أمرت محكمة العدل الدولية في لاهاي، أمس الجمعة 24 مايو/أيار، دولة الاحتلال بوقف هجومها العسكري على رفح في جنوب قطاع غزة بشكل فوري، مشددة على ضرورة فتح المعبر وإدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع، في صفعة جديدة تُضاف إلى سلسلة الصفعات التي يتلقاها الكيان المحتل منذ بداية حرب غزة.
واستند رئيس محكمة العدل الدولية نواف سلام، في قراره خلال جلسة النطق بالحكم، إلى أن الوضع الحاليّ ينطوي على مخاطر جديدة بإلحاق “أضرار بحقوق الناس في غزة لا يمكن إصلاحها”، وأن الظروف المعيشية لسكان قطاع غزة تدهورت بشكل ملحوظ منذ قرار 28 مارس/آذار الماضي الذي أمر “إسرائيل” باتخاذ إجراءات تمنع أعمال الإبادة.
المحكمة شددت في قراراتها على تنفيذ الأوامر الواردة في قراري يناير/كانون الثاني ومارس/آذار الماضيين، داعية في الوقت نفسه إلى إطلاق سراح الأسرى فورًا ودون شروط، مانحة الكيان المحتل مهلة زمنية لا تتخطى الشهر من أجل تقديم تقرير بشأن الخطوات التي يتخذها لتنفيذ الإجراءات الاحترازية المطلوبة.
وتأتي تلك القرارات استجابة للطلب الذي قدمته جنوب إفريقيا للمحكمة في 10 من مايو/آيار الحاليّ لإصدار أمر عاجل يقضي باتخاذ تدابير إضافية لحماية الفلسطينيين في غزة، وذلك بعد إصرار الاحتلال على شن عملية برية في رفح، وتعريض حياة أكثر من مليون ونصف إنسان للخطر.
القرار رغم أنه لم يلبِ بعد طموحات جنوب إفريقيا ولا الفلسطينيين، من حيث الانسحاب الكامل من كل القطاع، أو امتلاك الأدوات والقوة الضاغطة لإرغام “إسرائيل” على الالتزام به، قوبل بترحيب كبير من جانب معظم الأوساط الداعمة للقضية الفلسطينية، التي وصفته بـ”التاريخي”.. فلم الحفاوة بهذا القرار تحديدًا؟ وما تأثيره المحتمل على المشهد الفلسطيني برمته؟
قرار استثنائي.. لماذا؟
يعد قرار العدل الدولية الأخير استثنائيًا بكل المقاييس، سواء من حيث التوقيت أم المضمون، وهو ما أثار هذه الثنائية المتلازمة، احتفاء عربي فلسطيني في مقابل تنديد ومعارضة إسرائيلية.
أولًا: من حيث التوقيت.. يأتي هذا القرار بالتزامن مع تحركات دولية أخرى ضد الكيان المحتل وقياداته، أبرزها:
– طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم أحمد خان، استصدار مذكرة اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزيره يوآف غالانت، بسبب مسؤوليتهما الجنائية عن ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة، وهي المرة الأولى التي تفكر فيها المحكمة الدولية في إصدار أوامر اعتقال بحق قادة إسرائيليين.
– اعتراف كل من أيرلندا وإسبانيا والنرويج بشكل متزامن بدولة فلسطين، على أن يدخل القرار رسميًا حيز التنفيذ في 28 مايو/أيار الحاليّ، وسط توقعات بتمدد تلك الموجة لتشمل دولًا أخرى داخل القارة الأوروبية المعروف عنها دعمها المطلق للكيان المحتل لسنوات طويلة.
– يتزامن هذا القرار مع تصاعد الزخم الدولي وميل الرأي العام العالمي لدعم حقوق الشعب الفلسطيني، والتنديد بجرائم الكيان المحتل، وهو ما يعطي القرار ثقلًا دوليًا يسمح له بفرض معطيات مغايرة في التعاطي معه، مقارنة بما حدث مع قرارات دولية سابقة كانت تفتقد لهذا الزخم.
ثانيًا: من حيث المضمون.. وذلك من خلال بعض النقاط:
– القرار هو الأول من نوعه الذي تأمر فيه محكمة العدل الدولية “إسرائيل” بتعليق عملياتها العسكرية في رفح.
– يكتسب القرار ثقلًا دوليًا من خلال كونه نهائيًا وملزمًا وغير قابل للطعن عليه من الكيان المحتل سواء بالنقض أم الاستئناف.
– كذلك الولايات المتحدة التي استخدمت ورقة “حق النقض” في عرقلة أي تحركات دولية ضد الحليف الإسرائيلي منذ الحرب، تفتقد اليوم استخدام هذا السلاح أمام قرارات العدل الدولية، ما يزيد من الوضعية المتأزمة للكيان المحتل.
– القرار يضع حلفاء “إسرائيل” من الأمريكان والأوروبيين بحرج كبير في حال الاعتراض على تلك القرارات الصادرة عن المؤسسة الدولية التابعة للأمم المتحدة، وهو المأزق الذي يضغط بطبيعة الحال على حكومات تلك الدول شعبيًا وسياسيًا.
