يتعرض النظام المصري خلال الآونة الأخيرة لما يشبه انقلابًا سياسيًا جزئيًا من حلفائه الإسرائيليين والأمريكان، إذ تتصاعد الانتقادات الحادة التي يوجهها الطرفان لحليفهم المصري بشأن الوضع في غزة، وصلت إلى حد تحميله مسؤولية فشل صفقة التبادل المحتملة بين المقاومة الفلسطينية وحكومة الاحتلال وأنه السبب الرئيسي في استمرار الحرب حتى اليوم، إضافة إلى الإصرار على تحميله مسؤولية غلق معبر رفح ومنع إدخال المساعدات للفلسطينيين.
ورغم التناغم الواضح والانسجام السياسي والاستخباراتي والإعلامي المعروف والمعلن للجميع، بين مصر و”إسرائيل”، منذ بداية الحرب، والذي يُعد امتدادًا منطقيًا للعلاقة القوية التي تجمع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو منذ 2014، في مقابل الخذلان الفج لأكثر من مليوني فلسطيني محاصرين داخل قطاع غزة لأكثر من سبعة أشهر، لم يكن ذلك كافيًا لحكومة الاحتلال التي يبدو أنها تريد المزيد من الجانب المصري بما يخدم أهدافها وأجندتها.
وبين التأكيد الأمريكي الإسرائيلي في مواجهة النفي المصري، تبقى تلك الاتهامات بين الحلفاء محل نقاش، في ظل حالة الفوضى التي تخيم على المشهد، وفشل المحتل في تحقيق أهدافه من تلك الحرب وتعريض سمعته الدولية للخطر في ظل شبح العزلة الذي يطل برأسه، ليبقى السؤال: لماذا انقلبت أمريكا و”إسرائيل” على الجانب المصري؟ وما الأهداف الحقيقية وراء تصاعد تلك الانتقادات وإحراج مصر شعبيًا وسياسيًا وأخلاقيًا؟
تزايد حدة الانتقادات لمصر
في يوم واحد فقط، صبيحة اليوم الأربعاء، تعرضت مصر لانتقادين حادين في نفس التوقيت، كلاهما يحمل إدانة مباشرة لها بشكل يورطها بصورة أو بأخرى في جرائم الإبادة التي يتعرض لها شعب غزة.
الانتقاد الأول: نقلته الصحيفة العبرية “timesofisrael” على لسان مسؤول كبير في إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، قال إن مصر حجبت المساعدات الإنسانية التي تقدمها الأمم المتحدة إلى غزة، والجانب المصري يمنع تلك المساعدات حتى يستقر الوضع في معبر رفح، وأضاف “لا نعتقد أنه ينبغي تجميد المساعدات لأي سبب كان، معبر كرم أبو سالم يجب أن تمر هذه المساعدات عبره”.
ونقل الموقع عن مسؤول أمريكي ثان قوله: “مصر حذرت إسرائيل من أنها ستغلق المعبر إذا لم تنسق إسرائيل بشكل كامل عملياتها العسكرية عند البوابة مع القاهرة، وهو ما فشلت تل أبيب في القيام به”، لافتًا إلى أن الجانب المصري “غير مستعد لإعادة فتح المعبر طالما أن الجيش الإسرائيلي هو الذي يقوم بتأمين الجانب الآخر، ولا يريد أن يُنظر إليه على أنه متواطئ مع احتلال إسرائيل للبوابة”.
https://x.com/TigayBarry/status/1793052618119409740
الانتقاد الثاني: كشفته شبكة “CNN” الأمريكية، حين نقلت عن 3 مصادر مطلعة على مفاوضات اتفاق التبادل بين الحكومة الإسرائيلية وحماس قولهم إن مسؤولًا كبيرًا في المخابرات المصرية يدعى أحمد عبد الخالق غير بعض بنود الاتفاق الذي وافقت عليه المقاومة الفلسطينية مطلع مايو/آيار الجاري دون علم تل أبيب وأطراف الوساطة الآخرين، الدوحة وواشنطن.
ولفتت الشبكة نقلًا عن مصادرها إلى أن الشروط التي غيرتها المخابرات المصرية تتعلق باقتراح وقف إطلاق النار بشكل مستدام، وهو الشرط الذي تحفظت عليه الحكومة الإسرائيلية قبل ذلك، لافتة إلى أن الصيغة التي خرج بها الاتفاق الذي وافقت عليه الحركة لم تكن هي ذاتها التي وافقت عليها تل أبيب، وهو ما أدى في النهاية إلى رفض الجانب الإسرائيلي للصفقة، ما نجم عنه إجهاضها من الأساس واستمرار الحرب حتى اليوم وإصرار الاحتلال على اجتياح رفح بريًا.
