كنت أطالع فهارس قسم الوثائق في مركز دراسات الشرق الأوسط بكلية سانت أنتوني، قبل سنوات طويلة، عندما انتبهت لملف يخص المؤرخ والإداري الفلسطيني عارف العارف (1892 ـ 1973).
ولأن العارف يعتبر واحداً من أوائل المؤرخين الفلسطينيين المحدثين، وأحد الشهود الكبار على المسألة الفلسطينية وتطوراتها، منذ بداية الانتداب البريطاني، سارعت لطلب الملف. ضم الملف عدداً من أوراق مذكرات غير مكتملة، تتعلق بحياة العارف المبكرة وقصة أسره خلال الحرب الأولى، ومن ثم هروبه من الأسر وعودته لفلسطين، وأوراقاً أخرى من يوميات لفترة قصيرة من عمله في إدارة الانتداب خلال العشرينيات والثلاثينيات. كلا مجموعتي الأوراق مطبوع على آلة كاتبة، بدون أن يتضح ما إن كان العارف من قام بذلك، أو أن الطباعة تمت تحت إشرافه، نقلاً عن نص أصلي كتب بخط اليد. ولكن المؤكد أن الأوراق أودعت في إرشيف المركز من قبل العارف نفسه، ربما لأن علاقة ما ربطت بين ألبرت حوراني، المؤرخ الكبير ومؤسس المركز وأول مدير له، والفلسطيني الشهير.
لم يكن العارف أو الحسيني ضمن قلة من العرب الذين قاتلوا في جيش العثماني خلال سنوات الحرب الأولى
ولد عارف العارف لأسرة فلسطينية متواضعة بمدينة القدس، وتلقى تعليمه الابتدائي في مدرسة رشدية بالمدينة، كما كانت تعرف مدارس المرحلة الأولى من التعليم الحديث، الذي ولد وتطور من التنظيمات العثمانية. ولأنه كان طالباً متفوقاً، فقد منح فرصة إكمال تعليمه الأعلى في اسطنبول، حيث تخرج من الملكية، المدرسة التي تخصصت في تدريب الإداريين العثمانيين. التحق العارف بالجيش العثماني، كما مئات الآلاف من أبناء جيله العرب العثمانيين، قبل قليل من، أو بعد اندلاع نيران الحرب العالمية الأولى. ويبدو أنه عمل لفترة قصيرة في مقر وزارة الحرب، قبل أن يلتحق بقوات الجيش العثماني الثالث، المحتشدة في منطقة صاري قاميش، جنوب مدينة قارص التركية الحالية، على الجبهة الروسية. وفي هذه الجبهة، قاتل أيضاً صديق العارف المقدسي، الضابط العثماني الشاب محمد أمين الحسيني (مفتي القدس بعد ذلك، والزعيم الفلسطيني الوطني الكبير).
تعتبر معركة صاري قاميش، التي دارت بين القوات العثمانية والجيش الروسي، ابتداء من 22 كانون الأول/ديسمبر 1914 وحتى منتصف كانون الثاني/يناير 1915، أول معارك جيش السلطنة الكبرى في الحرب الأولى، وأكثرها مأساوية. أصبحت الدولة العثمانية طرفاً في الحرب متأخرة قليلاً، في نهاية تشرين الأول/اكتوبر 1914؛ ومنذ إعلان روسيا الحرب على العثمانيين، بدأت القوات الروسية المحتشدة في محيط مدن قارص وأردوخان، التي كانت روسيا احتلتها في حرب 1878، في مناوشة القوات العثمانية على الجانب الآخر من الحدود. في كانون الأول/ديسمبر، قرر وزير الحرب العثماني، أنور باشا، القيام بهجوم حاسم على الجبهة الروسية، مستهدفاً تحرير المناطق التي احتلت في 1878، والاندفاع إلى شمال القوقاز، حيث مناطق الأغلبية المسلمة، التي خضعت لروسيا القيصرية منذ القرن الثامن عشر.
عارض حسن عزت باشا، قائد الجيش الثالث، مشروع الهجوم، ونصح بالمحافظة على موقع دفاعي صلب على طول الخط الواصل من البحر الأسود إلى فان، وتحين الهجوم في الوقت الذي يناسب القوات العثمانية. ولكن أنور باشا، الذي قرر المضي في خطته، أعفى حسن عزت باشا من موقعه في 14 ديسمبر/ كانون أول، وتسلم شخصياً قيادة المعركة.
لم يكن أولئك الضباط والجنود يحسبون أن وزيراً عربياً بعد مئة عام سيتجاهل تضحياتهم، ويقوم، بدوافع سياسية قصيرة النظر، وقدر لا يخفى من عدم المعرفة، بتزييف تاريخهم وتاريخ السلطنة التي انتموا إليها
مضت المعركة في بدايتها طبقاً لخطة الهجوم، ولكن، وبالرغم من التفوق العددي للقوات العثمانية، أخذت مقدرات المواجهة في الانقلاب منذ بداية أسبوعها الثاني. انسحبت قطاعات من القوات الروسية بالفعل من ساحة المعركة، ولكن صمود قطاعات أخرى، والمشاركة الفعالة من القوات الأرمنية، نجح في ايقاف التقدم العثماني. وفي ساحة حرب جبلية، تنخفض فيها درجة الحرارة إلى 17 درجة تحت الصفر في أشهر الشتاء، كان الصقيع العامل الأهم في مسيرة المعركة. استمرت المواجهة الفعلية لأسبوعين، قبل أن تصدر الأوامر للقوات العثمانية بالانسحاب والعودة إلى خطوطها السابقة على الهجوم. وفي نهاية المعركة، وجد الآلاف من الجنود العثمانيين على سفوح الجبال، التي تعرف في التراث العثماني بجبال «الله أكبر»، وقد قضوا مجمدين، بدون أن تطلق على أحدهم طلقة واحدة.
