أدى وصول الرئيس الإيراني السابق، إبراهيم رئيسي، للسلطة عام 2021، إلى خلق وحدة في الخطاب السياسي الإيراني الموجه للخارج، وتحديدًا حيال العواصم الأربعة (بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء)، وهي أحد أبرز الأسباب التي تقف وراء اختيار رئيسي من التيار المحافظ والحرس الثوري، بدعم وتأييد من المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، في محاولة لإنهاء الخلافات التي ظهرت خلال فترة الرئيس الأسبق حسن روحاني، وتحديدًا بين مؤسسة الرئاسة والحرس الثوري بشأن الدور الإقليمي الإيراني، بالشكل الذي جعل المنطقة أمام سياسة وخطاب إيراني واحد، وليس أمام سياسات وخطابات مُتباينة ومُتداخلة.
كما قامت إستراتيجية الحرس الثوري في المنطقة، وتحديدًا في مرحلة ما بعد اغتيال قائد قوة القدس السابق قاسم سليماني، على إحداث عملية استمرارية وتغيير في طريقة عمله، من أجل تعضيد نفوذه في المنطقة، والتحكم بأنساق التهدئة أو التصعيد مع الولايات المتحدة، حسب ما تقتضيه مصلحة الواقع الإيراني الجديد، وهو ما يتضح من الدور الإيراني في العراق على سبيل المثال، إذ تديره اليوم شخصيات حرسّية مؤثرة.
فإلى جانب قائد قوة القدس، إسماعيل قاآني، هناك أدوار مؤثرة يقوم بها حسن دنائي فر مسؤول ملف العراق في الخارجية الإيرانية، وهو سفير سابق لإيران في العراق، كما أنه جنرال سابق بالحرس الثوري، إلى جانب دور السفير الإيراني في العراق محمد كاظم آل صادق، فهو أيضًا جنرال سابق بالحرس الثوري.
كما شكلت عملية اختيار حسين أمير عبد اللهيان، كوزير للخارجية في عهد رئيسي، تحولًا مهمًا بالنهج الإيراني، فهو الشخصية الأبرز من الجيل الثاني للثورة، دبلوماسي متمرِّس ومتأثر بسليماني، يحظى بثقة المرشد الأعلى والحرس الثوري، وله شبكة علاقات عامة قوية مع جميع وكلاء إيران في المنطقة، وبالتالي فإن المجيء به على رأس الخارجية الإيرانية في عهد رئيسي، كان من أجل استخدام هذه الخبرة والعلاقات، بالإطار الذي يدعم جهود الحرس الثوري في العراق وسوريا ولبنان واليمن أولًا، ويوازن فشل قاآني في ملء فراغ سليماني ثانيًا، وإعادة ترتيب الأوراق الإيرانية المبعثرة في المنطقة ثالثًا، بالشكل الذي يعيد الفاعلية للدور الإقليمي الإيراني.
الحفاظ على الوضع الراهن
مما لا شك فيه أن هناك العديد من الضرورات السياسية والإستراتيجية التي ستحيط بإيران بعد مقتل رئيسي، والأهم كيف ستتصرف إيران في مناطق النفوذ التقليدية، بدءًا من بغداد وانتهاءً بصنعاء، فعبد اللهيان كان يمتلك شبكة علاقات عامة قوية في هذه العواصم، ونجح إلى حد ما في ضبط سلوك وكلاء إيران، سواء في سياق المواجهة مع القوات الأمريكية، أم في سياق الانخراط غير المباشر في حرب غزة، ومن ثم فإن التساؤل المهم الذي يطرح هنا: هل سنشهد تغيرات كبيرة في الدور الإيراني بالعراق وسوريا ولبنان واليمن، خصوصًا مع مجيء وزير خارجية جديد في إيران بعد عبد اللهيان، وهو علي باقري كني؟
الدور الإيراني في بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، سيمر بمرحلة انتقالية خلال الفترة القليلة القادمة، حتى يتمكن النظام الإيراني من استيعاب صدمة ما حدث
بدايةً؛ يمكن القول إن كني يمثل أحد أوجه المدرسة المحافظة في إيران، ومعروف بمواقفه السياسية المتشددة، مدعوم من الحرس الثوري، ويحظى بثقة المرشد الأعلى الإيراني، وينسب إليه الفضل في إدارة الدبلوماسية غير المباشرة لإحياء الاتفاق النووي مع الولايات المتحدة، إلا أنه في مقابل ذلك لا يمتلك نفس دائرة العلاقات التي كان يمتلكها عبد الليهان في دول النفوذ، وهو ما سيفرض مزيدًا من التحديات على دوره فيها.
مما لا شك فيه أن الدور الإيراني في بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، سيمر بمرحلة انتقالية خلال الفترة القليلة القادمة، حتى يتمكن النظام الإيراني من استيعاب صدمة ما حدث، وكذلك منح الفرصة لوزير الخارجية الجديد لترتيب الأوراق الإيرانية إقليميًا ودوليًا، والأهم سيركز النظام في الفترة المقبلة على الإسراع بإنجاز الانتخابات الرئاسية بأي شكل، فخلو منصب الرئاسة لفترة طويلة، سيشكل تحديًا كبيرًا للمرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، الذي يواجه اليوم تحدي إيجاد الخليفة الموثوق بعد مقتل رئيسي.