وقال أحد المصادر الثلاث للشبكة الأمريكية: “لقد تم خداعنا جميعًا”، منوهًا إلى أن مدير وكالة المخابرات المركزية، بيل بيرنز، أحد من قادوا جهود الوساطة الأمريكية في هذا الملف، كان غاضبًا ومحرجًا عندما وصلته أنباء مفادها أن المصريين غيروا شروط الاتفاق.
فيما قال مصدر آخر أن قطر أبلغت “إسرائيل” على لسان رئيس وزرائها ووزير الخارجية، محمد بن عبد الرحمن بن جاسم آل ثاني، أن مصر تصرفت بمفردها، بهدف إقناع حماس بالاتفاق بعدما رفضته أول مرة بسبب التعنت الإسرائيلي.
https://x.com/cnnarabic/status/1793164892876206351
سياق مهم
السياق الذي جاءت فيه تلك الانتقادات والاتهامات يتضمن حزمة من المؤشرات التي يجب التوقف عندها ابتداء لفهم رمزيات ومدلولات هذا الانقلاب الناعم من حلفاء النظام المصري عليه بهذا الشكل كخطوة أولى للتوصل إلى الدوافع والأهداف التي يسعى الاحتلال لتحقيقها من وراء تلك الاستراتيجية الهجومية.
– ليست المرة الأولى التي تتعرض فيه مصر لاتهامات غلق معبر رفح وعرقلة دخول المساعدات، فسبق أن اتهمت حكومة نتنياهو على لسان أحد أعضاء فريقها القانوني أمام محكمة العدل الدولية الجانب المصري بأنه المسؤول عن معبر رفح وأن دخول المساعدات لغزة مسؤوليته المنفردة.
ثم عاود الرئيس الأمريكي الاتهامات ذاتها، منوهًا إلى أن السيسي كان قد رفض فتح المعبر وبعد ضغوط متواصلة من بايدن نفسه، استجاب في نهاية المطاف وسمح بفتح المعبر وإدخال المساعدات، وهي السردية ذاتها التي يرددها الإعلام الأمريكي والعبري على حد سواء.
– اتهام “إسرائيل” على لسان بعض من نخبتها السياسية والعسكرية للجانب المصري بمساعدة المقاومة الفلسطينية من خلال إدخال المساعدات والأسلحة عبر الأنفاق الحدودية بين البلدين، بل وصلت الاتهامات إلى الحديث عن تهريب قادة المقاومة وعدد من الأسرى للأراضي المصرية حتى يكونوا بمأمن عن الاستهداف الإسرائيلي.
– التحرش الإسرائيلي العسكري والسياسي بمصر أكثر من مرة منذ بداية الحرب، رغم التحذيرات المصرية، حيث استهداف معبر رفح، وتعريض اتفاقية السلام مع مصر للخطر في ضوء الإصرار على احتلال معبر فيلادلفيا الحدودي، هذا بجانب سقوط بعض الصواريخ داخل الأراضي المصرية ما نجم عنه عدد من الإصابات في صفوف المصريين.
– أسفرت تلك التحركات عن إحراج النظام المصري على طول الوقت، شعبيًا وسياسيًا، مصريًا وعربيًا، أخلاقيًا وأمنيًا، بالتزامن مع تصاعد الانتقادات الجماهيرية الموجهة للنظام المصري بسبب تخاذله عن نصرة الفلسطينيين ومشاركته جيش الاحتلال في حصار شعب غزة وتخلي مصر عن دورها ومسؤوليتها التاريخية تجاه القضية الفلسطينية التي تُشارك مصر تل أبيب في تصفيتها.
– اللافت هنا أنه ورغم كل تلك الانتقادات التي وضعت النظام المصري في وضعية حرجة داخليًا وخارجيًا، فإن رد الفعل الرسمي المصري لم يتناسب مطلقًا مع هذا الهجوم، ولم يلجأ المصريون إلى ما لديهم من أوراق ضغط يمكنها قلب الطاولة، حيث الاكتفاء ببيانات التحذير والشجب والنفي دون أن يستتبع ذلك تحركات عاجلة تنافي وتناقض تلك الانتقادات – التي تصفها القاهرة بالادعاءات -، وهو الأمر الذي أثار الكثير من الشكوك بشأنها وموضوعيتها.