طبقاً لأكثر التقديرات اعتدالاً، خسر الجيش العثماني الثالث، الذي بدأ المعركة بما يقارب 120 ألف جندي، 33 ألفاً من القتلى وعشرات آلاف الجرحى، بينما أسر الروس ما يزيد عن 7 آلاف من الجنود العثمانيين. كان عارف العارف أحد هؤلاء الأسرى، الذين نقلوا إلى معسكر في سيبيريا، ويعتقد أن أغلبهم مات بفعل ظروف الأسر غير الإنسانية. بعد ثلاث سنوات، وفي غمار الفوضى التي اجتاحت روسيا عقب الثورة الشيوعية، نجح العارف في الهرب، شاقاً طريقه عبر دول شرق أسيا والهند، ليصل إلى القدس بعد أن انتهت الحرب الأولى، ووقعت فلسطين تحت الاحتلال البريطاني.
لم يكن العارف أو الحسيني ضمن قلة من العرب الذين قاتلوا في جيش العثماني خلال سنوات الحرب الأولى. ليس من المعروف عدد الجنود العرب الذين قضوا على الجبهة الروسية، سواء في معركة صاري قاميش أو بعدها، ولكن الزائر لمقابر الجنود العثمانيين الذين سقطوا في الدفاع عن شبه جزيرة جاناككلا، أو غاليبولي، كما تعرف بالإنكليزية، خلال شهور 1915 الطويلة، يلحظ وجود آلاف بينهم من العرب. بين سكانها الذين قدروا بثلاثة أو أربعة وعشرين مليوناً آنذاك، وضعت السلطنة زهاء المليون من أبنائها تحت السلاح؛ ثلثهم على الأقل جاء من ولايات الأغلبية العربية العثمانية. لعشرات الآلاف من الجنود والضباط العرب، كانت حرب السلطنة هي حربهم، وكان الدفاع عن قارص أو غاليبولي، بالنسبة لهم، كما الدفاع عن سيناء وغزة والعمارة والمدينة، التي شهدت جميعها معارك ضارية خلال سنوات الحرب.
احتشد عشرات الآلاف من الأتراك على مرتفعات صاري قاميش، في درجة حرارة تحت الصفر، لإحياء الذكرى الثالثة بعد المئة للمعركة وضحاياها
لم يكن أولئك الضباط والجنود يحسبون أن وزيراً عربياً بعد مئة عام سيتجاهل تضحياتهم، ويقوم، بدوافع سياسية قصيرة النظر، وقدر لا يخفى من عدم المعرفة، بتزييف تاريخهم وتاريخ السلطنة التي انتموا إليها. وليس ثمة شك أن هذا، تماماً، ما قام به وزير خارجية الإمارات، عندما روج لتغريدة غبية، تصف فخر الدين باشا، قائد القوات المدافعة عن المدينة خلال سنوات الحرب الأولى، بالتركي، وقواته بالتركية، وتتهمه بارتكاب جرائم ضد سكان المدينة. كيف استطاع فخر الدين باشا الحفاظ على المدينة حتى نهاية الحرب، ليست هي المسألة. المسألة أن فخر الدين باشا لم يكن يقاتل باعتباره ضابطاً تركياً، وأن تركيا، دولة وهوية، لم تكن وجدت بعد.
كان فخر الدين باشا ضابطاً عثمانياً، وبين قواته كان هناك جنود وضباط عرب وأتراك وأكراد وشركس؛ كما ساندته مجموعات متطوعين من أبناء القبائل العربية في جوار المدينة وفي حائل. لهؤلاء جميعاً، لم تكن المدينة مستعمرة تركية، بل حاضرة عثمانية، تماماً كما حواضر الشام والأناضول والعراق.
قبل أيام قليلة، في السابع من كانون الثاني/يناير، وكما في كل عام، احتشد عشرات الآلاف من الأتراك على مرتفعات صاري قاميش، في درجة حرارة تحت الصفر، لإحياء الذكرى الثالثة بعد المئة للمعركة وضحاياها. وربما سيشهد العام القادم انضمام آخرين، من أحفاد آلاف الجنود العرب العثمانيين، الذين قاتلوا وسقطوا دفاعاً ليس عن صاري قاميش، فقط، بل وعن غاليبولي وغزة وبغداد والحجاز، كذلك، إحياء لذكرى أجدادهم. عرب اليوم، هم أيضاً، ورثة هذا التاريخ الإمبراطوري، بكل انتصاراته وهزائمه، وكل إنجازاته ومساوئه.