ترجمة وتحرير: نون بوست
في الثامن من أيار/ مايو، أكدت إدارة بايدن أنها منعت إرسال شحنة أسلحة كبيرة إلى الجيش الإسرائيلي، وكانت هذه أكبر خطوة اتخذتها الولايات المتحدة منذ عقود لكبح تصرفات “إسرائيل”. ويتعلق هذا القرار بشحنة من القنابل يبلغ وزنها 2000 رطل – وهي الأسلحة التي تتجنبها الولايات المتحدة بشكل عام في حرب المدن ــ والتي يعتقد مسؤولو البيت الأبيض أن “إسرائيل” ستستخدمها في عملية رفح في قطاع غزة – بينما لم يؤثر القرار على عمليات نقل الأسلحة الأخرى.
ومع ذلك، فإن استعداد الإدارة لاستخدام التدابير الكفيلة بتقييد سلوك “إسرائيل” ماديًا يعكس إحباطها المتزايد إزاء الحرب التي تخوضها “إسرائيل” منذ ما يقارب ثمانية أشهر في غزة.
لكن هذا الإعلان أكد أيضًا شيئا آخر: الانقسام الحزبي المتزايد داخل الولايات المتحدة بشأن “إسرائيل“، فلعدة أشهر، شعر بعض القادة الديمقراطيين في الكونغرس والعديد من الناخبين الديمقراطيين أن الإدارة كانت متسامحة للغاية مع سلوك “إسرائيل” في الحرب، وهو ما يعتقدون أنه أتاح دعمًا عسكريًا وماليًا وسياسيًا ساحقًا.
وعلى الجانب الآخر، تعرّض قرار بايدن بشأن القنابل لانتقادات شديدة من قبل العشرات من أعضاء الكونغرس الجمهوريين، الذين وصفوه بأنه “بيدق في يد حماس” و”صديق رهيب لإسرائيل”. وفي 19 أيار/مايو، ذهبت النائب الجمهورية إليز ستيفانيك، من نيويورك، إلى أبعد من ذلك، بالسفر إلى القدس حيث أدانت علنًا سياسة بايدن في اجتماع مع كتلة في الكنيست الإسرائيلي.
تفتخر واشنطن بتقاليدها المتمثلة في دعم الحزبين لـ”إسرائيل”، ولكن في الواقع الفجوة الحزبية آخذة في الاتساع منذ سنوات، فقد أصبح العديد من الناخبين الديمقراطيين، والأمريكيين الشباب بشكل عام، ينتقدون حرمان “إسرائيل” للفلسطينيين من حقوقهم الإنسانية وتقرير المصير الوطني منذ فترة طويلة.
وقد أدت السياسات الشعبوية وغير الليبرالية التي ينتهجها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحلفاؤه الثيوقراطيون في الائتلاف الحاكم إلى زيادة نفورهم. ومن ناحية أخرى، استغل الجمهوريون والعديد من المحافظين الدينيين دعم “إسرائيل” ــ بما في ذلك الدعم غير المقيد للحكومات الإسرائيلية اليمينية ــ باعتباره جزءًا من الإيمان، و اختبارًا سياسيًا على نحو متزايد.
لا تقتصر القراءة الحزبية المتزايدة للعلاقات الثنائية على الجانب الأمريكي فقط، فرغم الدعم القوي الذي قدمته إدارة بايدن لـ”إسرائيل” بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر وخلال معظم فترات الحرب – ورغم حقيقة أن أغلبية كبيرة من اليهود الأمريكيين صوّتوا تقليديا للحزب الديمقراطي – إلا أن الإسرائيليين يظهرون أنهم يفضلون دونالد ترامب على جو بايدن بفارق كبير. وخلافاً لما حدث في العقود الماضية، فإن غالبية الإسرائيليين يوافقون أيضاً على تحدي قادتهم لتفضيلات السياسة الأمريكية، وليس من الواضح ما إذا كان هؤلاء الإسرائيليون يشعرون بقلق كبير بشأن حدوث تمزق في العلاقات الأمريكية الإسرائيلية أو أن التحدي الإسرائيلي قد يعرّض يومًا ما المساعدات العسكرية الواسعة التي تعتمد عليها “إسرائيل” للخطر.
