self-Defense Mechanisms” بأنها استراتيجيات نفسية يأتي بها العقل الباطن بهدف التلاعب بالأفكار والتحايل على العواطف أو تشويه الواقع وتغييره، وذلك لحماية النفس من المشاعر السلبية كالقلق أو التوتر أو لمنع الاكتئاب أو للهرب من الدوافع غير المقبولة أو غير الممكنة.
تتعدّد آليات الدفاع وتختلف وفقًا للموقف أو للشخص نفسه، ولتسهيل فهمها فيتمّ تصنيفها إلى عدة أصناف رئيسية هي: آليات الدفاع المَرَضية والتي تؤدي لاضطرابات نفسية لاحقة، الإنكار مثالًا. ثمّ هنالك الآليات العصابيّة التي لا توفر طريقة ناجحة في التعامل مع المشاعر السلبية والتجارب الشخصية المؤلمة لا على المدى القصير أو الطويل مثل التبرير أو المنطقة. والآليات غير الناضجة التي توفّر شعورًا مؤقتًا بالراحة غير أنها لا تساعد في التعامل مع المشكلة على المدى البعيد مثل الإسقاط. وأخيرًا هنالك الآليات الناضجة التي تساعد فعليًا في توفير طرقٍ صحية للتعامل مع المشاكل والمشاعر السلبية التي تعتري الفرد مثل التسامي.
لا يُعدّ الإنكار كذبًا، بل هو أشبه بالضباب الذي يحجبنا عن رؤية ما يجري في حياتنا وحقيقة واقعنا.
الإنكار: غباش في وجه الحقيقة
نحن لا نعترف بمشاكلنا بسهولة! كم مرة خدعنا ذواتنا أنّنا لا نصرف كثيرًا من النقود؟ أو على الأقل “ليس كما يفعل الآخرون”. أو كم مرة حدّثتَ نفسك أنك غير مدمن على التدخين وأنك تستطيع تركه في اللحظة التي تريد، وإذا حدث وواجهنا صديقٌ أو قريبٌ بالمشكلة، واجهنا مواجهته بردة فعلٍ عنيفة، منكرين تمامًا وجود تلك المشكلة.
يُعتبر الإنكار “Denial” من أكثر وسائل الدفاع النفسية بدائية، ذلك أنه مرتبط بشكل وثيق بالمراحل الأولى من مراحل تطور الطفل. وتتنوع درجاته من أكثرها بساطة حتى أكثرها تعقيدًا، كما يلجأ إليه الفرد للهرب من تبعيات المشكلة أو خوفه من تحمّل نتائجها الحرجة والصعبة والتي تكون مجهولةً لديه.
لا يُعدّ الإنكار كذبًا، بل هو أشبه بالضباب الذي يحجبنا عن رؤية ما يجري في حياتنا وحقيقة واقعنا. تكن خطورة هذا النوع من الآليات في أنها تسمح للفرد بالتكيّف على المدى الطويل، فيتصالح مع المشكلة تصالحًا تامًّا حتى لا يعي وجودها أو خطورتها.
تُعدّ آلية الإسقاط واحدة من أكثر الآليات المستخدمة في العلاقات الثنائية، خاصة الحميمية والزوجية منها.
الإسقاط: طرف آخر يسهّل الأمر
ينطوي الإسقاط “Projection” على الاعتراف بوجود مشاعر سلبية والوعي للمشكلة، لكنّ الفرد هنا لا يرغب بتحميل نفسه للمشاعر والعواطف السلبية تلك، ولذلك يبحث عن شخصٍ آخر يعزوها له ويسقطها عليه بهدف التقليل من حدة التوتر والقلق عنده، كأنْ تلوم شريكك أو زوجتك على عيوبٍ تدرك تمامًا أنها فيك، لكنك ترفض الاعتراف بذلك خوفًا على صورتك الشخصية أمام نفسك وأمامهم وبالتالي تبدأ باتّهامهم بتلك العيوب.
تُعدّ آلية الإسقاط واحدة من أكثر الآليات المستخدمة في العلاقات الثنائية، خاصة الحميمية والزوجية منها، ولو فكّرنا قليلًا بالاتهامات والهجومات التي نشنّها على الطرف الآخر، لوجدنا أننا نفعل ذلك لا لشيءٍ سوى لإدراكنا بأنّ ثمة مشكلة فينا غيرَ أنّنا نفضّل ألا نحبط أنفسنا بمواجهتها أو بتحمّل المسؤولية طالما أنّ هناك طرفًا آخر يمكننا لومه وتحميله المشكلة.
