اجتمعت الخطابات السياسية الفلسطينية، وأقلام المؤرخين والباحثين، ومن قبلها الذاكرة الجمعية الشفوية الفلسطينية، على وصف تهجير ما يزيد عن 700 ألف فلسطيني من قراهم ومدنهم إلى مخيمات اللجوء في المناطق المُحتلة عام 1967 في الضفة الغربية وقطاع غزة وإلى مخيمات الشتات في الخارج سنة 1948، بأنه الحدث الأبرز الذي طغى على تعريف النكبة – ذلك إن لم تكن النكبة ذاتها تعني التهجير أصلًا-.
كان التهجير بوصفه تطهيرًا عرقيًا مُدبرًا، بمثابة الحدث الأبرز الذي طغى على جوهر تعريف نكبة عام 48 ومعناها، غير أن التهجير إلى خارج الأراضي المحتلة عام 48 لم يكن الشكل أو المظهر الوحيد للنكبة في حينه، إذ تنوعت مظاهرها واختلفت، لا سيما أن سياسة اقتلاع وترحيل العرب الفلسطينيين من قراهم وأراضيهم بدأت أبكر بعقود، وذلك منذ أواخر الحكم العثماني على البلاد، مرورًا بفترة السيطرة الاستعمارية البريطانية (الانتداب)، حيث تكثفت سياسة الاقتلاع والطرد ثم تبعتها النكبة بمعناها التطهيري الأوضح الذي ترتب عنه إعلان تأسيس “دولة إسرائيل”.
يمكن وصف هذه السياسة الاستعمارية السابقة على فعل النكبة بسياسة “النقل السكاني”، ليس بوصفه النقل الذي مارسته القوى الاستعمارية في فلسطين بديلًا أو نقيضًا للتهجير ولا حلًّا له، إنما بوصفه مقدمة للتهجير قبل نكبة ال48 وخلالها، ثم امتدادًا له في الخمسينيات من القرن الماضي.
قرى عربية ولكن استعمارية المنشأ
يمكن تعريفها بالممارسة الاستعمارية التي جرى فيها نقل سكان قرى من قراهم قسرًا أو طوعًا تحت الضغط والترهيب، وإعادة توطينهم في مناطق أخرى غير مأهولة قبل النكبة أو بعدها في قرى منكوبة مهجّرة من أهلها الأصليين، وذلك في عشرينيات القرن العشرين بالتزامن مع ازدياد وتيرة الهجرة اليهودية ونشاط الحركة الصهيونية في “شراء الأرض” في ظل الاستعمار البريطاني ودعمه، فخلقت هذه السياسة قرى عربية الأرض والسكان لكنها استعمارية المنشأ، إذ لم تكن قائمة قبل مرحلة الانتداب البريطاني وتغول نشاط الصهاينة ومشروعهم في البلاد مع مطلع القرن الماضي.
والقصد بـ “النقل السكاني” ليس ما يعرَف بقضية “الغائبون الحاضرون”، أي اللاجئون الفلسطينيون من قراهم المهجرة عام النكبة إلى قرى عربية أخرى داخل الأراضي المحتلة عام 1948، فقضية هؤلاء تتقاطع مع سياسة النقل السكاني لكنها لا تتطابق معها، وذلك لأن النقل السكاني ممارسة سابقة على النكبة بسنوات طويلة أولًا.
ثانيًا، تمثّلَ النقل السكاني في كثير من الأحيان بنقل أهالي قرية بأكملها وإعادة توطينهم توطينًا جماعيًا في مناطق أخرى لم تكن مأهولة من قبل بالسكان، بينما تقاطعت كلا السياستَين في الاقتلاع والبقاء وإعادة التوطين والتأهيل ضمن ممارسة استعمارية التطلع والأدوات.