لم يظهر هذا الصدع المتزايد بين الإسرائيليين والأمريكيين مع الحرب الحالية في غزة، حيث تشير المسارات الاجتماعية والسياسية الأطول أمدا في كل من البلدين إلى أن “القيم المشتركة” الشهيرة التي عززت العلاقة لعقود من الزمن كانت تحت الضغط بالفعل. لكن الحرب أبرزت هذا التوتر والسياسات الحزبية التي تحركه بشكل واضح. وهذا لا يعني أن البلدين يسيران على مسار تصادمي، لكنه يثير تساؤلات مهمة حول طبيعة التحالف في السنوات المقبلة.
الصداقة أولاً
لفهم أهمية الخلاف الحالي، من المهم أن نتذكر أن التحالف الأمريكي الإسرائيلي قد صمد في وجه العديد من الخلافات على مدى العقود الماضية. ففي الماضي، كان كل جانب يفترض أن العلاقة الأساسية قوية بما يكفي لاستيعاب التوترات أو حتى الأزمات.
إن الإدارة الأمريكية التي تعارض السلوك الإسرائيلي أو تطالب بتنازلات كبيرة قد تثير الجدل، لكن استطلاعات الرأي، حيثما كانت متاحة، أشارت إلى أن الإسرائيليين عمومًا أذعنوا للأمريكيين، بغض النظر عمن كان في البيت الأبيض. (ما لم يُنص على خلاف ذلك، فإن البيانات التاريخية المذكورة هنا تأتي من مصدر بيانات “إسرائيل”، الذي يستضيفه المعهد الإسرائيلي للديمقراطية).
لنأخذ إدارة كارتر على سبيل المثال، فقد أصبح الرئيس جيمي كارتر في سنة 1977، في خرق لعقود من السياسة الأمريكية، أول رئيس أمريكي يتحدث علنًا عن الحاجة إلى وطن فلسطيني في ملاحظة مرتجلة في اجتماع في قاعة مدينة ماساتشوستس، وكانت الفكرة لعنة على نطاق واسع بالنسبة لليهود الإسرائيليين في ذلك الوقت.
وفي استطلاع أجري قبل سنتين، أيّد 70 بالمئة منهم مقاطعة منظمة التحرير الفلسطينية في الأمم المتحدة، حتى أن كبير مستشاري كارتر للسياسة الداخلية الذي شارك بشكل كبير في سياسة الإدارة في الشرق الأوسط، ستيوارت آيزنستات، تفاجأ. ويتذكر في إحدى المقابلات: “لقد كدت أن أسقط من مقعدي”.
مع ذلك، استضاف كارتر مفاوضات كامب ديفيد بين مصر و”إسرائيل” في سنة 1978 حيث تملق “إسرائيل” لإجراء انسحاب غير شعبي من أراضي سيناء، التي احتلتها بعد الحرب العربية الإسرائيلية سنة 1967، ووضع القضية الفلسطينية بشكل مباشر على جدول أعمال المفاوضات.
وعندما سُئل اليهود الإسرائيليون في أيلول/سبتمبر من ذلك العام عن مدى ثقتهم في كارتر، قال ما يقارب ثلثيهم إنهم يثقون به إلى حد ما أو إلى حد كبير. وظل هذا العدد مرتفعًا، بل وارتفع قليلاً، في أوائل سنة 1980.
