شهدت الساحة الفلسطينية مع دخول حرب غزة يومها الـ 30 بعد الـ 200 حدثَين سياسيَّين يعكسان بشكل كبير نتائج الزلزال الذي تسبّب فيه “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر، وتداعيات تلك العملية على حاضر القضية الفلسطينية من جانب ومستقبل الكيان الإسرائيلي المحتل من جانب آخر.
الحدث الأول الاستثنائي في شكله ومضمونه كان في 21 مايو/ أيار الجاري، حين أعلن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، سعيه للحصول على أوامر اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت، بسبب مسؤوليتهم الجنائية عن ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة، وهي المرة الأولى التي تفكر فيها المحكمة الدولية إصدار أوامر اعتقال بحق قادة إسرائيليين.
وبعده بيومَين فقط اعترفت كل من أيرلندا وإسبانيا والنرويج بدولة فلسطين، على أن يدخل القرار رسميًا حيّز التنفيذ في 28 مايو/ أيار الجاري، مع توقعات بانضمام العديد من بلدان أوروبا لموجة الاعتراف بالدولة الفلسطينية، في ظاهرة لم تعرفها القارة العجوز المعروف دعمها الكامل والمطلق لدولة الاحتلال على مدار عقود طويلة.
الحدثان معًا، وبجانب أنهما انتصار دبلوماسي وسياسي للقضية الفلسطينية بفضل الصمود الأسطوري للمقاومة والأداء المبهر للغزّيين على مدار ما يقرب من 8 أشهر من القتال الشرس، إلا أنهما نجحا في إسقاط قناع الحريات والديمقراطيات والمبادئ المزيف الذي طالما ارتدته دول أوروبا لعقود طويلة، لينكشف وجهها العنصري الحقيقي، الأمر الذي يضع سمعتها السياسية والأخلاقية على المحك.
يوم تاريخي لفلسطين
في إعلان مشترك لكل من دبلن وأوسلو ومدريد، وصف مسؤولو الدول الثلاث تلك الخطوة بأنها “تاريخية” لكل من فلسطين وبلدانهم، لافتين أن هذا التحرك يعزز بشكل كبير مسار العملية السلمية في ملف الصراع العربي الإسرائيلي، ويقود نحو “حل الدولتين” كخيار وحيد للتعايش السلمي بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
وصل عدد الدول التي اعترفت بالدولة الفلسطينية 139 دولة من أصل 193 دولة عضوًا في الأمم المتحدة، دون أن يكون بينها دولة واحدة عضو في الاتحاد الأوروبي وذلك حتى عام 2014
من جانبه، وصف رئيس الوزراء النرويجي، يوناس غار ستور، الاعتراف بفلسطين بأنه “وسيلة لمساندة القوى المعتدلة التي فقدت تأثيرها في هذا الصراع الوحشي الطويل”، مشددًا على أن هذا القرار “رسالة قوية إلى الدول الأخرى كي تحذو حذو النرويج وعدد من البلدان الأوروبية في الاعتراف بدولة فلسطينية”، وأنه من شأنه أن يؤدي “في نهاية المطاف إلى استئناف العملية نحو تحقيق حل الدولتين ومنحه زخمًا جديدًا”، خصوصًا أن “الحرب الدائرة في غزة جعلت من الجليّ أن تحقيق السلام والاستقرار لا بدَّ أن يستند إلى حلّ القضية الفلسطينية”، على حد تعبيره.
أما رئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز، وأمام برلمان بلاده، فحدد الثلاثاء 28 مايو/ أيار 2024 موعدًا للاعتراف بدولة فلسطينية، محذرًا من أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يعرّض للخطر حلّ الدولتين في الشرق الأوسط، فيما ثمّن رئيس الوزراء الأيرلندي سايمن هاريس تلك الخطوة التي وصفها بأنها “يوم تاريخي لفلسطين وأيرلندا”.
