حتّم الموقع الجغرافي لمدينة القسطنطينية وسيطرتها على الممرّ المائي الواقع بين قارتيْ آسيا وأوروبا، إضافةً لاحتوائها على خليج القرن الذهبي، إلى جعل البيزنطيين يخططون للدفاع عن المدينة على المدى البعيد ببناء أسوارٍ وجدران التفت حولها من جميع الجهات، وجعلتها صامدة في وجه أعدائها على مدى آلاف من السنين، حتى باتت أسوار القسطنطينية العتيدة تٌحفةً معمارية تاريخية جذبت انتباه البشر لعقود.
بُنيت أسوار القسطنطينية في بداية القرن الخامس الميلادي بأمرٍ من الإمبراطور البيزنطي ثيودوسيوس الثاني، ليكون حصنًا منيعًا يحمي المدينة ويدافع عنها ضدّ هجمات أعدائها، إذ كان تصميمه يهدف لجعل اجتيازه شبه مستحيل سواء من ناحية البرّ أو البحر، الأمر الذي يفسّر كيف صمدت القسطنطينية أكثر من 1500 عامٍ في وجه من غزاها من عرب وروس وبلغار، إلى أنْ وصلها العثمانيون ومدافعهم العملاقة وحاصروها لمدة ستة أسابيع أدت لفتحها عام 1453.
في الحقيقة، يرجع بناء الأسوار في البداية إلى عهد الإمبراطور قسطنطين الكبير، إذ كانت عبارة عن جدران حجرية ضخمة تحيط بالقسطنطينية من جميع الجوانب. ومع نموّ المدينة وتوسّع البيزنطيين فيها، تمّ إنشاء السور المزدوج والذي بات يحمل اسم الجدران الثيودوسية كنايةً عن الإمبراطور ثيودوسيوس.
ظلت الجدران سليمة بشكلٍ شبه كامل خلال معظم الفترة العثمانية، حتى بدأ تفكيك بعض أجزائها في مطلع القرن التاسع عشر، حيث بدأت المدينة بالتوسع خارج نطاق حدودها التي كانت عليه في القرون الوسطى.
تمتد سلسلة أسوار المدينة الحجرية والدفاعية لمسافة ستة كيلومترات ونصف تقريبًا من منطقة يديكولي “Yedikule” على بحر مرمرة إلى منطقة أيوان سراي “Ayvansaray” المطلة على خليج القرن الذهبي. وعلى الرغم من التغييرات الشتى التي طرأت عليها بفعل عوامل الزمن والتاريخ، إلّا أنّ أجزاءً كبيرة منها ما زالت سليمة إلى حدٍ كبير في وقتنا الحاضر، ما يجعل المشيَ على طولها تجربةً مختلفة ومثيرة لاستكشافٍ جانبٍ مغاير من إسطنبول.
ونظرًا لأنّ طول الأسوار يمتد أكثر من 6 كيلومترات كما أسلفنا، فمن المستحسن أنْ تخصص يومين اثنين لاستكشافها والمشي فوقها أو حولها، خاصة أنه لا يوجد مسار محدد لذلك، فوفقًا للتغيرات التي طرأت في المناطق المحيطة بالسور، والانحرافات التي حدثت بفعل أعمال البناء وحركة المرور، فسيتغيّر مسارك بين الفينة والأخرى، لكن لا عليك، فالنظر للمدينة من ارتفاع سورها الشاهق يجعل من تجربتك مميزة لا تنمحى.
كما تجدر الإشارة إلى أنّ ثمّة سُمعة سيئة تحيط بالأسوار، مفادها أنّ الكثيرين من مدمني الكحول أو المشردين وعديمي المأوى يتخذون من السور ملجأً لهم، فيلازمونه صباح مساء، لذلك فقد يكون أكثر أمانًا في حال لم تقم بجولتك لوحدك، أو في حال قمت بها قبل حلول المساء ببضع ساعات. هنا سنذكر جزئين من أجزاء السور التي تستطيع استكشافها والعبور بالزمن من خلالها.
أسوار البحر
تحيط هذه الأسوار المدينة على جوانب بحر مرمرة وخليج القرن الذهبي، ويعود بناؤها لعام 439 للميلاد جنبًا إلى جنب مع الأسوار الأرضية. تشبه هذه الأسوار الجدران الثيودوسية لكنها أبسط قليلًا منها، إذ تتألف فقط من جدارٍ واحد وليس زوجٍ من الجدران، حيث لم يكن من المتوقع عند البيزنطيين أي تهديد قادم من جهة البحر، نظرًا لثقتهم العالية بالمدفعية البحرية التي كانوا يمتلكونها آنذاك.
عدا عن ذلك، فقد كانت تيارات البوسفور والرياح الجنوبية الغربية حارسًا منيعًا للمدينة، إذ منعت اقتراب السفن الحربية منها لفترة طويلة من الزمن، لذلك كانت الأسوار جهة البحر أقصر من تلك في الجهات البرية وأقل سُمكًا منها أيضًا.
إلّا أنه مع اشتداد الحملات الهجومية على المدينة، والتي كانت غالبة تسيّر من قبل البلدان العربية وتلتها كريت في وقتٍ لاحق، فبات من اللازم عند البيزنطيين تدعيم الأسوار البحرية بشكلٍ أكبر، فقاموا بتجديدها للمرة الأولى في بداية القرن الثامن للميلاد، تبعتها حملة إنشاء واسعة النطاق، وبذلك صمدت المدينة طويلًا ضدّ أيّ حملة بحرية قادمة.
قلعة الأبراج السبعة “ Yedikule“
ربما تكون أفضل طريقة لاستكشاف السور هي البدء من هذه القلعة العتيدة والتي تقع على الشريط الساحلي الممتد من منطقة “سراي بورنو” إلى منطقة “باكركوي”، وتم بناؤها ما بين الأعوام 413 و439 للميلاد بأمر من الإمبراطور تيودوسيوس الثاني.
تتكوّن القلعة من برجين عاليين بُنيا على السور، ومن الباب الذهبي الذي كان مخصّصًا لدخول الإمبراطور وسريته المنتصرة بعد عودتهم من المعارك، إضافةً للسور ذي الأبراج الثلاثة الذي أُنشئ بعد الفتح العثماني للمدينة.
أمّا الأبراج السبعة التي تُحيط بالقلعة فتحمل الأسماء برج بيلون الجنوبي، برج بيلون الشمالي، برج الكتابات، برج المدفعية، برج السلطان أحمد الثالث، برج الخزينة، وبرج الراية.
بعد الفتح العثماني أضحت القلعة تستخدم بمثابة سجن وغرفة إعدام للمحكومين، إذ لا يزال من الممكن العثور على كتاباتهم المنحوتة أو بقاياها بالأحرى على جدران القلعة. كما تمّ استخدامها في حفظ خزينة الدول وغنائم الحروب والغزوات، أما اليوم فيستخدم هذا الحصن كمتحف تُقام فيه الفعاليات الثقافية والحفلات الغنائية، كما يتبع إداريًا منذ العام 1968 لمديرية إسطنبول للمتاحف والحصون.
أسوار القرن الذهبي
أحاط هذا السور بخليج القرن الذهبي، الذي كان يشكّل آنذاك مركز حركة المرور البحرية ونقطة محورية رئيسية للتجارة، وبلغ طوله بداية إنشائه أكثر من 5600 مترٍ لكن في عام 1870 تعرّض للهدم فلم يتبقَ منه سوى أجزاء قليلة جدًا.