خلال الأشهر القليلة الأولى للرئيس رونالد ريغان في الرئاسة، قالت أغلبية كبيرة مماثلة، تتراوح بين 63 و70 بالمائة من اليهود الإسرائيليين، إنهم يثقون به فيما يتعلق بـ”إسرائيل”. (لسوء الحظ بالنسبة للباحثين، كانت الدراسات الاستقصائية المحدودة للمواطنين العرب في “إسرائيل” في ذلك الوقت منفصلة عن الدراسات الاستقصائية لليهود الإسرائيليين، وعادة ما كانت تطرح أسئلة مختلفة).
حافظ الرئيس بيل كلينتون أيضًا على دعم واسع النطاق في “إسرائيل”، حتى عندما كان يدعو إلى سياسات مثيرة للجدل. وفي سنة 1994، بعد مرور عام على توقيع اتفاقيات أوسلو، قال 65 بالمئة من الإسرائيليين إنهم راضون إلى حد ما أو جدًا عن كلينتون، وفي العام التالي، عاشت “إسرائيل” موجة من التفجيرات الانتحارية واغتيال رئيس وزرائها، وكان هناك ما يكفي من القلق بشأن الاتفاقات التي دفعت الإسرائيليين إلى انتخاب نتنياهو؛ ومع ذلك، ظل دعم كلينتون قائما.
وفي صيف سنة 2000، قبل أيّام من استضافة كلينتون لقمة كامب ديفيد بين رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك ورئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات، وجدت الدراسات الاستقصائية التي أجريتها كمحلل لستان جرينبيرج، الذي كان يقدم المشورة لباراك، أن نفس الجزء تقريبًا، أي ثلثي اليهود الإسرائيليين، أعطوا كلينتون تقييمًا إيجابيًا، وكان هذا على الرغم من حقيقة أن الإسرائيليين كانوا يعلمون أن الولايات المتحدة ستضغط من أجل تقديم تنازلات إسرائيلية كبيرة ومثيرة للانقسام الشديد لصالح الفلسطينيين. وحتى بعد انهيار المحادثات واندلاع الانتفاضة الثانية، ظل كلينتون يحظى بشعبية كبيرة.
علاوة على ذلك، فإن الزعيم الإسرائيلي الذي يتحدى رئيسًا أمريكيًا بوقاحة شديدة قد يواجه عواقب سياسية خطيرة في الداخل. ففي أوائل سنة 1992، هدّد وزير الخارجية الأمريكي جيمس بيكر بحجب ضمانات القروض الأمريكية لردع الزعيم الإسرائيلي اليميني إسحاق شامير عن استخدام الأموال لبناء المستوطنات. ورفضت حكومة شامير الشروط الأمريكية، وورد أن هذا الصدع ساهم على نطاق واسع في خسارة شامير في الانتخابات الإسرائيلية سنة 1992.
وقد بشّر خليفته، إسحاق رابين، بحكومة ذات توجّهات يسارية وافقت بسرعة على وقف التوسع الاستيطاني في مناطق معينة وكسرت الجمود مع الولايات المتحدة (على الرغم من استمرار نمو المستوطنات في نهاية المطاف).
لكن من غير الواضح على الإطلاق ما إذا كانت هذه الأنماط صحيحة اليوم. ورغم دعم بايدن الساحق لـ “إسرائيل” بعد هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر وطوال فترة الحرب، إلا أن الإسرائيليين لم يظهروا سوى استحسان فاتر.
وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2023 وكانون الثاني/يناير 2024، ذكّرت دراسات أجراها المعهد الإسرائيلي للديمقراطية المشاركين الإسرائيليين بأن بايدن قدم دعمًا لا ينضب، ثم سألتهم عما إذا كان ينبغي لـ “إسرائيل” تلبية بعض المطالب الأمريكية. في المقابل، وفي كلا الاستطلاعين، قال عدد أكبر (أغلبية) من الإسرائيليين إنه على “إسرائيل” أن تتخذ قراراتها بنفسها بدلاً من التنسيق مع واشنطن.
