هذه ليست المرّة الأولى التي تعرف فيها تونس احتجاجات اجتماعية بعد يناير 2011، غير أنها المرّة الأولى التي تكون بداية الاحتجاجات عنيفة بالشكل الذي هي عليه الأن، حتى أنها خرجت عن إطارها السلمي إلى التخريب وممارسة العنف، رغم “مشروعية” مطالبها، ما جعل العديد من التونسيين يعبّرون عن خشيتهم من وجود مخطّط خارجي ينفّذ بأياد داخلية لإرباك الوضع العام في البلاد في الذكرى السابعة للثورة التونسية.
عنف وتخريب
احتجاجات هذه السنة، المطالبة بضرورة رجوع الحكومة عن الزيادات في الأسعار، كان العنف سمتها البارز، ما أفقدها الزخم الشعبي وتعاطف معظم التونسيين معها، فقد رافقها على مدى أيامها الأربعة الماضية أعمال عنف وفوضى وتخريب وعمليات سرقة ممنهجة للملك العام والخاص.
عمد بعض المحتجين إلى خلع بعض المراكز التجارية والمؤسسات البنكية لسرقة محتوياتها وقيام بعضهم بقطع بعض الطرقات
الحكومة التونسية كانت قد لجأت بداية هذه السنة، إلى زيادة الأسعار ضمن حزمة إصلاحات، وُصفت بالمؤلمة للحد من عجز الموازنة الذي بلغ 6% في العام 2017، وتجاوز الأوضاع الاقتصادية الصعبة في البلاد، لكن الزيادات في أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية تفاقم الضغوط على المقدرة الشرائية للتونسيين وتواجه معارضة كبيرة من التونسيين تسعى بعض الأطراف إلى استغلالها سياسيًا.
وشملت “الاحتجاجات” ضد غلاء أسعار المواد الاستهلاكية في تونس، التي تخرج في معظمها ليلا، بعض مدن وقرى محافظات القصرين وسيدي بوزيد وقفصة ومنوبة والكاف وأحياء شعبية من تونس العاصمة، وعمد بعض المحتجين خلالها إلى خلع بعض المراكز التجارية والمؤسسات البنكية لسرقة محتوياتها وقيام بعضهم بقطع بعض الطرقات.
إيقاف 328 شخصا
خلال أيامها الأربعة، اعتقلت وزارة الداخلية التونسية، 328 شخصا، يشتبه في تورطهم في أعمال نهب وتخريب خلال هذه المظاهرات التي تشهدها مناطق متفرقة من البلاد، فينما انتشر الجيش في عدة مدن، مثل تالة القريبة من الحدود الجزائرية، بعد انسحاب كلي لقوات الأمن من المدينة، الليلة قبل الماضية، وذلك عقب حرق المتظاهرين لمنطقة الأمن الوطني بالمدينة.
حملة اعتقالات كبيرة في صفوف المتهمين بالعنف
وقال المتحدث باسم وزارة الداخلية التونسية خليفة الشبياني إنه “تم تسجيل إصابة 21 عنصر أمن بإصابات مختلفة إلى جانب الإضرار بـ 10 سيارات أمنية نتيجة رشقها بالحجارة”، وأضاف أنه “تم حرق مقر الأمن الوطني في تالة بولاية القصرين”، معتبرا أن الاضطرابات “لا علاقة لها بالديمقراطية أو المطالب الاجتماعية”، وفقا لما نقلته وكالة الأنباء التونسية.
الجبهة الشعبية تتاجر بمطالب التونسيين
هذه الاحتجاجات من الاحتجاجات القليلة بعد الثورة التي لا تجد تعاطفا شعبيا كبيرا معها، رغم مشروعية مطالبها، لأن أغلب الشعب علم بمحاولات أطراف أجنبية العبث بالتجربة التونسية والمتاجرة بآلام الشعب التونسي واستغلال مطالبه الشرعية لخدمة أجندتها السياسية.
ويتهم تونسيون ائتلاف الجبهة الشعبية وهو ائتلاف أحزاب يسارية، بتشويه هذه التحركات الاحتجاجية من خلال اللجوء إلى العنف وتأجيج الوضع في البلاد واستغلال التحركات السلمية للتخريب والنهب وفرض نظامها من خلال استغلال تحركات الشباب المشروعة.
دعت عدة أطراف سياسية، الحكومة إلى تشكيل لجنة تحقيق محايدة للكشف عن الأطراف التي تقف خلف أحداث العنف
وخلال زيارته إلى إحدى المناطق المتأثرة بأعمال العنف والاحتجاجات، انتقد رئيس الوزراء التونسي يوسف الشاهد، ائتلاف “الجبهة الشعبية” المعارض، بسبب دعم الحزب للاحتجاجات. وقال الشاهد إن “شبكات إجرامية تثير الفوضى”. وأضاف أن “مثيري الشغب والفوضى الذين استغلوا الوضع للسلب والنهب يخدمون شبكات الفساد والتهريب”. وتابع بالقول إن “ما جرى هو تخريب غير مقبول والدولة ستحاسب المسؤولين”.
من جهته قال زياد العذاري وزير التنمية والاستثمار والتعاون الدولي في الحكومة التونسية، في تصريحات لإذاعة تونسية خاصة إن “طرف سياسي واضح نتهمه سياسيا واخلاقيا، ويتحمل مسؤولية واضحة في التحريض والدعوة للخروج ليلا.. وهو الجبهة الشعبية“.