3 أهداف رئيسية
يسعى الاحتلال وحليفه الأمريكي من وراء تلك الانتقادات الموجهة للقاهرة إلى تحقيق 3 أهداف رئيسية، جميعها أو بعضها، وكلها تخدم الأجندة الإسرائيلية التوسعية وتقلل نسبيًا من رقعة العزلة الدولية التي تتمدد يومًا تلو الآخر.
أولًا: الضغط على مصر.. وذلك بهدف:
– أن تمارس القاهرة ضغوطًا إضافية على حماس لتقديم المزيد من التنازلات، حيث يحاول الجانب المصري حينها تبرئة ساحته من تهم عرقلة صفقة التبادل والتخندق إلى صف المقاومة على حساب الكيان المحتل عبر دفع المقاومة لمرونة أكثر بشأن النقاط الخلافية.
– احتمالية أن يقود هذا الضغط إلى اضطرار المصريين فتح معبر رفح أمام الفلسطينيين، بعد اتهام مصر بالمشاركة في الحصار وحرب التجويع، بما يسمح بالنزوح الفلسطيني للأراضي المصرية وهو ما تخطط له “إسرائيل” حيث مخطط التهجير وتفريغ رفح ومن ثم غزة من سكانها تمهيدًا لاحتلالها مرة أخرى والقضاء على المقاومة وتصفية القضية برمتها.
– إجبار مصر – عبر التلويح بورقة استبعادها من الملف الفلسطيني أو تقزيم دورها بعد التشكيك في نزاهتها كوسيط – على تقديم تنازلات بشأن مواقفها السياسية تجاه القضية الفلسطينية وتلبية ما يُطلب منها عبر الشريك الأمريكي تحديدًا، بما يصب في النهاية في صالح الأجندة الصهيوأمريكية.
ثانيًا: غسل السمعة الإسرائيلية دوليًا.. تواجه حكومة الاحتلال انتقادات دولية حادة بسبب حرب التجويع التي تشنها ضد سكان غزة، والحصار المطبق المفروض على القطاع بأكمله، وهي الحيثيات التي استندت إليها جنوب إفريقيا في دعواها المرفوعة أمام محكمة العدل الدولية، كذا قائمة الاتهامات التي يواجهها نتنياهو وجنرالاته أمام الجنائية الدولية.
تلك الاتهامات التي عرضت سمعة الاحتلال للتشويه وأجهضت عمل سنوات طويلة حاول فيها الكيان تصدير صورة الدولة الحقوقية الديمقراطية الحضارية، ومن ثم كان لا بد من تخفيف حدة تلك الانتقادات بأي طريقة كانت، ولم يجد الإسرائيليون أفضل من مصر لتحميلها مسؤولية هذا التجويع بحكم الجغرافيا الذي تربطها بقطاع غزة وسيطرتها على معبر رفح الذي تنفض تل أبيب يدها منه وعنه، لتجعل من الجانب المصري المسحوق الأكثر بياضًا لغسل سمعتها الإنسانية والحقوقية.
ورغم النفي المصري المتكرر لتلك الادعاءات والتأكيد على أن “إسرائيل” هي التي تعرقل عمل المعبر، فإن ذلك لم يثن الاحتلال والولايات المتحدة عن تكرار ذات الاتهامات دون أن يتجاوز رد الفعل المصري حاجز التصريحات المنددة وفقط.
ثالثًا: تبرئة نتنياهو وحكومته أمام الرأي العام الإسرائيلي.. المحرك الأبرز لتصاعد الاحتقان الشعبي ضد حكومة نتنياهو يتعلق بعرقلته لصفقة تبادل للأسرى مع حماس، رغم مزاعمه المستمرة أن الكرة في ملعب المقاومة وأنها من تقف حجر عثرة أمام أي مسار للتهدئة، وهي المزاعم التي فندتها حماس بقبول المقترح الذي قدمه الوسطاء ووافقت عليه بداية الشهر الجاري، الأمر الذي وضع الحكومة في مأزق كبير، وعليه كان لا بد من الخروج منه بأي ثمن، لا سيما بعد تجاوز الاحتجاجات خطوطها الحمراء.