وفي منتصف آذار/مارس، وجد استطلاع للرأي أجرته شبكة “نيوز 12” الإسرائيلية أن الإسرائيليين يفضلون ترامب على بايدن في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لسنة 2024 بفارق 14 نقطة: 44 بالمئة لترامب، مقابل 30 بالمئة فقط لبايدن، وكان هذا قبل فترة طويلة من إعلان الإدارة قرارها حجب شحنة الأسلحة وقبل أن تقول الإدارة إنها ستفرض عقوبات على عدد صغير من المستوطنين العنيفين في الضفة الغربية. وفي شهر أيار/مايو، وجد معهد “إسرائيل” للديمقراطية تفضيلًا مماثلًا لصالح ترامب على بايدن، وخاصة بين اليهود الإسرائيليين.
وكما هو الحال مع المواقف الأمريكية تجاه القيادة الإسرائيلية، فإن المواقف الإسرائيلية تجاه الإدارات الأمريكية تتوافق أيضًا بقوة مع الانتماء السياسي. ففي استطلاع نيوز 12، قال ما يقارب ثلاثة أرباع أولئك الذين يدعمون ائتلاف نتنياهو إنهم يفضلون ترامب، في حين أن 55 بالمئة من هؤلاء الذين يدعمون الأحزاب المعارضة لنتنياهو يفضلون بايدن. وفي الواقع، يعكس هذا الانقسام الحزبي ذروة القوى الاجتماعية والسياسية التي كانت قائمة في كل من “إسرائيل” والولايات المتحدة لسنوات.
السخط الديمقراطي
في الأشهر التي سبقت إعلان بايدن عن تأخير شحنة الأسلحة، كان استياء الديمقراطيين من الحرب الإسرائيلية في غزة يتصاعد، وكان الأعضاء التقدميون في الكونغرس يضغطون على إدارة بايدن لاتخاذ موقف أكثر صرامة ضد سياسات نتنياهو. وفي شهر آذار/مارس الماضي، كسر زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ تشاك شومر – وهو ديمقراطي وسطي ومؤيد معروف لـ “إسرائيل” – سابقة من خلال انتقاد نتنياهو علنًا والدعوة إلى إجراء انتخابات إسرائيلية مبكرة.
وكانت أجزاء من الناخبين الديمقراطيين، وخاصة الشباب الأمريكيين وأولئك الذين ينتمون إلى اليسار، ينتقدون الحرب بصوت عالٍ مثل السياسيين على أقل تقدير. والجدير بالذكر أنه قبل أسابيع من إعلان بايدن عن حجب القنابل التي تزن 2000 رطل، وجد استطلاع أجراه مركز الأبحاث الاقتصادية والسياسية أن أغلبية كبيرة من الديمقراطيين، وأغلبية ضئيلة من جميع الأمريكيين، يؤيدون وقف شحنات الأسلحة إلى “إسرائيل”.
لكن هذه التطورات تعكس أيضًا اتجاهات طويلة المدى في الرأي الأمريكي بشأن “إسرائيل”. ومن المهم أن نلاحظ أنه، كما كان الحال في العقود الماضية، فإن أغلبية كبيرة من الأمريكيين تدعم “إسرائيل”، وقد استشهد نتنياهو نفسه باستطلاع أجرته هارفارد كابس/هاريس في شهر آذار/مارس، الذي وجد أن 82 بالمئة من البالغين الأمريكيين يدعمون “إسرائيل” ضد حماس في الحرب الحالية.
وفي الشهر التالي، وجد استطلاع أجرته جامعة هارفارد كابس/هاريس أن 52 بالمئة من الأمريكيين أعطوا “إسرائيل” تصنيفًا “إيجابيًا” أو “إيجابيًا جدًا”، مقارنة بـ 16 بالمئة فقط للسلطة الفلسطينية و14 بالمئة لحماس (وهو رقم ربما يكون مرتفعًا بشكل مدهش، على الرغم من أن الجماعة احتلت المرتبة الأخيرة من حيث الأفضلية على قائمة تضم 18 دولة أو جماعة).