في النكوص، يرجع الفرد إلى مرحلة سابقة من مراحل عمره وممارسة السلوك أو التصرف الذي كان يمارسه في تلك المرحلة حيث كان يجده فعّالًا ويمنحه شعورًا بالأمان أو الراحة النفسية.
النكوص: التقهقر للطفولة هربًا من الواقع
هنا يلجأ الفرد إلى الرجوع أو الانحدار أو التقهقر “Regression” إلى مرحلة سابقة من مراحل عمره وممارسة السلوك أو التصرف الذي كان يمارسه في تلك المرحلة حيث كان يجده فعّالًا ويمنحه شعورًا بالأمان أو الراحة النفسية في حين تعرّضه للتوتر أو القلق أو الإحباط.
وفقًا لنظرية النكوص، فإنّ الفرد يعود إلى أساليبه الطفولية في ثورته وانفعالاته حين يواجه مشكلةً أو أزمةً ما تؤثر على مسار حياته وتولد ضغطًا أو توترًا يستعصي عليه إزاحته أو تحييده، نظرًا لأنّ الانفعال والرفض والثورة هي سمات سائدة في سلوكيات الأطفال الذين يلجؤون إليها في حالات التهديد النفسيّ أو للتخلص من المواقف السلبية.
ترى مدرسة التحليل النفسي أنّ النكوص يتضمن وجود نقاط في تطور الفرد ثبت عندها الإشباع الغريزي يعود إليها كلما أصبح الإشباع مُحالًا أو يصعب تحقيقه في المستوى الأعلى الذي بلغه. كما يتضمن تعثّر الإشباع أو الحرمان منه في الوقت الحاضر ما يؤدي إلى ارتداد الطاقة النفسية إلى مراحل سابقة من عمر الفرد والتي بإمكانها أنْ توفّر له الإشباع نكوصيًا.
هناك سمة أساسية في آلية النكوص، وهي الاقتناع بأن المشاكل التي تحدث هي دائمًا نتيجة أخطاء أشخاص آخرين، ويرجع السبب في ذلك إلى مرحلة الطفولة حيث يعتقد الطفل أنّ أبويه يتحكّمون بالعالم من حوله، لذلك مهما فعل أو أحدث من مشاكل، فإنهما قادران على حلّها وإعادة الأمور إلى نصابها، لذلك فلا لومَ يقع عليه أبدًا طالما وجود والديْه يعطيه شعورًا بأنّ كلّ شيء على ما يرام.
نوبة الغضب هي آلية دفاع رجعية نكوصية مميزة، فبدلًا من محاولة التوصل إلى حل للمشكلة التي يقع فيها الفرد، فإنه يحاول -وفقًا لمنطق الطفولة- حلّها عن طريق الاستياء والغضب. يرى الأطفال أنّ هذه المحاولات هي أفضل ما يمكن القيام به، يبكون ويصرخون ويضربون بقبضاتهم رفضًا لما يحدث معهم وطلبًا للمساعدة.
كما تتعدّد صور النكوص كثيرًا ويتخذ صورًا منوعة، بدءًا من الانفعال والتبرم وسهولة الاستثارة والصراخ وردات الفعل العنيفة وغير المتزنة، مرورًا باكتساب سلوكيات طفولية مثل مص الأصبع أو قضم الأظافر أو التبول اللاإرادي أو الميل للاعتماد التامّ والمطلق على الأم أو الشريك العاطفي، أو الغيرة الشديدة المرَضية، إلى الإدمان غير المتزن على الأكل أو التدخين أو الكحوليات.
تتجلّى في التبرير فكرة التنافر المعرفيّ، أي محاولة الفرد حمل أفكار غير متوافقة أو القيام بسلوكيات متناقضة تتعارض مع المعتقدات والأفكار والقيم الموجودة لديه.
التبرير: لم ينضج العنب بعد!
يهدف التبرير أو المَنطقة “Rationalization” بمصطلحٍ آخر، إلى إيجاد أعذار وسبرٍ ذكيّ لتصرفاتنا تبدو من الخارج مترابطة ومصممة بعناية بهدف الوصول إلى استنتاجٍ يبرّر تلك التصرفات ويكسوها بطابع المنطق والصحة، غير أنها في الحقيقة بعيدة كلّ البُعد عن الواقع ولا تعكس صورةً حقيقية عن أفكار ومشاعر الفرد ودوافعه الشخصية حيال ذلك التصرف أو السلوك.