من ناحية أخرى، كما تتشابك سياسة النقل السكاني مع ما يعرَف بملف “القرى غير المعترف فيها” في ديار بئر السبع أو ما بات يعرف بـ”النقب”، وهي تسمية استعمارية تسلّلت إلى قاموس الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 48 السياسي والحقوقي، حيث أعادت “إسرائيل” بعد النكبة تشكيل تلك الديار على مستوى تسميتها بـ”النقب”، واعتبار الباقين من سكانه على أنهم “بدو رحّل” لا أهلية ولا أحقية لهم في أراضيهم، لتنشأ قضية “بدو النقب”، حيث لا يزال أهالي ما يزيد عن 40 قرية “غير معترف فيها” في ديار السبع يعانون ويناضلون من أجل انتزاع الحدّ الأدنى من حقوقهم الخدماتية والمدنية على أراضيهم.
عمومًا، ليس عدم اعتراف دولة الاحتلال الإسرائيلي بقرى “بدو النقب” أصل الأزمة في ديار السبع، إنما هي امتداد لنكبة تلك الديار بعد تهجير معظم أهلها سنة 1948 إلى خارج ديارهم، ثم نقل الباقين منهم وإعادة توطينهم في 7 بلدات مدينية حديثة أقامتها “إسرائيل” في ضواحي مدينة بئر السبع في خمسينيات القرن الماضي، ضمن أكبر عملية نقل سكاني شهدتها ديار بئر السبع، ومع ذلك كان النقل السكاني كفعل استعماري ممارسة قائمة بذاتها تقاطعت مع ممارسات نكبوية أخرى منذ ما قبل النكبة.
مرج ابن عامر أصل الحكاية
تطلع الصهاينة إلى استيطان مرج ابن عامر منذ مراحل مبكرة من مطلع القرن الماضي لأسباب مختلفة، أهمها أنه أعظم سهل داخلي في فلسطين من حيث المساحة والقيمة الاقتصادية، حيث تقدَّر مساحته بنحو 260 كيلومترًا، وتنتشر فيه القرى هنا وهناك وتكاد جميع أرجائه تكون مستغلة في زراعة مختلف المحاصيل، لا سيما الحبوب، لأن تربته خصبة تصلح للزراعة المروية والبعلية على السواء.
وقد نشطت الوكالة اليهودية في مساعيها لحيازة أراضي المرج، إلى أن نجحت بعد أن سرّب لها ملّاك الأرض فيه من العائلات اللبنانية والسورية المتنفذة شبه الإقطاعية، بحجّة انهيار الدولة العثمانية واستعمار القوى الأوروبية الكبرى للمنطقة، وفصل فلسطين كوحدة إدارية مستقلة عن سوريا ولبنان، ما شجّعهم على بيع الأراضي الرازحة تحت نير الاستعمار البريطاني.
وتحديدًا من تلك العائلات عائلة سرسق اللبنانية التي باعت عشرات آلاف الدونمات في المرج بما فيها من خرب وعزب وفلاحين، حيث تحولت إلى قرى قائمة بذاتها جرى اقتلاعها بعد بيع أراضيها منذ مطلع عشرينيات القرن العشرين، منها قرى الفولة والعفولة ونورس وجنجار وخنيفس وأم التوت وتل الشمام وتل العدس وتل الفروتل وسمونة وكفرتا وجيدا وبيت لحم الجليلية وأم العمد طبعون وقصقص والشيخ بريك ومسحة وساريد وجباتا والورقاني والياجور وخريبة، وأراضي قرية معلول في المرج، وقد تحول فلاحوها الفلسطينيون بعد طردهم إلى نازحين في جنين وحيفا، حيث نشأت على أطراف هذه الأخيرة تجمعات سكانية مهمّشة يعود أصل معظم سكانها إلى قرى المرج المقتلعة.
ترتب عن تسريب أراضي مرج ابن عامر للصهاينة بداية تشكُّل ملامح فكرة الطرد والتطهير، وذلك قبل نكبة عام 48 بنحو عقدَين، ما حدا ببعض السماسرة الصهاينة اعتبار اقتلاع قرى المرج في العشرينيات الدافع إلى انطلاق الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939) على سلطات الاستعمار البريطاني التي سهّلت عملية تسريب الأراضي لليهود، حيث كان فلاحو المرج المسرّبة أراضيهم والمقتلعة قراهم، هم وقود الثورة في مناطق جبال جنين وحيفا، وقد سبق وأن التحق وتحلق بعضهم حول الشيخ عز الدين القسّام في جامع الاستقلال بحيفا، حيث حرّض أبناء المرج على الثورة قبل استشهاده سنة 1935.
