لم يسبق لقائد القوات اللبنانية سمير جعجع أن كان في مثل حرج وضعه اليوم، منذ اقتياده -مستسلمًا من دون معاندة- إلى وزارة الدفاع الوطني العام 1994، ومن ثم محاكمته وسجنه. فجسور علاقاته وحزبه مع القوى الأساسية في البلد تحترق الواحد بعد الآخر، بما في ذلك القائمة مع الذين اعتبروا أنفسهم في تحالف معه، ولا يظهر في الأفق ما يشي بالعمل على رش ولا نقطة ماء على الحريق المتواصل، وها هو الحزب اليميني المتشدد يقف وقد تقطعت به السُبُل وسط صحراء مُربِكة، وعلى شفير انتخابات يقولون إنها سترسم مستقبل البلد وأحجام الأطراف الفاعلة فيه.
“الحكيم” الذي يقول لجماعته إن الصدمات لا تُحبِطه ولا ترخي عزمه، يبذل جهودًا كبيرة متكلًا على قدراته هذه المرة للخروج من الـ”جورة” التي وقع فيها، وقد أومأ إلى لسانه الإعلامي بالتنحي جانبًا ليتصدى بنفسه للأزمة المستحكمة بحزبه وبمصيره السياسي.
وعلى الرغم من البيان العشري الحاد الذي أصدره بلسان الدائرة الإعلامية في حزب “القوات اللبنانية”، وتسلق فيه “القائد” شجرة عالية بإعلانه قائلاً: “لا يُشرفنا أساسًا أن نكون مع بعض الأشخاص في الحكومة الحاليّة”، فإنه بذلك كشف من حيث لا يدري مقدار سخطه وإرباكه من الوضع الذي آلت إليه الأمور، والإرباك في المُلمات يفتح الطريق أمام الخطأ، وأي خطأ سيكون مُكلفًا أكثر بالنظر إلى طبيعة المرحلة الراهنة في لبنان.
زيارة غسيل القلوب التي أشيع أن جعجع سيقوم بها إلى بيت الوسط (مقر الرئيس الحريري)، لم تعد مطروحة بعد الصد الحريري المتواصل ومواصلة الرشق بتُهم الخيانة
على الرغم من سوء الحال اليوم، فالآتي أسوأ كما يتراءى، إذ كلما اقترب البلد أكثر من عتبة الانتخابات النيابية، تتصاعد لغة الاشتباكات السياسية والتخوين والاتهامات بنية تحقيق أقصى ما يمكن من المكاسب والمقاعد، ومهما كلف ذلك، وعلى هذه الخلفية التي بات متعارفًا عليها يتحدث كثير من المتابعين عن اختلافات لا بد من حصولها بين بعض المتفقين اليوم، وتوسع الهوة أيضًا بين بعض المختلفين، وفقًا لمتطلبات “المعارك الانتخابية” المقبلة، مما سيفتح المجال لظهور تحالفات جديدة واندلاع تصادمات غير متوقعة.
ولعل حال الانكشاف الجانبي (المحدود حتى الآن) للتغطية المسيحية للعهد، بفعل اضطراب الود بين القوات وبعبدا، هو ما فتح المجال للنوع الظاهر من الاستقواء على العونية السياسية من قِبل خصومها التقليديين (الكتائب والنائب بطرس حرب ومصطادين آخرين في هذا الماء العكِر)، الأمر الذي جعل من حالة تجاوز أرعن للأصول ارتكبه صحافي غير لبناني على هواء الـ “L.B.C.” وتعرض لمنصب الرئاسة الأولى في البلد، يتحول إلى قضية رأي عام يجري استخدامها في ميدان التشويش والتجييش الانتخابيين.
وشيئًا فشيئًا ها هي السُحب الداكنة تأخذ في التجمع فوق البلد، الزعيم الدرزي وليد جنبلاط وجد فرصته في الوقوف إلى جانب الرئيس بري معترضًا معه على مرسوم منح الأقدمية لضباط “دورة عون”.
وعلى الرغم من الحكمة التي تعاطى من خلالها رئيس المجلس النيابي بداية، إذ ترك الكرة في مرمى رئيس الجمهورية مُستدعيًا مبادرته لإطفاء النار، فإن الهواء العليل بين عين التينة وبعبدا بات يهب مُحملًا بلسعة برد غير مرغوبة ولا تُبشِر بالخير.
وبسرعة مُلفتة أُشيع أن علاقة عون ـ بري سقطت في مطب هوائي خطير، وهذا، وقد صح، سوف يصب بطريقة أو بأخرى في مصلحة القوات اللبنانية وزعيمها، ويمنحه فرصة ربما للشد على مشد هذا الطرف أو ذاك، وبالتالي الخروج من عنق الزجاجة التي علق فيها على حساب المتحالفين في وجهه.
إذا أمعنا النظر في احتمالات التحالفات الانتخابية الممكنة في مختلف الدوائر والمناطق والأرجاء، فسنجد الكثير من الغرائب التي لا يستحيل أن تتحقق
أما زيارة غسيل القلوب التي أشيع أن جعجع سيقوم بها إلى بيت الوسط (مقر الرئيس الحريري)، فلم تعد مطروحة بعد الصد الحريري المتواصل ومواصلة الرشق بتُهم الخيانة، وعلى الرغم من تقادم الزمن، فإن الأحاديث إياها ما انفكت جاثمة وسط الطريق بين معراب (مقر جعجع) وبيت الوسط.
اليوم بات التذمر مزدوجًا، يتمثل من جهة معراب بإصرار الحريري على وضع النقاط على الحروف، ومن ناحية بيت الوسط بمواصلة معراب لعب دور الضحية، وبالتالي فالالتقاء بعيد، والبعض يقول مُستبعدًا، في حين أن الأمل بالمصالحة ينبع من كيمياء “عصفورية الانتخابات” فقط لا غير، التي يمكن أن تأتي بما هو أغرب من ذلك، وإذا أمعنا النظر في احتمالات التحالفات الانتخابية الممكنة في مختلف الدوائر والمناطق والأرجاء، فسنجد الكثير من الغرائب التي لا يستحيل أن تتحقق، ويمكن أن تتحق، ولا بد أن تتحقق.