هل دخلت من قبل متحفًا للفن المعاصر وجدت الكثير من التوصيات عليه من الناصحين لك بوجوب زيارته، وحينما تجولت بين أروقة المتحف التي تحمل معروضات فنية ولوحات تبدو لك غريبة لم تفهم شيئًا على الإطلاق؟ لا تقلق فأنت لست وحدك، الكثير منا يدخل المتاحف الفنية المعاصرة بالذات ويخرج منها لا يفهم شيئًا على الإطلاق، ولا يعرف ما سر كل هذا الانبهار وإعجاب الناس بها، بل والأكثر غرابة يكون في بيع اللوحات والأعمال الفنية المعاصرة بمبالغ قد تصل إلى الملايين من الدولارات أحيانًا.
لقد تكررت هذه المعضلة أيضًا مع أحد الأفلام السينمائية ولم تقتصر على المتاحف الفنية فحسب، حيث كان فيلم “المربع” أو The Square من الأفلام السينمائية المهمة الفائز بجائزة السعفة الذهبية عام 2017 للمخرج السويدي روبرت أستلوند Östlund، الذي تدور أحداثه عن متحف للفن المعاصر في ستوكهولم الذي يحاول تصوير معاناة المرء مع الفن المعاصر من خلال الكوميديا.
1- الاجتهاد في الفن
في أول الفيلم تجد أول إشارة للفن المعاصر واختلافه مع الفن التقليدي في مشهد يُقتلع فيه تمثال أثري منحوت بشكل دقيق من أمام باب متحف الفن المعاصر ليوضع بدلًا منه مربع بسيط الشكل يشغل حيزًا صغيرًا جدًا من الأرض، في إشارة واضحة إلى الفرق بين الاجتهاد المبذول في الفن التقليدي وقلته بالنسبة للفن المعاصر.
حيث لم يجد “كريستيان” البطل الرئيسي وأمين المتحف في الفيلم، حرجًا من أن يقوم بإصلاح قطعة فنية تم تخريبها في أثناء التنظيف دون الاتصال بشركة التأمين في إشارة ساخرة منه أن العمل لا يحتاج هذا الجهد لتصليحه لأنه لم يحتج لهذا الجهد لعمله من الأساس.
نحن اعتدنا على ظهور العمل الفني في أبهى صوره، فهو عادة يكون مفهومًا بشكل عام من النظرة الأولى، ويعكس الحياة بشكل كبير في تكوينه، ويكون ذا حجم معين له حيز واضح في الأروقة الفنية، إلا أن الوضع بات معكوسًا بشكل كبير حينما ظهر الفن المعاصر، حيث يوصف الفن المعاصر بأنه لا يكون فنًا معاصرًا إلا لو لم يفهمه الناس على الإطلاق.
2- الاعتماد على تحفيز المشاعر وليس الجهل
يقع الفن المعاصر تحت وطأة الكثير من النقد بسبب سوء فهمه تاريخيًا ومجتمعيًا، بالإضافة إلى ظن الجمهور أنه يستغل جهلهم الفني لكسب الأموال، إلا أن الأمر يعتمد على إثارة المشاعر أكثر منه استغلال الجهل، لا يجب على كل متابع للفن أن يكون ناقدًا فنيًا لكي يستشعر القيمة الفنية الموجودة في العمل الفني، ولكن الفن المعاصر بالذات يعتمد على تحفيز المشاعر واستثارتها، بالضبط كما عرض فيلم “المربع” مشهد الفيلم الرئيسي مشهد “الغوريلا”.
اعتمد هذا المشهد على إسقاط الضوء على واحدة من أهم خصائص الفن المعاصر، ألا وهي استثارة المشاعر حتى الغضب أحيانًا
في ذلك المشهد يقوم ممثل بمحاكاة الغوريلا ومحاكاة قانون الغابة، فيبدأ الحضور بالإعجاب بالقدرة الفائقة على المحاكاة، ومن ثم يبدأون في التوتر حيث أثبت لهم الممثل اصطناعهم الإعجاب بشيء لم يفهموه بالأساس، بعد أن بدأ يتصرف وكأنه غوريلا بالفعل ليبدأ في إيذاء بعض الحضور جسديًا دون تدخل من المتحف الفني.
اعتمد هذا المشهد على إسقاط الضوء على واحدة من أهم خصائص الفن المعاصر، ألا وهي استثارة المشاعر حتى الغضب أحيانًا، والغموض الذي يحيط بالعمل الفني في شكل يستفز أحيانًا كل من يأتي لزيارته، فيثير مشاعره ويدفعه للتعمق في معرفته أكثر وأكثر.