ومن بين سياسات الاقتلاع والطرد التي ترتبت عن تسريب أراضي المرج للصهاينة، كانت سياسة النقل السكاني الجماعي التي تعود جذورها إلى تلك الفترة وتحديدًا في قيرة وقامون.
قيرة وقامون
كانت قيرة وقامون واحدة من أبرز قرى مرج ابن عامر الواقعة عند خاصرته الغربية بمحاذاة سلسلة جبال الكرمل، حيث أحاط المرج القرية من شمالها وشرقها، بينما جبال كرمل حيفا من غربها، فيما اُعتبرت القرية من جنوبها امتدادًا لبلاد الروحة، ما جعلها تقسم في تضاريسها ومعاش أهلها على السهل والجبل معًا.
وهكذا ظل سكان قيرة وقامون الذين كان يعود نسبهم إلى عشيرة السعايدة المكونة من 7 بطون، في حالة تنقل دائم في حدود أراضي ومراعي قريتهم على مدار السنة، حيث اعتادوا الإقامة في المناطق السهلية المرجية صيفًا، ثم في المناطق التلية الجبلية شتاءً.
كان تنقل أهالي قيرة وقامون الموسمي الدائم هذا، أحد مبررات الصهاينة لاعتقادهم بضعف أهلية أهالي القرية على أرضهم، باعتبار “التنقل نقيضًا للثبات والاستقرار”، ما يعني إمكانية جواز الترحيل طوعًا أو قسرًا إذا تطلب الأمر.
مع العلم أن أهالي قيرة وقامون رغم كونهم عربانًا نزلت المرج، إلا أنهم داوموا على فلاحة أراضيهم وزراعتها والثبات عليها في ظل تنقلهم فيها، غير أن الإشكال لم يكن في طبيعة معاش أهالي القرية، إنما في ملكية أراضيهم التي قُدّرت مساحتها بـ 17 ألفًا و500 دونم، كانت تعود ملكيتها لكل من عائلة سرسق اللبنانية، وخوري الحيفاوية.
ومع ذلك تؤكد الوثائق العثمانية والعربية وحتى العبرية على أن أراضي قيرة وقامون كانت تعود ملكيتها في نهاية القرن التاسع عشر لعائلة سرسق فقط، دون أي ذكر لتملك عائلة خوري الحيفاوية فيها، والتي على ما يبدو قد تملكت هذه الأخيرة بعضًا من أراضي القرية عبر روابط المصاهرة والنسب مع عائلة سرسق في مطلع العشرينيات.
كان أهالي قيرة وقامون أصحابًا للأرض، لكنهم لم يكونوا ملّاكها، وفي ذلك كانت نكبتهم، ففي سنة 1924 جرت أول صفقة بيع لأراضي قيرة وقامون التي تمّت على مراحل، حيث باعت عائلة سرسق اللبنانية حصتها من أراضي القرية كاملة لشركة “هخشرات هيشوف (تأهيل الاستيطان)”، بإدارة يهوشع حنكين الصهيوني الذي نشط في مشروع حيازة الأرض من مكتبه في تل أبيب، وكانت حينها حصة عائلة سرسق تساوي مساحة 8 آلاف و750 دونمًا، ابتاعها الصهاينة كاملًا مقابل مبلغ 4 آلاف و300 ليرة للدونم الواحد.
بينما الصفقة الثانية، من بيع ما تبقى من أراضي القرية للصهاينة، تمّت بعد 10 سنوات على الصفقة الأولى في 6 فبراير/ شباط 1934، حيت ابتاعت الشركة الصهيونية نفسها من عائلة خوري الحيفاوية بعد أن أعلنت العائلة إفلاسها، ما يساوي مساحة أراضي الصفقة الأولى (8 آلاف و750 دونمًا)، وهذه المرة بمبلغ قيمته 4 آلاف و615 ليرة للدونم الواحد.