حتى بين طلاب الكليات والجامعات، الذين حظيت احتجاجاتهم المؤيدة للفلسطينيين بتغطية واسعة النطاق، فإن الآراء حول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني أكثر قياسًا بكثير مما يتم تصويره في وسائل الإعلام في كثير من الأحيان. فعلى سبيل المثال، وجدت دراسة استقصائية أجريت في أوائل شهر أيار/ مايو لصالح موقع “أكسيوس” أن 83 بالمئة -الأغلبية الساحقة- من طلاب الكليات والجامعات الأمريكية يعتقدون أن لـ “إسرائيل” الحق في الوجود.
مع ذلك، أصبح الأمريكيون ينتقدون على نحو متزايد السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين. ووفقًا لاستطلاعات غالوب، انخفض الجزء الإجمالي من الأمريكيين الذين يقفون إلى جانب “إسرائيل” ضد الفلسطينيين من 64 بالمئة في سنة 2018 إلى 51 بالمئة فقط في مطلع سنة 2024.
وقد كشفت استطلاعات مركز بيو أيضًا عن فجوة حزبيّة متزايدة بشأن هذه المسألة. ففي سنة 2001، انحاز 50 بالمئة فقط من الجمهوريين إلى جانب “إسرائيل”. وبحلول سنة 2018، ارتفع العدد إلى 79 بالمئة. وعلى العكس من ذلك، تقلّصت نسبة أولئك الذين اختاروا “إسرائيل” بين الديمقراطيين من 38 بالمئة في سنة 2001 إلى 27 بالمئة فقط في سنة 2018. ويبدو أن هذا الاختلاف قد تعزّز في السنوات التي تلت ذلك.
وفي الوقت نفسه، برزت أيضاً فجوة كبيرة بين الأجيال في وجهات النظر بشأن “إسرائيل”. ووجد استطلاع أجراه مركز بيو في شباط/فبراير 2024 أن 78 بالمئة من الأمريكيين الأكبر سنا (أكثر من 65 سنة) يرون أن أسباب خوض “إسرائيل” للحرب صحيحة، في حين أن 38 بالمئة فقط من الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 سنة يعتقدون ذلك، أي بفارق 40 نقطة.
وعلى الرغم من أن الطلاب في استطلاع أكسيوس وافقوا بأغلبية ساحقة على حق “إسرائيل” في الوجود، فإن ما يقارب نصفهم – 45 بالمئة – أيدوا الاحتجاجات في الحرم الجامعي “التي تسعى إلى مقاطعة إسرائيل والاحتجاج ضدها”، في حين عارضها 24 بالمئة فقط. (وكان الباقون محايدين).
وجد استطلاع هارفارد كابس/ هاريس الذي أجري في شهر نيسان/ أبريل أن المشاركين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 سنة انقسموا بالتساوي تقريبًا بين أولئك الذين يعتقدون أن “إسرائيل” هي المسؤولة في الغالب عن “الأزمة في غزة” – 49 بالمئة – وأولئك الذين حمّلوا حماس المسؤولية في الغالب – 51 بالمئة. وعلى النقيض من ذلك، من بين الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 65 سنة، ألقى 14 بالمئة فقط اللوم على “إسرائيل”.
وبغض النظر عن الكيفية التي يُفسَّر بها سلوك الشباب الأمريكيين خلال الحرب الحالية، فلا ينبغي لهذه الاتجاهات أن تكون مفاجئة: ففي أغلب دول العالم الغربي، يميل الشباب إلى الانحراف عن الليبرالية والتقدمية. وفي الدول الغربية، تميل السياسات الليبرالية أو ذات الميول اليسارية إلى دعم الأشخاص المضطهدين، وهو النمط الذي ساعد في تأجيج الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين من قبل الشباب الأمريكيين.
