لا شك أن المُتضرر الرياضي الأكبر من الأزمة التي تعصف حاليًّا بإسبانيا بين الحكومة الحريصة على إبقاء حدودها الترابية كاملة والمقاطعة الثائرة كتالونيا، لا شك أنه نادي برشلونة.
فعلى الرغم من وجود مجموعة من النوادي القادمة من الإقليم القابع شمال إسبانيا، فإن الأضواء تُوجه بشكل أكبر للنادي الأزرق والأحمر لاعتبارات التاريخية والاقتصادية وكذا الرياضية التي يحملها، إضافة لقوة العلامة التجارية التي من شأنها أن تجعل موقف النادي ذا صوت مسموع، في حال قرَّر الوقوف بجانب دون الآخر.
فالتاريخ يتحدث عن مجموعة من المحطات التي وجد فيها نادي برشلونة نفسه مُجبرًا على الدخول في هذه الأزمات تكون فيها الخسائر أكثر من المكاسب، وعلى رأسها التخلف في عدد الألقاب التاريخية لصالح الغريم التقليدي ريال مدريد، ففي وقت كان النادي الملكي مكتسحًا لإسبانيا والقارة الأوروبية عبر مجموعة من النجوم على رأسها دي ستيفانو، كان البارسا مُنهمكًا في صراع الهوية والبقاء، تحت وطأة نيران جيش فرانكو.
يوهان كرويف لعشقه للبارسا ولكتالونيا، اختار لمولوده الجديد اسم “جوردي”، تيمنًا بأحد القديسين الكتالونيين
وخلال ثلاثينيات القرن الماضي، كانت الضربة الأولى التي تلقاها نادي برشلونة، عبر إعدام رئيسه جوسيب سانيول المعروف بتمسكه بالقومية الكتالونية وتمثيله للمقاطعة في البرلمان الإسباني، أُعدم سانيول دون محاكمة، ولم يجرؤ شخص على التفوه بكلمة إلا بعد سنوات طويلة، حينما كشف النادي بعض الحقائق عن اغتياله، وإصداره وثيقة تُعرف بوثيقة “سنة سانيول”.
سنة 1974، كان النادي على موعد مع طفرة رياضية كبرى، بقدوم عرَّاب النادي يوهان كرويف، الهولندي الطائر الذي بصم في تاريخ البارسا كثيرًا حتى صار كتالونيًا أكثر من الكتالونيين، وفي أول سنة له كلاعب مع الفريق، حقق البارسا فوزًا تاريخيًا بخماسية نظيفة على ريال مدريد، كتبت معها صحيفة نيويورك تايمز أن هذا الفوز قاتل للفريق الملكي رياضيًا وللحكومة الإسبانية سياسيًا، وإيذانًا بعهد جديد لنادي برشلونة تستوي فيه الركب وتتساوي فيه الأكتاف نِدًا لند مع الغريم التقليدي.
يوهان كرويف لعشقه للبارسا ولكتالونيا، اختار لمولوده الجديد اسم “جوردي” تيمنًا بأحد القديسين الكتالونيين، لكن القوانين كانت واضحة، فالحكومة الإسبانية منعت أي اسم ذي دلالات للهوية الكتالونية، قبل يوهان التحدي، فحلق إلى بلده الأصل “هولندا” حيث أسماه جوردي، ثم عاد لبرشلونة مجددًا متحديًا كل القوانين التي وضعها نظام فرانكو.
يوهان كرويف النجم الهولندي الذي تبنى القضية الكتالونية
الحاضر يوحي بتوتر أكبر قد يصيب المنطقة، لقد صار دور نادي برشلونة أكبر لاحتضان هذا الصراع ومحاولة تهدئة النزاعات، ففي عز الأحداث التي وقعت يوم استفتاء كتالونيا الشهير 1 من أكتوبر 2017، كان النادي على موعد مع لقاء مُهم في الدوري الإسباني أمام لاس بالماس.
هنا وجدت إدارة برشلونة نفسها بين نارين، إما قرار الانسحاب من اللقاء، وهو الذي سيُعرضها لعقوبات قاسية على رأسها خصم نقاط، الأمر الذي لا يحبذه النادي باعتباره رائد ترتيب المسابقة والمرشح الأقرب للظفر بالكأس، أو قرار لعب المباراة، وهو الذي لن يعجب الجماهير الكتالونية التي اعتبرت إقامة المباراة بمثابة الاستخفاف بمشاعر ساكني الإقليم وخيانة واحدة من القضايا التي لطالما كان النادي معنيًا بها.
وما بين هذا وذاك، خرج رئيس نادي برشلونة جوسيب ماريا بارتوميو مُصرحًا: “لن نُعرض النادي لأي خطر في فقدان المنافسة على أي مسابقة، لذلك أقول لكل أعضاء النادي أننا سنلعب المباراة دون جمهور”.