ومنذ عام 1988 وصل عدد الدول التي اعترفت بالدولة الفلسطينية 139 دولة من أصل 193 دولة عضوًا في الأمم المتحدة، دون أن يكون بينها دولة واحدة عضو في الاتحاد الأوروبي الداعم لـ”إسرائيل” على طول الخط حتى عام 2014 الذي شهد كسرًا لتلك المعادلة الظالمة.
ففي ذلك العام اعترفت السويد بفلسطين لتكون أول دولة عضو في الاتحاد تتخذ هذا المسار، تبعتها في ذلك 6 دول أخرى هي بلغاريا وقبرص والجمهورية التشيكية والمجر وبولندا ورومانيا، وصولًا إلى عام 2024 الذي من المقرر أن يشهد انضمام 3 دول أخرى لقائمة المعترفين بالدولة الفلسطينية، وهي الموجة التي تمثل انتصارًا دبلوماسيًا هائلًا للقضية الفلسطينية، وتعكس حجم الدعم العالمي لها رغم الآلة الصهيونية الضاغطة على الجميع للحيلولة دون اتخاذ مثل تلك الخطوات التي تقوّض من المخطط الإسرائيلي لطمس القضية الفلسطينية وتهميشها دوليًا.
ارتباك إسرائيلي
الحدثان أصابا حكومة الاحتلال والأوساط السياسية في الداخل الإسرائيلي بحالة من الصدمة والارتباك، تجسّدت في صورة تصريحات صدامية وصلت إلى حد التهديد بقطع العلاقات الدبلوماسية مع الدول التي أعلنت اعترافها بالدولة الفلسطينية، وتهديد محكمة الجنايات الدولية ومن قبلها العدل الدولية، بخلاف الانقسام الإسرائيلي-الإسرائيلي بشأن مثل تلك التحركات، الأمر الذي ينسف ادّعاءات تماسك الجبهة الداخلية ويجهض كافة المساعي للإبقاء عليها موحدة.
من جانبه، وصف نتنياهو قرار الدول الأوروبية الثلاث بأنه “مكافأة للإرهاب”، و”لن تحمل السلام”، مضيفًا في مقطع فيديو نشره مكتبه: “لهذا الشر، لا يمكننا إعطاء دولة”، وأضاف: “ستكون دولة إرهابية، وستحاول مرارًا ارتكاب مجزرة 7 أكتوبر/ تشرين الأول، ولن نقبل بذلك”.
كما استدعت الخارجية الإسرائيلية سفيرَيها لدى أيرلندا والنرويج لإجراء مشاورات مطوّلة والاعتراض على خطوة الاعتراف بفلسطين، فيما وجّه وزير الخارجية الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، في بيان له رسالة شديدة اللهجة إلى البلدَين الأوروبيَّين، لافتًا أن “إسرائيل” لن تلتزم الصمت إزاء ما حدث، ومحذرًا من أن “الخطوات المتسرعة للبلدَين ستكون لها عواقب وخيمة”، مؤكدًا أنه “إذا نفّذت إسبانيا وعودها بالاعتراف بالدولة الفلسطينية فستتّخذ خطوات ضدها”.
وعلى الجانب الآخر، دعا زعيم المعارضة الإسرائيلية، يائير لبيد، نتنياهو إلى إبداء استعداده للقبول بحل الدولتَين وقيام دولة فلسطينية مستقبلًا، وإن كانت “في ظروف معينة وضمانات محددة”، منوهًا أن وزير الأمن القومي بحكومته إيتمار بن غفير هو من يمنعه من ذلك، وكان الوزير المتطرف قد قال في تصريحات سابقة إنه “لا يسمح” لنتنياهو بإعلان الاستعداد للقبول بدولة فلسطينية، واصفًا أن خطوة كتلك تعتبر “جنونًا” على حد قوله.
انقسام أوروبي
رغم أن طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرة اعتقال بحق نتنياهو ووزير دفاعه لم يُحسم بشكل رسمي، ولم يصدر بعد قرار اعتقال، إلا أنه قوبل بانقسام كبير في مواقف الدول الأوروبية رغم دعمها الكامل للمحكمة وقراراتها.