ومن ثم قد يأتي التقرير الذي نشرته “CNN ” لخدمة الأجندة الإسرائيلية، حيث تحميل القاهرة – كالمعتاد – مسؤولية ما حدث، وأنها من غيرت في بنود الاتفاق، وخدعت الوسطاء وطرفي الأزمة في آن واحد، وعليه يتطهر نتنياهو من تهم عرقلة صفقة التبادل والعمل لأجل إطلاق سراح المحتجزين لدى حماس.
غير أن هذا الأمر قد يصطدم بمقاربة المنطق والواقع، فليس من المعقول أن تقدم مصر لحماس مقترحًا لم يتوافق عليه أمريكيًا وقطريًا، كذا من الصعب ألا تكون هناك موافقة أولية من الجانب الإسرائيلي ومنح الضوء الأخضر لتقديم هذا الاتفاق، وهو ما كشفته ردود الفعل الأولية بعد إعلان حماس موافقتها على المقترح، حيث وصف مسؤولون أمريكيون المقترح بأنه مقبول حتى وإن كانت هناك بعض النقاط المتحفظ عليها، ما يعني أنهم اطلعوا على تفاصيله مسبقًا.
إلا أن الصدمة والمفاجأة كانت في موافقة حماس على الوثيقة من الأساس، وهو الأمر الذي كان مستبعدًا وفق الأجواء والتجارب السابقة، ما وضع نتنياهو وحكومته ومعهم إدارة بايدن في حرج كبير بعدما سقطت شماعة عرقلة المقاومة للمفاوضات، وعليه كان لا بد من البحث عن آلية يتنصل بها نتنياهو من الاتفاق ويحمل مسؤولية عرقلته لجهة أخرى.
القاهرة في مأزق
تكثيف الانتقادات وتشديد الهجوم الإسرائيلي الأمريكي على القاهرة وضعها في مأزق كبير، وحشرها في زاوية ضيقة للغاية، لم يعد يجدي معها الاكتفاء بدور المدافع في قفص الاتهام، دون الهجوم والمباغتة لتحقيق أكبر قدر ممكن من النقاط يزود بها المصريون عن سمعتهم العربية والإسلامية تجاه القضية الفلسطينية، وهنا فالجانب المصري أمام سيناريوهين لا ثالث لهما:
السيناريو الأول: تفنيد تلك الاتهامات وتكذيبها باستخدام ما لدى مصر من أوراق ضغط وما أكثرها، يمكن من خلالها تعويض ما فاتها وتصحيح المسار واستعادة حضورها العربي والإقليمي، ومنها: معاهدة السلام وملحقاتها بشأن محور فيلادلفيا، فتح معبر رفح للمساعدات فقط وإجبار الاحتلال على إدخال الشاحنات على مرأى ومسمع من الجميع، التلويح بورقة العلاقات الاقتصادية بين البلدين والتي تشكل رقمًا مهمًا في الاقتصاد الإسرائيلي، ملاحقة الاحتلال دوليًا عبر منصات العدل والجنائية الدوليتين، تشكيل لوبي عربي ضاغط على الاحتلال وتهديد مصالحه ومصالح الحلفاء في المنطقة.
السيناريو الثاني: الاكتفاء بالصمت أو بيانات الشجب والإدانة، وهو الرد الذي سيترتب عليه مسارين: أولهما استمرار “إسرائيل” في اتهاماتها واحدًا تلو الآخر، وتحويلها مصر إلى “مسحوق غسيل” جاهز ومضمون لغسل سمعة الاحتلال المشينة، ثانيها التشكيك في النفي المصري في مقابل ترجيح الاتهامات التي تتعرض لها القاهرة، وهو ما سيقزم من دور مصر الإقليمي ويطيح بها خارج المعادلة الإقليمية بأكملها، ما يخدم بطبيعة الحال مخطط الاحتلال الذي يريد التهام القضية الفلسطينية دون منغصات.
وفي الأخير.. فإن الكرة الآن في ملعب الدولة المصرية، إما أن تعود – ولو متأخرًا – وتنخرط بشكل مؤثر في المشهد الفلسطيني وتستعيد في الرمق الأخير من المباراة ثقلها الإقليمي مرة أخرى عبر بوابة غزة، خاصة بعد تلاعب الحلفاء بها ونسفهم لكل المقاربات التي استندت إليها القاهرة في موقفها المنبطح، وإما أن تواصل تخاذلها وخدمتها للأجندة الصهيونية، الأمر الذي يخرجها بعيدًا عن الملعب ويقذفها باتجاه المدرجات وليس حتى على مقاعد البدلاء.