ومن المؤكد أن التفضيلات السياسية للشباب ستتطور بمرور الوقت، لكن الاتجاهات راسخة بما يكفي للإشارة إلى الاتجاه المستقبلي للمواقف الديمقراطية بشأن “إسرائيل”. ومن الجدير بالذكر أن الميل التقدمي للشباب في الغرب يبدو عكس الاتجاه الذي يميل إليه الشباب الإسرائيلي.
بنادق بيبي الشابة
على امتداد 15 سنة على الأقل، أظهرت الدراسات المتعمقة اتجاهات يمينية ثابتة بين الشباب اليهود الإسرائيليين. وهناك تفسيران فوريان لهذه الظاهرة. إحداهما هي التركيبة السكانية: فقد أصبح عدد الشباب اليهود الإسرائيليين المتدينين أكبر مما كان عليه الحال في العقود السابقة لأن الأسر المتدينة تميل إلى إنجاب العديد من الأطفال، واليهود المتدينون أكثر يمينية من اليهود الأقل تديناً في “إسرائيل”.
والثاني هو البيئة السياسية السائدة في “إسرائيل” خلال العقدين الماضيين: لقد نشأ الشباب الإسرائيلي اليوم في عهد نتنياهو اليميني القومي. إنهم لا يحملون أي ذكريات عن أي عملية سلام، ويتمتعون بخبرة كبيرة في الحرب، حيث نشأوا وسط جولات عديدة من القتال ضد حماس، والهجمات الصاروخية المتكررة، وموجات من العنف المرتبط بالصراع.
وفي الواقع، تزامن الميل اليميني للناخبين الإسرائيليين الشباب بشكل وثيق مع جهود نتنياهو لجعل العلاقة الأمريكية الإسرائيلية أكثر حزبية. وبعد وقت قصير من عودة نتنياهو إلى السلطة في سنة 2009، كان لدى عدد كبير من الإسرائيليين وجهات نظر إيجابية تجاه الرئيس باراك أوباما، أكثر من أولئك الذين لديهم وجهات نظر سلبية.
ولكن نتنياهو ووكلاءه بدأوا مهاجمة أوباما بشكل منهجي – وهو ما يدل على اتخاذه مواقف كانت قريبة من الإجماع السياسي في ذلك الوقت، مثل دعم الرئيس في سنة 2011 لحل الدولتين على أساس حدود سنة 1967، وخطوط هدنة سنة 1949، مع التعديلات. وعادت اتهامات نتنياهو إلى الولايات المتحدة، حيث اتهم ميت رومني، المرشح الجمهوري للرئاسة في سنة 2012، أوباما بـ”التضحية بإسرائيل”.
وفي سنة 2015، خاض نتنياهو مقامرة أكبر: كسر أحد المحرمات طويلة الأمد، وألقى خطابًا في الكونغرس بناءً على دعوة أحادية من المشرعين الجمهوريين، حيث شن هجومًا واسع النطاق على جهود إدارة أوباما لتأمين اتفاق مع إيران لكبح جماح برنامجها النووي. لماذا لعب نتنياهو لعبة الروليت مع أهم حليف لإسرائيل؟ كان يواجه محاولة إعادة انتخابه في ذلك الوقت، وراهن على أن حنكته السياسية العالمية، حتى لو كان ذلك يعني تحدي رئيس الولايات المتحدة بشكل مباشر (وربما بشكل خاص)، من شأنها أن تساعد حملته بالفعل.
كان نتنياهو في الغالب على حق. فمع اتجاه المجتمع الإسرائيلي بقوة نحو اليمين بحلول منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فاز في الانتخابات الإسرائيلية بسهولة (على الرغم من إمكانية وجود تفسيرات عديدة)، ولم تثن إهانة أوباما عن توقيعه على ما كان في ذلك الوقت أحد أكبر اتفاقيات حزم المساعدات الأمريكية عبر التاريخ: 38 مليار دولار لإسرائيل على مدى عشر سنوات.