3- أنواع الفن المعاصر
يخلط الكثير من الناس بين أنواع الفن المعاصر، فيصنفونه كله تحت مظلة واحدة، ولكن على العكس هناك أنواع وأساليب مختلفة للفن المعاصر تساعدك معرفتها على فهم الأعمال الفنية المعاصرة بشكل واضح أكثر، إليك أنواع الفن المعاصر بشكل مبسط.
التعبير التجريدي (Abstract Expressionism)
إذا وجدت لوحة مليئة بالألوان المتداخلة في بعضها في شكل يوحي لك بأن الفنان قد ارتكب خطأ وحاول تصحيحه بسكب الألوان المختلفة للتداخل مع بعضها، فاعلم أن هذا النوع من الفن المعاصر يُسمي التعبير التجريدي، وهو من الفنون التي تختزل الأفكار ويشكّلها بالألوان دون توضيح الخطوط، ويمتاز بقدرة الفنان على رسم الأشكال التي يتخيّلها سواء من الواقع أم من الخيال في شكلٍ جديدٍ لا يتشابه مع الشكل الأصلي في الرسم النهائي.
فكلمة “تجريد” تعني التخلص من كل آثار الواقع والارتباط به، فمثلاً الجسم الكروي تجريدٌ لعددٍ كبيرٍ جدًا من الأشكال التي تحمل هذا الطابع، كالكرة والتفاحة وغيرها الكثير، أي أن الشكل الواحد يحمل معاني كثيرةٍ، ومن هنا تكون الحيرة لدى المتفرجين، حيث لا يجدون اللوحة مشابهة لما هو موجود في الطبيعة، إلا أنه لم يكن الهدف منها محاكاة الطبيعة من الأساس بل الاعتماد على منظور الفنان في تعبيره التجريدي لها.
الفن المفاهيمي (Conceptualism)
إذا وجدت عملاً فنيًا يتكون من بضعة أشياء مرصوصة في شكل معين حولها إطار زجاجي، أو مجموعة من الأشياء لا معنى لها مثل الأطباق أو الكراسي أو كما كان في فيلم المربع من عملي فني متكون من كثبان رملية مختلفة الارتفاع متناثرة على لوحة زجاجية عريضة وتشغل حيزًا كبيرًا من المعرض فهذا النوع من الفن يدعى “الفن المفاهيمي”.
الفن المفاهيمي هو حالة فكرة ما وجعلها ملموسة من خلال وضع بعض الأشياء في ترتيب وصفوف معينة، في أواخر الستينيات من القرن الماضي أطلق الفنان جوزيف كوزوت عملًا فنيًا يندرج تحت الفن المفاهيمي، فكان العمل الفني عبارة عن طاولتين كبيرتين عليهما مجموعة كبيرة من الكتب أغلبها بحوث في العلم واللغة والفلسفة ومن بينها بحوث ودراسات نقدية وفلسفية للفنان نفسه، وهناك عدد من الكراسي تدعو المشاهد للجلوس والقراءة.
كان شرح اللوحة يفيد بأن جمالية اللوحة هنا لا تكمن في طريقة وضع وترتيب الكتب والطاولات والكراسي، أي أنها خارجة عن نطاق التناسق الشكلي بل تعبر عن فكرة من خلال أشياء من الطبيعة.
المغزى من هذا النوع من الفن أن تتعرف على منظور الفنان لمختلف الأفكار واستخدامه لأشياء حوله من الطبيعة للتعبير عنها، فكل شيء له معنى ودلالة في الاستخدام، ربما يبدو في ظاهره أنه لا معنى له، وربما يبدو لك غير منطقي وضع تلك المكونات إلى جانب بعضها البعض، ولكن هذا الفن يعتمد على نظرة الفنان وكيفية تعبيره عن أفكار بعينها.
الفن المفاهيمي هو تحويل فكرة ما وجعلها ملموسة من خلال وضع بعض الأشياء في صفوف وأشكال معينة
فن الشيء كما هو (Found Object)
ربما إن عُرض هذا العمل دون إضافة للعامل الضوئي ستظن أنه مجموعة من القمامة تم أخذها من الصندوق ووضعها في المتحف، إلا أن هذا النوع من الفن يُسمى بـ”فن الشيء كما هو”، ألا يقوم الفنان بتعديل أو تحسين الشيء الذي يستخدمه لتكوين عمله الفني، بل يضعه كما هو في ترتيب معين ليخدم فكرته، كما هو موجود في العمل الموجود في الصورة أعلاه.