فمن جانب، قادت كل من بريطانيا وإيطاليا والتشيك فريق المعارضين لهذه الخطوة، حيث قال رئيس الوزراء البريطاني، ريشي سوناك، إن استصدار مذكرة اعتقال بحق نتنياهو وغالانت لن يساعد في معالجة الوضع بقطاع غزة، مضيفًا خلال إجابته عن أسئلة النواب في الجلسة الأسبوعية للبرلمان البريطاني الأربعاء 22 مايو/ أيار 2024 أنه “من الناحية الأخلاقية، لا يمكن المساواة بين تصرفات حكومة منتخبة ديمقراطيًا تستخدم حقها القانوني في الدفاع عن النفس ومنظمة إرهابية (في إشارة إلى حماس)”، وفق تعبيره.
أما وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاياني، فوصف تلك الخطوة إذا ما تمّت بشكل رسمي ونهائي بأنها يمكن أن “تؤجّج معاداة السامية”، في الوقت الذي اعتبرها رئيس الوزراء بتر فيالا “قرارًا مشينًا وغير مقبول على الإطلاق”، وفق تعبيره.
أما على الجانب الآخر، فأكدت فرنسا دعمها الكامل للمحكمة الجنائية الدولية واستقلالها ومواجهة الإفلات من العقاب في جميع الأحوال، لافتة أنها طالما حذّرت من الإفراط في جرائم القتل بحقّ المدنيين في غزة، كذلك رحّبت نائبة رئيس الوزراء الإسباني يولاندا دياث بطلب المدعي العام، ووصفته بأنه خبر جيد، مشددة على أن القانون يجب أن يطبَّق على الجميع.
مصداقية أوروبا على المحكّ
الانقسام الأوروبي إزاء قرار المحكمة والتهديد بملاحقة قضاتها لمجرد التفكير في إصدار مذكرة اعتقال بحق قيادات الحليف الإسرائيلي، يضع القارة العجوز بأكملها في حرج أخلاقي وسياسي أمام الرأي العام العالمي، الذي بات يمثل ضغطًا كبيرًا على الحكومات والأنظمة لا سيما التي تغرد بمعزل عن مبادئها التي تتشدّق بها، فهي تقبل بتلك القرارات إذا ما تماهت مع مصالحها ومصالح حلفائها، وترفضها إذا ما تعارضت معها.
ومن ثم أصبحت مصداقية دول أوروبا الحليفة لـ”إسرائيل” على المحك، بين دعم الحليف المتهم قياداته بجرائم إبادة بحق المدنيين، وفي الوقت نفسه دعم المحكمة الجنائية الدولية التي تتمتع قراراتها وأحكامها بثقة عواصم وحكومات القارة.
وهنا تساؤل حرج يجب أن تضعه حكومات تلك الدول على طاولة النقاش: ماذا لو أصدرت المحكمة مذكرة الاعتقال تلك وسافر نتنياهو أو غالانت لأي من بلدان أوروبا؟ ماذا سيكون ردّ الفعل؟ هل تلتزم تلك البلدان بتنفيذ قرار المحكمة وتعتقل قيادات الدولة الحليفة؟ أم سيتجاهلونها خشية رد فعلها وتجنبًا لاستثارة غضبها؟
وعلى الجانب الأمريكي، فالأمر لا يقلّ حرجًا عن نظيره الأوروبي، حتى وإن لم تنضم الولايات المتحدة للمحكمة، فلطالما دعمت واشنطن جهود الجنائية الدولية في قرارات سابقة متعلقة بروسيا والسودان وصربيا، وفي حال رُفض قرار المحكمة اليوم إذا ما تم بشكل نهائي، فإن الوضعية الحرجة للأمريكيين ستزداد تأزمًا أمام الشارع العالمي.
وعليه، حذّرت عدة أصوات محسوبة على النخبة في الولايات المتحدة من خطورة إصدار مذكرة الاعتقال تلك بحق قادة “إسرائيل” من المحكمة الدولية، كما ذهب الباحث في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات والمسؤول السابق في مجلس الأمن القومي الأمريكي، ريتشاد غولدبرغ، الذي نبّه إلى أن واشنطن قد تكون الهدف التالي للمحكمة.