وخلال إدارة ترامب، صور نتنياهو ترامب على أنه أفضل صديق لـ “إسرائيل”. لقد عكس مصطلح “المؤيد لإسرائيل” منذ فترة طويلة أجندة يمينية، وأصبح حاليا يعني تبني سياسات ترامب، والتي تشمل إذلال الفلسطينيين، واقتراح خطط لـ “إسرائيل” لضم أجزاء من الضفة الغربية، والاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان، ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس. وبما أن غالبية اليهود الإسرائيليين في هذه المرحلة تم تعريفهم باليمين السياسي، فليس من المستغرب أن ينظر إليه الإسرائيليون بشكل إيجابي.
على النقيض من ذلك، حتى قبل دخوله البيت الأبيض، فإن سجل بايدن طوال حياته باعتباره ديمقراطيًا مخلصًا مؤيدًا لـ “إسرائيل”، ترك العديد من الإسرائيليين غير مرتاحين. ففي تشرين الأول/ أكتوبر 2020، قبل الانتخابات الأمريكية في تلك السنة، وجد استطلاع أجراه المعهد الإسرائيلي للديمقراطية أن 63 بالمئة من الإسرائيليين يفضلون إعادة انتخاب ترامب، بينما فضل 17 بالمئة فقط بايدن. وبعد فوز بايدن، قالت نسبة أكبر من الإسرائيليين – 73 بالمئة – إن بايدن من المرجح أن يكون أسوأ إلى حد ما أو بكثير من ترامب بالنسبة لـ “إسرائيل”، وذلك وفقًا لاستطلاع آخر للمعهد الإسرائيلي للديمقراطية.
وتوضّح هذه الأرقام أن التوترات الحالية بشأن الحرب في غزة ليست فقط هي التي تساهم في انخفاض مستويات الدعم لبايدن في “إسرائيل”، وإنما أيضًا التغييرات الأعمق في صفوف الناخبين الإسرائيليين. علاوة على ذلك، بعد الحرب، من الممكن أن تنمو الأغلبية اليمينية في “إسرائيل” بشكل أكبر، حتى مع تزايد استياء الناخبين الأمريكيين من السلوك الإسرائيلي.
التوازن المفقود
إن الرأي العام يتقلب، ولا ينبغي لاستطلاعات الرأي أن تقود السياسة أبدا. وفي مقابلة، لاحظ السفير الإسرائيلي السابق لدى الولايات المتحدة، مايكل أورين، أن الرأي الإسرائيلي حول الولايات المتحدة ليس له أهمية كبيرة بالنسبة لصانعي السياسة الأمريكيين (على الرغم من أنه قد يكون له تأثير غير مباشر لأنه يؤثر على الرأي اليهودي الأمريكي).
لكن في الماضي، ساعدت المواقف الإسرائيلية الإيجابية عمومًا تجاه الرئيس الأمريكي أحيانًا في منح الرئيس سلطة تعزيز السياسات في “إسرائيل” التي تعكس المصالح الأمريكية. وأشار آيزنستات إلى أن فريق كارتر قرأ استطلاعات الرأي الإسرائيلية عن كثب لمعرفة ما إذا كان الإسرائيليون يدعمون جهود الرئيس للتوصل إلى سلام إسرائيلي-مصري. ويتذكر آيزنستات أن الإسرائيليين فعلوا ذلك بشكل عام، وقد علم فريقه بالمخاوف الأمنية المحددة للجمهور الإسرائيلي والتي يجب تلبيتها أثناء العمل على التفاصيل.
على النقيض من ذلك، في نيسان/ أبريل 2024، بعد أن جمعت الولايات المتحدة تحالفًا دوليًا يضم حتى دولًا عربية لتقديم دعم عسكري استثنائي لـ “إسرائيل”، باستخدام دفاعاتها الجوية المشتركة لإحباط هجوم صاروخي إيراني ضخم، بدا أن الإسرائيليين لم يعدوا أكثر تفضيلاً لإدارة بايدن من ذي قبل.