المغزى من هذا النوع من الفن أن تتعرف على منظور الفنان لمختلف الأفكار واستخدامه لأشياء حوله من الطبيعة للتعبير عنها
الفن السريالي
هذا النوع هو الأكثر شيوعًا في متاحف الفن المعاصر، فإذا صادفك أي عمل يوحي بالرعب أكثر منه محاكاة للطبيعة، أو لا يتصف بالعقلانية في تركيب العناصر وتداخلها مع بعضها البعض، فهذا الفن هو أقرب للسريالية منه إلى الفن التقليدي.
من أنواع الفنون السيريالية أيضًا فن ما فوق الواقعية الذي لا يصدق البعض أحيانًا أن اللوحة مرسومة بالفعل
السريالية أو الفواقعية أي فوق الواقع، هي مذهب فرنسي حديث في الفن والأدب يهدف إلى التعبير عن العقل الباطن بصورة فنية، وهي آلية أو تلقائية نفسية خالصة، من خلالها يمكن التعبير عن واقع اشتغال الفكر إما شفويًا أو كتابيًا أو بأي طريقة أخرى، حيث يصف النقاد اللوحات السيريالية بأنها تلقائية ونفسية، تعتمد على التعبير بالألوان عن الأفكار اللاشعورية والإيمان بالقدرة الهائلة للأحلام.
من أنواع الفنون السيريالية أيضًا فن ما فوق الواقعية الذي لا يصدق البعض أحيانًا أن اللوحة مرسومة بالفعل، حيث تظهر وكأنها صورة فوتغرافية لمنظر حقيقي أو لإنسان واقعي بدلًا من كونها مجرد لوحة مرسومة بدقة شديدة تحاكي الواقع بدرجة كبيرة.
الفن البصري
إذا سألت نفسك حينما ترى لوحات الفن البصري ما إن كانت خطوط اللوحة تتحرك من مكانها أم أصابك الدوار فمن المحتمل أن تكون أمامك لوحة من لوحات الفن البصري، وهو تيار في الفنون التشكيلية في الفن الحديث تم تسميته بالأوب آرت Op Art (اختصارًا للفن البصري) ويظهر فيما سمّي بـ”تحريضات بصرية تجريدية” أي الأعمال التي تثير عند المشاهد رد فعل نفسي – فيسيولوجي باستعمال الفنان رسوم ذات تأثيرات متموجة تثير العين وتحيرها لتوحي بحركة تقوم على مبدأ خداع البصر.
البنائية (Constructivism) نزعة في الفن التشكيلي ظهرت في روسيا في بداية القرن العشرين، وذلك بعد قيام ثورة أكتوبر السوفييتية التي كان روادها قد وضعوا تصورًا لمجتمع جديد
الفن البنائي
إذا وجدت نفسك أمام لوحة تتكون من مربعات أو أشكال هندسية منتظمة أو أشكال تكعيبية في ترتيب معين، فاعلم أنك تقف أمام إحدى لوحات الفن البنائي الذي اشتهر به بيكاسو، حيث آمن الأخير بأن العصر في حاجة إلى نوع من الفن السحري أو فن اللاوعي، كمواساة روحية للإنسان المثقل بالآلية.
البنائية (Constructivism) هي نزعة في الفن التشكيلي ظهرت في روسيا في بداية القرن العشرين، وذلك بعد قيام ثورة أكتوبر السوفييتية التي كان روادها قد وضعوا تصورًا لمجتمع جديد، يسوده مفهوم جديد للعدالة الاجتماعية، وتبنت جماعة من الفنانين الطليعيين آنذاك هذه الرؤية، وتعود إلى النزعة التكعيبية والمستقبلية في التصوير والنحت.
فن التركيب
فن التركيب أو Installation Art هو أكثر الأعمال الفنية شيوعًا في متاحف الفن المعاصر، هذا النوع من الأعمال الفنية التي يمكنك السير حولها والنظر إليها عن قرب بل وأحيانًا لمسها إن كان ذلك مسموحًا، وهي عبارة عن تأسيس العمل الفني داخل أروقة المعرض ليكون له حيزًا كبيرًا يصل أحيانًا إلى السقف.
الفن المعاصر لا يكون معاصرًا إلا إذا أثار لديك الحرية والجدل والغموض في آن واحد، ويدفعك للتعمق في أسراره لمعرفة المزيد، ربما يبدو ذلك مرهقًا للكثيرين، من يؤمنون أن الفن لا ينبغي أن يكون غامضًا إلى هذا الحد، إلا أن الغموض سمة الفن المعاصر، ليثير استفزاز المشاهد ويدفعه للانجذاب للعمل حتى ولو بطريقة سلبية.