تتجلّى في هذه الآلية فكرة التنافر المعرفيّ، أي محاولة الفرد حمل اثنين أو أكثر من الأفكار والمعتقدات أو الإتيان بسلوكيات متناقضة في نفس الوقت، فيقوم بسلوكٍ يتعارض مع معتقداته وأفكاره وقيمه، أو يقنع نفسه بمعلومات جديدة تتعارض مع المعتقدات والأفكار والقيم الموجودة لديه سابقًا، تمامًا كما في الأسطورة اليونانية القديمة عن الثعلب الذي كان يتضور جوعًا عندما شاهد عناقيد العنب تتدلى من أيكة عالية قفز الثعلب لكي يصل إليها عدة مرات دون جدوى، فلما يئس من ذلك مضى في طريقه قائلًا أنّ العنب لمّا ينضج بعد وما زال حصرمًا.
خذ مثلًا أنه تم رفضك لوظيفةٍ معيّنة كنتَ ترغب فيها كثيرًا، فإنّ عقلك المنطقيّ الدفاعيّ هنا سوف يحاول إقناعك أنّ المؤسسة التي رفضتك كانت غير كفء أو أنك لم تكن مستعدًا للعمل على أي حال. أو تخيل أنّك تعرّضت للرفض من فتاة كنت ترغب بالتعرّف عليها، هنا قد تبدأ بالتبرير لنفسك أنّ تلك الفتاة كانت مملة أو أنها غير مناسبة لك بتاتًا.
تنبع منطقة أفعالنا وسلوكياتنا إلى حاجةٍ نفسيةٍ أساسية وملحّة لدينا وهي الحفاظ على صورة إيجابية لأنفسنا وعلى مستوىً عالٍ من احترام الذات.
يستطيع الفرد من خلال التسامي توجيه الأفكار والمشاعر والاندفاعات السلبية أو غير المقبولة إلى سلوكيات أكثر إيجابية وقبولًا عند ذاته والمجتمع.
التسامي: خلق إيجابيّ في مواجهة السلبية
يُعرف التسامي “Sublimation” ببساطة على أنه توجيه الأفكار والمشاعر والاندفاعات السلبية أو غير المقبولة إلى سلوكيات أكثر إيجابية وقبولًا للفرد والمجتمع من حوله. كأنْ يتجه الواحد منّا من قلقه واكتئابه إلى كتابة الشعر أو تعلّم الموسيقى، أو قد يميل أحدنا لممارسة الرياضة أو تعلّم فنون القتال بهدف تقنين غضبه وتوجيه مشاعره السلبية.
فان غوخ، الرسام المشهور، عانى لسنين طويلة من مشاكل عقلية واضطرابات نفسية عديدة، إذ يعتقد كثير من المؤرخين أنه عانى من الصرع أو من الاضطراب ثنائي القطب أو كليهما، لكنّ ذلك لم يمنعه من توجيه أفكاره السلبية الناتجة عن اضطراباته إلى ما هو أسمى من ذلك وأجلّ.
يعطينا كلٌّ من الفنّ والموسيقى دليلًا واضحًا وقويًّا على أنّ الدوافع العدوانية أو المشاعر السلبية يمكن إعادة توجيهها لدى الفرد وتحويلها إلى ما هو مفيد ومثير للإعجاب للمجتمع، لكن إذا عرف الفرد كيف يتسامى بأفكاره السلبية ومشاعره المقلقة ويحوّلها إلى إيجابية تمكنه من السيطرة على نفسه.
آليات الدفاع النفسيّ ليست طوعية ولا خيارات واعية أو متعمدة، إذ أنها تحدث دون إدراكٍ منا أو وعي، دون أن نكون نفكّر فيها أو ننظر إليها على أنها دفاعية أو غير واقعية، فلا نرى أنفسنا ننكر المشكلة أو نحاول منطقتها، كما أننا لا نشعر أنّنا في طور النكوص أو التقهقهر لمرحلةٍ سابقة من حياتنا. كما أنّ هذه الآليات وغيرها ممّا لم نذكر، لا تهدف للوصول إلى الحقيقة بل إلى التعايش مع الواقع الصعب وتفادي ضائقاته ومحنه.