– يفضح هذا القرار الصادر عن المحكمة المكونة من 15 قاضيًا من عدة دول، إجرام “إسرائيل”، الدولة التي كانت تسوق لنفسها على أنها الكيان الديمقراطي الداعم للمبادئ الحقوقية والإنسانية والنموذج الحضاري الوحيد في الشرق الأوسط، الأمر الذي يطيح بعقود طويلة بذلت فيها الصهيونية العالمية أموالًا وجهودًا مضنية للترويج لتلك الصورة المزيفة.
تكريس عزلة “إسرائيل”
رغم أهمية وثقل المحكمة الجنائية الدولية فإن القرارات الصادرة عنها تفتقد نسبيًا إلى التأثير المطلوب، كونها كيانًا مستقلًا غير أممي، هذا بخلاف سلطتها الممتدة على الدول المنضمة إليها، وهو ما يفسر الهجوم الإسرائيلي والأمريكي عليها بين الحين والآخر بصفتها جهة غير مختصة، لكن الوضع يختلف كثيرًا مع العدل الدولية المنضوية تحت لواء الأمم المتحدة.
وبعد ساعات قليلة من إصدار العدل الدولية قراراتها كشف مكتب الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، أنه سيحيل تلك القرارات بشأن وقف العملية البرية الإسرائيلية في رفح وفتح المعبر وإدخال المساعدات إلى مجلس الأمن، الأمر الذي سيزيد من حجم الضغط على الكيان وحليفه الأمريكي أمام المنظمة الدولية.
أما عن الموقف الأوروبي فمن المتوقع أن يشهد تعاطيًا مرنًا مع تلك القرارات الأخيرة، خاصة أن بعض الدول وعلى رأسها فرنسا وألمانيا، كانت قد أعلنت في بيانات رسمية لها التزامها باحترام أي قرارات تصدرها العدل الدولية، ما يرجح أن تدعم الغالبية داخل مجلس الأمن قرار وقف العملية العسكرية في رفح فورًا.
هذا التأييد الدولي لحقوق الشعب الفلسطيني وحقه في الحياة، والإجماع العالمي النسبي على عنصرية الاحتلال وإجرام قادته، سيزيد بطبيعة الحال من رقعة العزلة الدولية التي تواجهها دولة “إسرائيل” المحتلة، التي تتسع يومًا تلو الآخر في مقابل موجة الدعم لغزة ونضالها دفاعًا عن الأرض والعرض، التي تجاوزت الأروقة السياسية الرسمية إلى الشوارع والميادين والجامعات والنقابات ومؤسسات المجتمع المدني، في انقلاب مزاجي عالمي لم تعرفه القضية الفلسطينية على مر تاريخها.
رفض بالإجماع وتصعيد متوقع
كشف القرار الصادر عن المحكمة الدولية والصادم لـ”إسرائيل”، عن العنصرية التي تهيمن على صناع القرار السياسي في تل أبيب، حكومة وجيشًا وأحزابًا سياسية، متطرفون ومحافظون ومعارضة، حيث الرفض بالإجماع والإصرار على مواصلة العملية البرية في رفح، رغم معارضة بعض الساسة لتلك العملية في السابق.
فبالتزامن مع إصدار القرار شن الطيران الإسرائيلي سلسلة غارات عنيفة على مناطق متفرقة في قطاع غزة خاصة في رفح، فيما خرجت التصريحات لتعلن رفضها وتنديدها بالقرار والمحكمة، فبينما سارع نتنياهو إلى إجراء مشاورات أمنية عاجلة، للتباحث في الإجراءات الممكن اتخاذها للالتفاف على قرار المحكمة، قال وزير المالية بتسلئيل سموتريتش إن “إسرائيل” في حالة حرب من أجل وجودها وأن من يطالبها بوقف الحرب يطالبها بإنهاء وجودها، “ولن نوافق على ذلك”.
كما هاجم وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير، المحكمة في لاهاي، وقال إن الرد على هذا القرار لا بد أن يكون من خلال “احتلال رفح، وزيادة الضغط العسكري حتى هزيمة حماس، وتحقيق النصر الكامل في الحرب” على حد تعبيره.
حتى عضو مجلس الحرب ورئيس “المعسكر الوطني” بيني غانتس – الذي كان من المتحفظين سابقًا على اجتياح غزة بريًا، والمستبعد بأمر نتنياهو من المشاورات العاجلة للرد على قرار المحكمة – تحدث هاتفيًا مع وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، وطلب دعم الإدارة الأمريكية لوقف هذا القرار، مضيفًا في تغريدة على منصة “إكس”: “إسرائيل ملتزمة باستمرار القتال حتى استعادة مختطفيها وأمن مواطنيها في كل مكان، وفي رفح”.