التحدي الأهم الذي سينتظر إيران خلال الفترة المقبلة، يتمثل في كيفية الإبقاء على مسارات الصراع مع الولايات المتحدة و”إسرائيل” منضبطة
إن نظرة بسيطة لطبيعة الدور الإيراني في العواصم الأربعة، يشير بما لا يقبل الشك، بأن المهمة الرئيسية فيها ستكون لقوة القدس، وتحديدًا قاآني، حتى يتمكن كني من النزول للميدان، مع ضرورة التأكيد هنا، بأن دور الخارجية الإيرانية في العواصم الأربعة يمثل حلقة ثانوية مقابل الدور المركزي للحرس الثوري، إلا أنه يظل مهمًا من أجل فرض إطار مشروع ودبلوماسي للدور الإيراني فيها.
إن الاستمرار بنهج “دبلوماسية الميدان” التي كان يعتمدها عبد اللهيان، والقائمة على تعزيز حضور وكلاء إيران، ودمج هذا الحضور في خدمة الدور الإيراني بالشرق الأوسط، قد يمثل نهجًا مرغوبًا لدى القيادة الإيرانية الجديدة، لكن من جهة أخرى هي تفتقد للقدرات السياسية التي كان يمتلكها عبد اللهيان في كيفية ضبط تحركاتها، وهو ما قد يجعل الدور الإيراني أمام تحديات كبيرة في المرحلة المقبلة.
ملفات مهمة
إن أبرز الملفات التي ستحاول إيران التعامل معها في الفترة المقبلة، هي ذاتها التي كانت محل اهتمام عبد اللهيان، سواء على مستوى تأمين وضع الحلفاء في العواصم الأربعة، سياسيًا وعسكريًا، أم على مستوى الفاعلية مع الحرب في غزة، وهي مسارات ستكون حاضرة بقوة على أجندت كني، ورغم أنه يَنظُر للأوضاع في منطقة الشرق الأوسط بصورة أكثر تشددًا من عبد اللهيان، فإن المركزية التي يتمتع بها المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي في سياسات إيران الخارجية، ستلعب دورًا في ضبط سلوك كني، وتهذيب العديد من خياراته السياسية، أو حتى محاولته الانقلاب على النهج السابق لعبد اللهيان.
إن التحدي الأهم الذي سينتظر إيران خلال الفترة المقبلة، يتمثل في كيفية الإبقاء على مسارات الصراع مع الولايات المتحدة و”إسرائيل” منضبطة، كما كانت في فترة عبد اللهيان، وتحديدًا في العراق وسوريا، فهناك خشية كبيرة داخل الـوساط السياسية الإيرانية من أن يؤدي تشدد كني، إلى إغراء العديد من وكلاء إيران في العراق وسوريا، لتجاوز الخطوط الحمراء الإيرانية وتشديد الهجمات على القوات الأمريكية في العراق أو سوريا، أو حتى شن هجمات قد تدفع “إسرائيل” للرد عليها.
ما تخشاه إيران بالوقت الحاضر أن يتم استغلال حالة عدم الاستقرار فيها على خلفية مقتل رئيسي، في رسم مشهد إقليمي جديد لا يلبي طموحها
يمكن القول بإن المرحلة التالية لرئيسي لن تتغير كثيرًا فيما يتعلق بالنهج الذي قد تسلكه القيادة الإيرانية الجديدة، خاصة في وقت تشهد فيه المنطقة صراعات محتدمة، إذ إن طبيعة النظام السياسي في إيران الذي تعود فيه الكلمة الفصل إلى المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، يجعل من الرئيس وطاقمه مجرد منفذين لسياسات الدولة، ومن ثم فإن من سيخلف رئيسي سيمضي على نهجه بالتأكيد، على الأقل بالحد المقبول من المرشد الأعلى.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الرئيس المقبل وخلفيته السياسية، ستلعب دورًا مهمًا في هذا السياق، فمع إعلان الحكومة الإيرانية عن فتح باب الترشيح للانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في 29 يونيو/حزيران المقبل، حتى بدأت العديد من الأسماء تفرض نفسها على الشارع الإيراني، ما بين إصلاحية ومحافظة ومتشددة، ومن ثم فإن خلفية الرئيس المقبل، ستساهم بشكل أو بآخر في رسم ملامح الدور الإيراني في العواصم الأربعة.
ورغم ما تقدم قد تمثل الحرب في غزة آخر الملفات وأهمها في سياق الدور الإيراني الحاليّ، وهي أهمية ستفرض نفسها بالمرحلة المقبلة، فالحفاظ على إنتاج حل سياسي يبقي حركة حماس فاعلة في غزة، وعدم توسع الصراع في المنطقة، سيشكل محور الدور الإيراني، لما لذلك من أهمية في استقرار وضع حلفائها في العواصم الأربعة، فما تخشاه إيران بالوقت الحاضر أن يتم استغلال حالة عدم الاستقرار فيها على خلفية مقتل رئيسي، في رسم مشهد إقليمي جديد لا يلبي طموحها.