وفي أعقاب الهجوم، ذكّرت مبادرة “إسرائيل” للديمقراطية الإسرائيليين بهذا التحالف الفعال للغاية وسألتهم عما إذا كانوا “سيوافقون الآن من حيث المبدأ على إنشاء دولة فلسطينية في المستقبل، مقابل اتفاق دفاع إقليمي دائم”. ولم تتزحزح الأرقام الإسرائيلية: فقد رفضت الفكرة أغلبية بلغت 55 بالمئة، بينما وافق عليها 34 بالمئة فقط. وكان المعدل أقل في صفوف اليهود الإسرائيليين: 26 بالمئة فقط وافقوا على ذلك.
مع ذلك، يتابع الإسرائيليون أيضًا بقلق الانقسام الحزبي المتزايد في الرأي الأمريكي تجاه “إسرائيل”. وهم يعلمون جيدًا أن بايدن يراقب استطلاعات الرأي التي تظهر كيف يُنظر إلى مواقفه بشأن “إسرائيل” والحرب بين الدوائر الانتخابية الحاسمة في الجمهور الأمريكي خلال حملة إعادة انتخابه الصعبة ضد ترامب.
وبشكل غير رسمي، يعتقد العديد من الإسرائيليين أن بايدن استسلم لضغوط اليسار، وأن طلاب الجامعات الأمريكية الذين كانوا يحتجون على الحرب في غزة تعرضوا لغسيل أدمغة، وأن معاداة السامية ارتفعت إلى مستويات خطيرة.
وتجدر الإشارة إلى أن استمرار الاختلاف في الرأي العام الأمريكي والإسرائيلي ليس النتيجة الوحيدة المحتملة على المدى القريب للوضع الحالي. وإذا نجح ترامب في هزيمة بايدن، واستمر في السياسات التي تحابي اليمين الإسرائيلي، فقد يتحول الخلاف الحالي بين البلدين، على المستوى الحكومي على الأقل، إلى اصطفاف يميني شعبوي. ولكن يبدو من المرجح أن تستمر التحولات التي حدثت بالفعل بين الناخبين الأصغر سنا في كلا البلدين في السنوات المقبلة، مما يشكل تحديا كبيرا للحليفين في سعيهما للاتفاق على أجندة سياسية مشتركة.
لقد كان أساس العلاقة بين الولايات المتحدة و”إسرائيل” يرتكز ذات يوم على المصالح المشتركة، ولكن على حسب قيم ثمين للغاية. ومن حيث المصالح، فقد انتهت الجغرافيا السياسية للحرب الباردة منذ فترة طويلة. لكن لا تزال لدى البلدين مخاوف إقليمية متداخلة.
ولكن تظل مسألة القيم المشتركة أكثر تعقيدا: فهل يستمر البلدان في تقاسم الالتزام بالديمقراطية، وخاصة الديمقراطية الليبرالية؟ لقد بدأت إسرائيل تبتعد عن تلك الهوية، وسوف تقرر الولايات المتحدة طريقها بنفسها في تشرين الثاني/ نوفمبر.
ولا يُعرف الكثير عن الوجهة التي سيتجه إليها كلا البلدين، خاصة في ظل الحرب المستمرة والاضطرابات في “إسرائيل”. ولكن إذا تباعدت القيم الأساسية للولايات المتحدة و”إسرائيل” بشكل أكبر، فإن الجيل القادم من القادة في كلا البلدين قد لا ينظرون إلى بعضهم البعض على أنهم روح متقاربة. وفي هذه الحالة، يمكن للمصالح الاستراتيجية المشتركة أن تضمن بقاء الدول حليفة، لكنها قد تفقد “العلاقة الخاصة” التي اعتمدت عليها في الماضي.
المصدر: فورين أفيرز