وأضاف “الجبهة أثبتت أن جزء كبيرا من نخبها لم يغادر الثمانينات ومنطق تجييش الشارع” متابعا “لأجل حسابات ضيقة ونكاية في النهضة صوتوا مع قانون المالية.. ثم ينزلون إلى الشارع للاحتجاج ضدّه.. هذا نفاق كبير”، وقال الوزير أيضا، “البعض يعتقد أن تعفين الأوضاع في البلاد سيخدمها سياسيا”.
وجمعت الجبهة عند تأسيسها في أكتوبر/تشرين الأول 2012، عشرة أحزاب يسارية التوجه هي: حزب العمال، وحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد، وحركة الديمقراطيين الاشتراكيين، وحركة البعث، وحزب الطليعة العربي الديمقراطي، وحزب النضال التقدمي، والحزب الوطني الاشتراكي الثوري، ورابطة اليسار العمالي، وحزب تونس الخضراء، والحزب الشعبي للحرية والتقدم، بالإضافة إلى جمعيات وأشخاص مستقلين.
اتسمت الاحتجاجات بالعنف والتخريب
واعتبر متابعون محاولة الجبهة الشعبية افتعال العنف واستهداف المؤسسات الخاصة والعامة يأتي في إطار معاضدتها لعمل قوى أجنبية على رأسهم دولة الإمارات العربية المتحدة، لإفشال مسار عملية الانتقال الديمقراطي في تونس وإرباك الديمقراطية الناشئة في البلاد بغية السيطرة على الحكم.
وكانت عدة أطراف سياسية دعت الحكومة إلى تشكيل لجنة تحقيق محايدة للكشف عن الأطراف التي تقف خلف أحداث العنف واستهداف المؤسسات الحكومية والخاصة، ومناقشة إمكانية تعديل قانون المالية في محاولة لكبح الأسعار وتراجع القدرة الشرائية للتونسيين.
وتتضمن ميزانية 2018 زيادات في بعض المواد ورفع الضرائب على الاتصالات الهاتفية والتأمين ورفع أسعار البنزين وبعض المواد الأخرى مثل الشاي والقهوة والأدوية إضافة الى اعتزام الحكومة اقتطاع 1% من رواتب كل الموظفين كمساهمات للصناديق الاجتماعية التي تعاني عجزًا.
دور الإمارات التخريبي
سعي الجبهة الشعبية اليسارية إلى تأجيج الوضع في البلاد ورفع وتيرة العنف فيها، يرجعه عديد المتابعين إلى رغبتها في عرقلة مسار الانتقال الديمقراطي التي تشهده تونس، خدمة لمصالحها ومصالح بعض القوى الأجنبية على رأسها دولة الإمارات.
فشلت الإمارات في مسعاها في ذلك بسبب يقظة التونسيين لأهدافها “الخبيثة”
وتراهن الإمارات على تخريب تونس عن طريق وكلائها في الداخل، وارتبط اسم دولة الإمارات العربية المتحدة بالثورة المضادة وأجندتها التخريبية ومعاداتها للتجربة الديمقراطية التونسية وسعيها إلى إفشال الانتقال الديمقراطي الذي تشهده البلاد منذ سقوط نظام ابن علي في يناير 2011، إذ تكن الإمارات حسب التونسيين لمهد الربيع العربي كل البغض والعداء.
ويتهم تونسيون، الإمارات باستعداء التجربة الديمقراطية في بلادهم، وبالسعي إلى مصادرة القرار السيادي التونسي من خلال ضخ الكثير من الأموال في الساحة التونسية وتمويل عمليات الفوضى والعنف ودفع الأمور في اتجاه يشبه ما حدث في مصر، إلا أنها فشلت في ذلك بسبب يقظة التونسيين لأهدافها “الخبيثة”.
دور قديم يتجدّد
اصطفاف يسار تونس في صف الثورة المضادة، لم يكن وليد اليوم بل بدأ مع انطلاق الثورة، حسب بعض المراقبين، إذ تقلّد رئيس حزب التجديد (كان يسمى في السابق الحزب الشيوعي) منصب وزير التعليم العالي في حكومة محمد الغنوشي الأولى – عقب هروب بن علي – التي يجمع التونسيون أنها امتداد لنظام الرئيس المخلوع بن علي ونظموا اعتصام القصبة 1 لإسقاطها.
أصابع الاتهام تشير لقيادات الجبهة الشعبية بالوقوف وراء أعمال العنف
عقب ذلك، تحالفت أحزاب الجبهة الشعبية اليسارية في صيف سنة 2013، مع رموز نظام بن علي ودعت إلى اسقاط مؤسسات الدولة وحل المجلس الوطني التأسيسي وتشكيل هيئة بديلة له تتولى استكمال صياغة الدستور بالإضافة إلى تشكيل حكومة إنقاذ وطني، في مسعى للقيام بانقلاب ناعم على مؤسسات الدولة آنذاك حسب عديد المتابعين للشأن التونسي.
وفي ديسمبر/كانون الأول 2014، دعت أحزاب الجبهة الشعبية خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة إلى قطع الطريق أمام الرئيس التونسي السابق الذي يعتبره العديد من المتابعين مرشح الثورة محمد منصف المرزوقي، إلى رئاسة الجمهورية، ودعت ضمنيًا أنصارها للتصويت إلى مرشح الثورة المضادة الباجي قائد السبسي واتهمها وقتها حزب الوطد الثوري (حزب يساري) بـ “العمالة للقوى الأجنبية”.