وبذلك غدت كل أراضي قيرة وقامون الزراعية والرعوية منها ملكًا للصهاينة، باستثناء تلك التي ظل عرب السعايدة يقيمون خيامهم عليها في سهل القيرة ومساحتها 4 آلاف و300 دونم، وطوال هذه الفترة ما بين الصفقتَين بقي أهالي قيرة وقامون متشبّثين بأرضهم، غير أن الأمر صار مختلفًا بعد تسريب النصف الثاني الباقي من الأرض، إذ بدأ الصهاينة في مطلع ديسمبر/ كانون الأول 1935 استيطان القرية ببناء مستعمرتهم “يوكنعام” فيها، ليبدأ بذلك فصل جديد من مصير سكان القرية نحو نقلهم جماعيًا.
ومثلما كان بيع أراضي قيرة وقامون على مراحل، فإن نقل سكانها جماعيًا جاء على مراحل، وذلك في أواخر سنة 1938، حيث حالت أحداث الثورة الكبرى (1936-1939) قبل ذلك دون إمكانية الصهاينة إخلاء القرية من أهلها، فقد فعّلت السلطات البريطانية في الثورة نتيجة الضغط قانون “مزارعة الأرض”، الذي كان يفترض به حماية حق أهالي القرية بأراضيها وإن لم يملكوها رسميًا.
كما لجأ الصهاينة طوال سنوات الثورة إلى تفعيل أسلوب الوساطة ما بينهم وبين سكان القرية لإقناعهم بإخلاء قريتهم وقبول التعويض، وذلك إلى أن خبت الثورة نحو هزيمتها في أواخر الثلاثينيات، ما شجّع الصهاينة إرغام بعض أهالي قيرة وقامون على القبول بصفقة نقلهم من قريتهم إلى منطقة وادي الملك، قرب بلدة شفاعمرو على طريق حيفا.
كان أول من قبل بتلك الصفقة مرغمًا، بعد صراع استمر أكثر من عقدَين، هم الكعبية فخذ من عشيرة السعايدة، الذين أخلوا أواخر سنة 1939 بيوتهم وأراضيهم وأحواشهم وحتى مغاورهم إلى وادي الملك، بينما بقيت باقي بطون عشيرة السعايدة من أبناء قيرة وقامون في ديارهم رافضين الإخلاء وذلك إلى سنة 1944.
تمّت المرحلة الثانية من الإخلاء والنقل واستمرت حتى مايو/ أيار 1946، حيث امتثل مختار عشيرة السعايدة، عبيد الكحيلي، إلى قرار الإخلاء والتعويض مقابل قطعة أرض بديلة في منطقة جبل طابور في الناحية الشرقية من مرج ابن عامر، وقد غادر الكحيلي وأقاربه فعلًا بضغط من الصهاينة وبإشراف سلطات الانتداب البريطاني.
في شمالي فلسطين، على طريق شفاعمرو باتجاه حيفا غربًا، لافتة ترشد وأخرى ترحّب عند وادي الملك بزائري قرية الكعبية – الطباش، فقد غدت الكعبية قرية بدوية قائمة بذاتها، منذ نقل سكانها إلى الوادي سنة 1939، ولم تمنح دولة “إسرائيل” القرية اعترافًا رسميًا بها إلا في أكتوبر/ تشرين الأول 1974.
وعلى الطريق المؤدي من العفولة إلى طبريا عبر مرج عامر، لافتة أخرى على يسار الطريق عند جبل طابور ترحّب بزائري قرية أم الغنم الوادعة عند سفح الجبل، ويسمّيها سكان القرى العربية المجاورة “عرب السعايدة” نسبة إلى سعايدة قيرة وقامون الذين جرى نقلهم في أربعينيات القرن الماضي إلى هذه المنطقة.
وكلا القريتين، وادي الملك وسفح جبل طابور، نشأتا إثر نقل سكان قرية قيرة وقامون إليهما في سياق استعماري بحت، إذ لم تكونا مأهولتَين بالسكان من قبل.
في النكبة: النقل والطرد وجهان لعملة واحدة
لم يكن التهجير عام 1948 مردّه حرب النكبة التي لم يخضها العرب أساسًا، إنما العكس صحيح، فقرار الطرد بوصفه تطهيرًا عرقيًا اتخذه قادة الحركة الصهيونية قبل تنفيذه، وذلك وفق قناعة مفادها: “لا يمكن إقامة دولة اليهود أو معظم سكانها يهود من دون التخلص من أكبر عدد ممكن من سكان البلاد الفلسطينيين وطردهم إلى خارجها”، فكان تهجير أهالي مئات القرى والمدن العربية إلى خارج فلسطين الممارسة الأكثر وحشية ودموية التي عنت النكبة من حينه.