أصدر النادي بعدها بيانًا يدعو فيه إلى ضبط النفس والدعوة لفتح حوار بين إقليم كتالونيا والحكومة الإسبانية، لقد كانت الطريقة المُثلى من إدارة النادي تجاه هذا الموقف، وإن لاقت اعتراضًا من بعض الأشخاص الذين رفضوا أن تلعب المباراة من الأصل، كان من بينهم جيرارد بيكيه مدافع النادي، المعروف بتعصبه الشديد لكتالونيا.
فالمدافع الكتالوني رغم اضطراره في الأخير للعب اللقاء، إلا أنه خرج بعد ذلك في تصريح صحفي نقلته وسائل الإعلام العالمية، حينما تأثر بشدة وذرف الدموع أمام الكاميرات مُصرحًا: “هذا أسوأ شيء حدث هنا منذ 50 عامًا، لقد كان يومًا خطيرًا، الكل رأى ما فعلته قوات الشرطة الإسبانية وقوات الحرس المدني، الإدارة حاولت تأجيل المباراة، ونحن اللاعبين ناقشنا الأمر بيننا ثم قررنا في الأخير لعب اللقاء، لكن ما حدث كان أسوأ تجربة مهنية لي، أردنا أن تنتهي المباراة بسرعة”.
كشفت صحيفة “الموندو” (صحيفة إسبانية تابعة لليمين المتطرف المعارض لانفصال كتالونيا) عن بند في عقد ميسي الجديد مع البارسا يشترط فيه لعب الفريق في واحد من الدوريات الأوروبية الكبرى (الإسباني، الفرنسي، الإنجليزي، الألماني) في حال الانفصال عن إسبانيا
التصريحات لم تمر مرور الكرام، وأعقبتها صافرات كثيرة من الجمهور الإسباني الذي طالب بطرد بيكيه من المنتخب الإسباني، الأمر الذي ردّ عليه قائلاً: “أنا مستعد للاعتزال إن أراد المدرب أو الاتحاد الإسباني ذلك”، كان واضحًا من تصريحات بيكيه، أن اللاعب يفضل هويته الكتالونية عن الإسبانية، رغم مشاركته الكثيرة مع منتخب “لاروخا” وفوزه بالعديد من الألقاب أبرزها مونديال 2010 بجنوب إفريقيا.
أما الحكومة الإسبانية، فقد أدركت خطورة ورقة نادي برشلونة على قضية الانفصال هذه، فاعتمدت عليه متى دعت الحاجة، وكان أول التصريحات من خافيير تيباس (رئيس رابطة الدوري الإسباني) المعروف بتشجيعه لريال مدريد، حيث أجاب عن سؤال مصير نادي برشلونة في حال حصول الانفصال قائلًا: “إن استقل إقليم كتالونيا، فالأندية الكتالونية ممنوعة من المشاركة في الدوري الإسباني”.
وافقه على هذا الأمر مجموعة من المسؤولين الرياضيين التابعين لحكومة مدريد، لكن يبدو أن الورقة لم تؤت أكلها كثيرًا، ما دام الكل يُدرك الضرر الرياضي الذي سيصيب الكرة الإسبانية المعروفة بقطبي ريال مدريد وبرشلونة، وتنافسهما الشديد الذي يمنح الليغا مذاقًا خاصًا من بوابة اللقاء الكبير “الكلاسيكو”.
ليونيل ميسي آخر أوراق الحكومة الإسبانية للضغط على انفصال كتالونيا
وفي ذات السياق، فقد حان الوقت للحكومة الإسبانية للعب ورقة ضغط جديدة على الكتلان، والمتمثلة في أسطورة كرة القدم ليونيل ميسي لاعب البارسا، هذا الأخير ومع تجديد عقده قبل أسابيع، كشفت صحيفة “الموندو” (صحيفة إسبانية تابعة لليمين المتطرف المعارض لانفصال كتالونيا) عن بند في عقد ميسي الجديد مع البارسا يشترط فيه لعب الفريق في واحد من الدوريات الأوروبية الكبرى (الإسباني، الفرنسي، الإنجليزي أو الألماني) في حال الانفصال عن إسبانيا.
الأمر الذي لم يؤكده ولم ينفه أي مسؤول عن نادي برشلونة بدعوى “سرية العقود”، في حين تحدث خورخي ميسي والد اللاعب قائلًا: “لا وجود لأي بند كهذا في عقد ميسي، ليو جاهز للبقاء في برشلونة ما دام الفريق يلعب في بطولة كبرى”.
يبدو أن الأحداث ستستمر أكثر، لكن الأكيد أن اسم برشلونة سيظل حاضرًا دومًا، كضريبة شهرة للنادي والنجاح الذي حققه دون غيره من الأندية الكتالونية.