ودخلت المعارضة هي الأخرى على خط الرفض لقرار المحكمة، حيث قال زعيم المعارضة يائير لبيد، إن عدم ربط محكمة العدل في حكمها بين وقف القتال في رفح وعودة المختطفين “انهيار أخلاقي وكارثة أخلاقية” بحسب تعبيره، فيما وصف رئيس حزب “إسرائيل بيتنا” أفيغدور ليبرمان، القرار بأنه “يثبت أن مؤسسات الأمم المتحدة وكذلك المحكمة الجنائية أصبحت مساعدة للإرهابيين في جميع أنحاء العالم، قرار الحكومة الإسرائيلية بالمثول أمام المحكمة الدولية كان خطأ جسيمًا”.
بات يقينًا أن رفض قرارات المحكمة والاستمرار في عملية رفح ومواصلة الحرب إلى ما لانهاية، هو إجماع من كل الأطياف السياسية الإسرائيلية، حتى تلك التي كانت رافضة في البداية لتلك العملية، وتندد بإستراتيجية نتنياهو في توسيع دائرة الحرب وعرقلة أي صفقة تقود لتبادل الأسرى ووقف القتال.
ملف الأسرى.. سقوط أخلاقي جديد
في الوقت الذي تضمن فيه قرار العدل الدولية ضرورة إطلاق سراح المحتجزين لدى المقاومة، وهو ما يطالب به ساسة الكيان ونخبته، فإن المسؤولين الإسرائيليين لم يلتفتوا لهذا الأمر، حيث ركز الجميع على رفض فكرة إدانة الكيان ومطالبته بوقف عملياته في رفح، في مشهد يعكس حالة من الازدواجية إزاء التعامل مع ملف الأسرى.
فها هو غانتس وليبرمان ولبيد الذين طالما غازلوا الشارع الإسرائيلي بالتصدي لسياسات نتنياهو والعمل من أجل التهدئة بما يسمح بإطلاق سراح المحتجزين، بل شارك غانتس بنفسه في العديد من التظاهرات التي نظمتها عائلات الأسرى، ها هم اليوم يتجاهلون هذا الملف ويغضون الطرف عن صراخ ذوي المحتجزين من أجل الدفاع عن سمعة “إسرائيل” والتشديد على تفوقها العكسري وانتصارها في تلك الحرب.
اللافت هنا أن هذا الرفض الجماعي لقرارات المحكمة الدولية التي تتضمن الإفراج عن الأسرى تزامن مع مقطع فيديو بثته كتائب القسام لـ4 أسرى إسرائيليين (هدار غولدين، وشاؤول آرون، وهشام السيد، وأبراهام منغستو) محتجزين لديها منذ أكثر من 10 سنوات، محذرة من أن مصير أسرى السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي ربما يكون نفس مصيرهم، متسائلة “هل نسيهم شعبهم وعائلاتهم كما نسيتهم وفرطت بهم حكومتهم وجيشهم؟” وأضافت محذرة “هل سيقضي أسرى 7 أكتوبر ما قضاه هؤلاء؟”.
ورغم ما يحمله هذا المقطع من رسائل قاسية للداخل الإسرائيلي بشأن قدرة المقاومة على الاحتفاظ بالأسرى لسنوات طويلة وعدم قدرة الاحتلال على تحريرهم بالقوة مهما بلغ حجم البطش والتدمير، بجانب التحذير من أن يكون مصير أسرى الطوفان كمن سبقوهم، فضلًا عن احتمالية قتلهم بسبب الغارات الإسرائيلية، فإن ذلك لم يؤثر في النخبة الإسرائيلية، حتى تلك التي طالما تشدقت بالشعارات التي تنادي بعمل أي شيء وتقديم أي تنازلات في سبيل تحرير المحتجزين لدى حماس.
وتعكس تلك الازدواجية عنصرية النخبة الإسرائيلية بشتى أطيافها، وتوظيفها لملف الأسرى لحسابات سياسية بحتة، لا علاقة لها بالمبادئ الإنسانية والا الشعارات المرفوعة التي يرددها غانتس وغالانت وآيزنكوت ولبيد وغيرهم، فالجميع يتعامل مع هذا الملف كورقة ضغط ضد نتنياهو لتحقيق أهداف ومصالح سياسية، وهذا سقوط أخلاقي مدو جديد للاحتلال وقياداته.
وهكذا تواصل دولة الاحتلال سقوطها المدوي، لتتعرى على مرأى ومسمع من الجميع، بعد أن تجردت من كل أوراق التوت التي كانت تستر عوراتها لعقود طويلة، سواء على المستوى السياسي من خلال اتساع رقعة العزلة الدولية التي تعاني منها وتحويلها إلى دولة منبوذة، أم على الجانب الأخلاقي حيث توظيف الشعارات الإنسانية لصالح حسابات شخصية وسياسية بحتة، وإن كان هناك من فضل في ذلك فيرجع للمقاومة الأسطورية ونضال الغزيين الذين أبقوا – وحدهم – على القضية الفلسطينية حاضرة وشامخة رغم مخططات التصفية والتهميش التي شارك فيها العرب والعجم على حد سواء.