لم يكن التهجير إلى خارج فلسطين الشكل الوحيد للنكبة، إنما كان التهجير داخليًا أيضًا أي داخل الأراضي المحتلة عام 1948، فوفق أحد المعطيات الواردة في ملفات الصندوق القومي اليهودي، بقيَ من السكان العرب في الداخل في عام النكبة نحو 150 ألف عربي فلسطيني من دون “بدو النقب”، كان ما يزيد عن 15% منهم من لاجئي الداخل، فنشأت ما صار يعرَف بقضية “الغائبون الحاضرون”، أي الذين فقدوا قراهم وأراضيهم وبقوا في البلاد.
كما من الأهمية بمكان التذكير بأن 90% من لاجئي الداخل هم من أهالي الجليل، جرى توطين معظمهم في قرى عربية أخرى لم يجرِِ تهجيرها أو لم يهجَّر كل سكانها، هذا غير التوطين في المدن المنكوبة مثل عكا وحيفا واللد والرملة ويافا.
ونشأ أيضًا إثر نكبة المدن العربية في الأراضي المحتلة عام 1948، ما بات يصطلح عليه بـ”المدن المختلطة” أي تلك المدن التي بقيَ فيها بعض سكانها العرب بعد طرد معظمهم منها، ليتحول الباقون إلى أقلية في مقابل أغلبية يهودية استوطنت تلك المدن بعد نكبتها.
تضمّنت عمليات التطهير العرقي عام 48 نقلًا سكانيًا جماعيًا، وصحيح أن النقل يمكننا اعتباره اقتلاعًا وتهجيرًا، ومع ذلك هناك أمران يجب أخذهما بعين الاعتبار لناحية مفهوم النقل في ظل أحداث النكبة: الأول أن النقل السكاني الجماعي ذاته تعددت أشكاله، تمامًا مثلما تعددت ممارسات النكبة ومظاهرها.
إذ تمّت عملية نقل جماعي من أحياء إلى أخرى في المدن المنكوبة، وليس من قرى مقتلعة إلى أخرى فقط، ففي يافا وحيفا جرى نقل جميع السكان العرب الباقين في هاتين المدينتَين بعد النكبة وتجميعهم في حي واحد في المدينة، وفي يافا تحديدًا جُمع كل من بقيَ من سكانها العرب في أحيائها المختلفة، ونُقلوا جماعيًا إلى حي العجمي الذي تحول إلى غيتو مغلق، وكذلك في حيفا حيث شهد من تبقى من أهلها العرب نقلًا جماعيًا إلى حي الحليصة فيها.
أما الثاني أن “النقل السكاني” إثر النكبة غير “إعادة التوطين” للاجئي الداخل، الذين هُجّروا من قراهم إلى قرى أخرى داخل الأراضي المحتلة عام 1948، وذلك لأن اللاجئين المعاد توطينهم كانوا هم من اختاروا ونزحوا إلى هذه القرية المجاورة أو تلك، بغرض الإقامة المؤقتة إلى حين عودتهم لقراهم، غير أن سلطات الحكم العسكري الصهيوني رفضت عودتهم لاحقًا وقررت توطينهم فيها. بينما النقل السكاني لبعض سكان القرى المقتلعة جرى إلى قرى ومناطق اختارتها سلطات الحكم العسكري، ولم يخترها اللاجئون أنفسهم.
قرى مقتلعة وأخرى مفتعلة
خضع السكان العرب الباقون في الأراضي المحتلة عام 1948 إلى حكم عسكري امتد منذ عام النكبة إلى عام 1966، وفي ظله أجهزت دولة الاحتلال على مئات القرى المهجّر أهلها منها بتدميرها كليًا.