وأوضح غولدبرغ أن الجنائية الدولية إذا ما نجحت في إصدار مذكرة الاعتقال بحق نتنياهو وغالانت، فإن الجنود الأمريكيين والقادة السياسيين والعسكريين ربما يواجهون المصير نفسه في جرائم حرب مزعومة في أفغانستان والعراق، ومن ثم لا بدَّ من العمل للحيلولة دون صدور هذا الحكم بأي ثمن.
ولم يكن قلق الأمريكيين من الجنائية الدولية حديث العهد في ظل إدارة بايدن، فسبق وأن حذرت إدارة دونالد ترامب من التوجه ذاته، حين هدد مستشار الأمن القومي في تلك الإدارة جون بولتون بفرض عقوبات على القضاة والمدعين العامين في المحكمة، في حال البدء في إجراء تحقيقات بحقّ أفراد من الجيش الأمريكي ووكالة الاستخبارات بشأن احتمالية ارتكاب جرائم حرب بتعذيب المعتقلين في أفغانستان عام 2016.
وبالفعل فرضت الإدارة السابقة عقوبات على بعض أعضاء المحكمة منهم رئيسة المحكمة السابقة فاتو بنسودا، التي حظرت أمريكا حساباتها المصرفية، غير أن القرار تمّ التراجع عنه مع بداية تحسن العلاقات مع تولي السلطة جو بايدن، الذي تعهّد باحترام قواعد القانون الدولي.
المقاومة وانتكاسة الدبلوماسية الإسرائيلية
لا شكّ أن كل دعم تحظى به فلسطين يقابله عزلة وتقليص من رصيد الدعم المقدم لـ”إسرائيل”، ويُستمد هذا الدعم الفلسطيني حضوره من مسارَين، الأول صمود المقاومة وبسالتها في الدفاع عن أرضها وتكبيد جيش الاحتلال الخسائر تلو الأخرى، ونضال أهل غزة وتمسكهم بوطنهم الأكبر (فلسطين) ووطنهم الأصغر (منازلهم)، وتحديهم لآلة القتل والتدمير الإسرائيلية التي لم تتوقف طيلة 230 يومًا.
والثاني جرائم الإبادة والانتهاكات التي يرتكبها جيش الاحتلال بحقّ أطفال ونساء وشيوخ غزة من المدنيين العزل، والمنقولة على مرأى ومسمع من العالم أجمع على الهواء مباشرة، والتي لا يراعي فيها الكيان أيًّا من مبادئ حقوق الإنسان التي يتشدق بها ليل نهار، والتي بسببها روّج صورته البراقة كدولة ديمقراطية حضارية تنتصر للإنسانية ومبادئها.
ومع صمود المقاومة بينما تقترب الحرب من نهاية شهرها الثامن، وحالة الارتباك التي تخيّم على أداء جيش الاحتلال، يتوقع الإسرائيليون ألا يقتصر الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية على هذه الدول الثلاث فقط، بل قد تأخذ موجة الاعترافات الدولية منحى آخر في القارة العجوز المعروفة بدعمها الكبير والمطلق للكيان الإسرائيلي، وهي انتكاسة دبلوماسية سيكون لها ما بعدها إذا ما تم البناء عليها من قبل الداعمين للقضية الفلسطينية.
وكما نجح الطوفان في إغراق الداخل الإسرائيلي بالأزمات تلو الأخرى، وإسقاط الأقنعة المزيفة عن أساطير الاحتلال العسكرية والسياسية والمجتمعية التي لا تقهر، فإذ بها كالعهن المنفوش أمام فصائل رياح المقاومة العاتية، فقد نجحت كذلك في فضح الازدواجية الغربية ونسف مرتكزاتها الحقوقية والإنسانية التي كانت تتخذها سُلّمًا نحو الرقي والحضارة.