في الوقت نفسه، أبقت على بعض القرى المهجّرة بغرض استيطانها مثل قرية عين حوض في قضاء حيفا وقرية عين كارم في غرب القدس، أو بغرض استخدامها لنقل سكان عرب من قرى مقتلعة إليها، مثل كل من قرى شعب في قضاء عكا، وعكبرة في قضاء صفد.
كما أقامت سلطات الحكم العسكري قرى لم تكن موجودة قبل النكبة أصلًا، مثل قرية وادي الحمام في قضاء طبريا، وقرية عين رافا في قضاء القدس، وهذه عملية جرت تحت إشراف “سلطة تأهيل اللاجئين” التي أُنشئت بمبادرة حكومة سلطات الحكم العسكري في مطلع الخمسينيات.
تعتبر قرية شعب في الجليل الغربي من قضاء عكا النموذج الأبرز لممارسة النقل السكاني، فالقرية مهجّرة من كل سكانها في عام النكبة، وباقية في الوقت نفسه قرية عربية إلى يوم ساكنيها هذا.
كانت شعب من بين أكثر القرى العربية التي واجهت وتصدّت للعصابات الصهيونية عام النكبة، حيث أقيمت فيها حامية عسكرية شكّلها أبناء القرية والقرى المجاورة، صمدت في ظلها القرية إلى أن سقطت في الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني 1948، وهُجّر كل أهلها منها.
بعد تهجير شعب، أبقى الصهاينة على بيوتها، ووقع عليها الاختيار كقرية تأهيل، أي كمختبر للنقل السكاني إليها. واللافت أن قسمًا من أهالي القرية كانوا قد لجأوا لجوءًا داخليًا إلى بعض القرى المجاورة وتحديدًا إلى قرية مجد الكروم في الجليل، ومع ذلك رفضت سلطات الحكم العسكري إعادتهم إليها، لا بل قام الصهاينة في سنة 1949 بنقل جزء من مهجّري قرية الدامون المجاورة لها إليها، ضمن سياسة النقل السكاني الجماعي.
وكان النموذج الأوضح لسياسة النقل بعد أن أعلنت سلطات الحكم العسكري سنة 1950 عن شعب منطقة عسكرية مغلقة، هو بترحيل سكان قريتَي كراد البقارة وكراد الغنامة الذين كان تعدادهم 700 نسمة من الحولة على الحدود السورية في الجليل الشرقي، ونقلهم سنة 1951 قسرًا نقلًا جماعيًا إلى شعب في الجليل الغربي، في محاولة أراد منها الصهاينة صناعة قرية نموذجية على المسطرة الصهيونية أشبه بنظام “المحمية الاستعمارية”.
ورغم عودة قلة قليلة من سكان شعب الأصليين إلى قريتهم، بعد قرار من المحكمة الإسرائيلية في سبعينيات القرن الماضي، ومن دون إعادة أراضيهم إليهم طبعًا، إلا أن شعب اليوم في حقيقة تشكيلها السكاني وتكوينها الاجتماعي هي قرية إعادة تأهيل من نتاج سياسة النقل السكاني.
تنسحب سياسة النقل السكاني القسري على مناطق وقرى أخرى في الجليل، منها وادي الحمام العامرة إلى يومنا في قضاء طبريا، إذ لم تكن وادي الحمام قرية قائمة قبل النكبة، إنما كانت خربة فيها حصن صغير عُرف تاريخيًا باسم “قلعة الحمام”، يلجأ إليها بين الحين والآخر بعض البدو من القرى والمضارب البدوية المحيطة فيها.
بعد نكبة 1948، نقلت سلطة “تأهيل اللاجئين” بإشراف سلطات الحكم العسكري إليها مهجّرين من قرى الخصاص وقيطية وحمولة الحلاحلة من قرية نجمة الصبح في الحولة، وأعادت توطينهم فيها، ثم منحت القرية اعترافًا رسميًا لاحقًا في السبعينيات.
وتعتبر قرية عكبرة في قضاء صفد في الجليل الأعلى، أقرب إلى نموذج شعب من وادي الحمام، لأن عكبرة كانت قرية عامرة بأهلها قبل النكبة، هجّر الصهاينة معظم سكانها سنة 1948، وهدموا معظم بيوت القرية، بعدها قامت سلطات الحكم العسكري بنقل القرية من موقعها الأصلي، أقرب إلى ناحية صفد المدينة.
بعد ذلك، نقلت إليها بعض المهجّرين من قرى قديتا ودلاتة وميرون وقباعة المهجرة في قضاء صفد، بينما سكان عكبرة الأصليون هم لاجئون إلى يومنا في مخيمات اللجوء في لبنان، ولم تصبح عكبرة قرية مستقلة بذاتها، بل أُلحقت لاحقًا بمدينة صفد المحتلة وأصبحت حيًا من أحيائها.
وكذلك قرية الشيخ دنون في قضاء عكا على الساحل، حيث نقلت سلطات الحكم العسكري إليها بعض اللاجئين الباقين من قرية الغابسية المهجّرة في القضاء نفسه.
قرى مقتلعة هُجّر سكانها ثم نُقلوا إلى قرى مفتعلة أخرى، أو لنقل بعضها لم يكن قائمًا، وبعضها الآخر هُجّر منها سكانها الأصليون، أرادها الصهاينة ألا تكون مجرد عملية نقل سكاني جماعي قسري، وإنما أشبه بمختبرات يعيد فيها إنتاج أو تأهيل من بقيَ من فلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1948 وفق تصوره الاستعماري.
وقد انعكس ذلك إلى حدّ ما على بنية بعض تلك القرى لناحية شكل البناء والإقامة والسؤال السياسي والمعاش فيها، أي في إعادة تشكيلها سكانيًا وبناء أحياء سكنية فيها وفق تصميم استعماري مثل “الشيكونات”، وتعني بالعبرية المبنى متعدد الشقق والطوابق، فضلًا عن تحول نمط معاشهم من فلاحين إلى عمّال بعد سلب أراضيهم منهم.
ولم تقتصر سياسة النقل السكاني على الجليل من فلسطين، إنما مورست في مدن الساحل، وفي النقب جنوب البلاد أيضاً، غير أن نموذجا آخرا ملفتاً لهذا السياسة، كان في قريتي عين رافا وبيت نقوبة في قضاء القدس.
المحو في ظل النقل
على طريق يافا-القدس بعد عبور وادي علي، تقع قرية أبو غوش على يسار الطريق المؤدي للمدينة، بينما بالكاد رؤية قريتَي عين رافا وعين نقوبة على يمين الطريق مقابل أبو غوش مباشرة، وتكاد تكون هذه القرى الثلاث الوحيدة الباقية من قرى غربي القدس المهجرة عام 1948.
كانت أبو غوش تعرف تاريخيًا بـ”قرية العنب”، أطلقت هذه التسمية الأخيرة على كيبوتس يهودي أُقيم سنة 1920 إلى الشرق الشمالي من أبو غوش القرية وصار يعرف بـ”كريات عنبيم” أي كيبوتس قرية العنب، في محاولة محو الصهاينة فيها اسم القرية العربية التي صارت تنسَب إلى مؤسسيها من آل أبو غوش.
لم تكن قريتا عين رافا وعين نقوبة قائمتَين في موقعهما الحالي إلى جانب بعضهما قبل النكبة، فعين رافا هي تسمية لعين ماء تاريخية، كانت تقع في خربة تابعة لقرية صوبا المهجرة إلى الجنوب الشرقي من عين الماء.
وكذلك عين نقوبة لم تكن في موقعها الحالي، ولم يكن اسمها عين نقوبة أصلًا، إنما “بيت نقوبة” وكانت تقع على يسار الطريق المؤدي إلى القدس إلى الشرق الشمالي من أبو غوش، اُستبدل اسم بيت نقوبة بعين نقوبة بعد إعادة إنشائها في موقع آخر، لنفس سبب تغيير اسم أبو غوش ومصادرته، حيث أُقيمت على أنقاض قرية بيت نقوبة المهجّرة على يسار الطريق مستوطنة “بيت نيكوفا” اليهودية سنة 1952، وبالتالي صادر الصهاينة موقع القرية واسمها معًا، على خلاف أبو غوش التي صودر اسمها منها وظلت في موقعها عامرة بأهلها.
حين سقطت قرية صوبا بأيدي الصهاينة في أبريل/ نيسان 1948، هُجّر معظم سكانها إلى القدس ومناطق الأراضي المحتلة عام 1967 ومنهم إلى الأردن، ولم يبقَ من أهالي صوبا غير العشرات الذين لاذوا إلى خربة عين رافا القريبة من القرية، وسُمح لهم بالبقاء فيها دون أن تتحول عين رافا إلى قرية.
بينما قرية بيت نقوبة الأصلية سقطت في الأيام نفسها من أبريل/ نيسان 1948، هُجّر قسم من سكانها إلى المناطق المحيطة بالقدس والعيزرية وبيت لحم، بينما القسم الآخر نزح إلى قرية أبو غوش المجاورة.
وظلَّ لاجئو بيت نقوية في أبو غوش على حال نزوحهم من سنة 1948 حتى سنة 1952، وبقيت نساء القرية النازحات في أبو غوش طوال هذه السنوات الأربع يداومن على الذهاب بين الحين والآخر إلى بيوتهن في قريتهن المهجّرة لتطيينها وتنظيفها على أمل العودة، إلى أن فُقد ذلك الأمل بنسف بيوتهن وإقامة المستوطنة اليهودية على أنقاضها.
ليبدأ بعد 10 سنوات من سد جميع أبواب العودة إلى القرية، أي في مطلع الستينيات، مسار نقل لاجئي بيت نقوبة في أبو غوش إلى المنطقة المقابلة لهذه الأخيرة، حيث قبلَ لاجئو بيت نقوبة المهجّرين قسرًا بنقلهم سنة 1965 طوعًا وإعادة توطينهم على قطعة أرض من أراضي صوبا المهجرة أطلق عليها اسم “عين نقوبة”، إلى جانب عين رافا التي تحولت على من فيها من أهالي صوبا المهجرين إلى قرية معترف بها في الستينيات أيضًا.
أقيمت عين نقوبة الحديثة على أرض تعود لصوبا أو على جزء منها، ما ولّد تحاملًا اجتماعيًا ظل ينخر في حياة القريتَين: عين رافا وعين نقوبة، إذ اعتبر سكان قرية عين رافا، وما زالوا، أن تعويض أهالي بيت نقوبة كان على حسابهم كونهم ملاك الأرض الحقيقيين.
لم يكن استبدال اسمَي القريتَين بعد نقل من تبقى من سكانهما بغرض مصادرة اسمهما وإطلاقه على مستوطنات يهودية مقامة على مواقع القريتَين فقط، إنما من أجل قطع كل الروابط المادية والروحية التي تربط الباقين بقريتَيهم المهجّرتَين، خصوصًا الأرض وملكيتها.
سكان صوبا الباقون منها في عين رافا لم يعودوا من سكان صوبا المهجرة بعُرف وقانون دولة الاحتلال، فتحولت أراضيهم في صوبا إلى أموال متروكة تحت ما يعرف بـ”سلطة أموال الغائبين”، ما يعني أن “إسرائيل” تجيز لنفسها حيازتها، وهذا ينسحب على كثير من لاجئي الداخل في الأراضي المحتلة عام 1948.
وأكثر من ذلك، إن سكان قرية عين رافا الحالية، والذين لا يزيد تعدادهم اليوم عن الـ 1000 نسمة، ينسب معظمهم إلى عائلة واحدة هي عائلة برهوم. واللافت هو أن أصل هؤلاء من صوبا، التي لم يكن من بين عائلاتها قبل النكبة أي عائلة تعرف باسم برهوم، إنما كانت عائلات القرية الكبرى أربعة، هي فقيه ورمان ونصر الله وجبران، وبرهوم هو اسم لشخص من أحد أفراد عائلة نصر الله.
كان الغرض من محو نسب من تبقى من أهالي صوبا في عين رافا هو محو كل صلة بماضيهم، ليس على مستوى نزع ملكية الأرض منهم فحسب، بل على مستوى محو ومسح ذاكرتهم التي تمتّ لماضيهم حتى لو عبر النسب، وذلك في حالة غير مسبوقة من سياسات النقل والمحو والإحلال التي مارستها الصهيونية منذ ما قبل قيام دولتها على البلاد وأهلها.