تُعدّ القوالب النمطية مشكلة كبيرة في معظم المجتمعات تقريبًا، إذ تضع تسميات معيّنة حول كيفية تصرف الشخص أو سلوكه وفقًا لجنسه، وعرقه، وشخصيته وعوامل عديدة أخرى. فكم مرةً أطلقتَ حُكمًا على أنّ المرأة عاطفية ولذلك لا تصلح للعمل في منصبٍ ما بناءً على ذلك، أو أنّها لا تعرف قيادة السيارة، أو أنّ الرجال عديمو المشاعر ويميلون للعنف. وكم مرةً نظرةً إلى شعبٍ كاملٍ بنظرةٍ استنتجتها من تعاملك مع فردٍ واحد فقط أو أفراد قليلين من ذلك الشعب.
يُعرّف التنميط وفقًا لعلم النفس الاجتماعي بأنه الحكم الصادر عن وجود فكرة مُسبقة عن فئة معيّنة، فيقوم الفرد بإلباس صفة العمومية على كلّ الأفراد الذي ينتمون لمجموعة ما بناءً على فكرة أو ذاكرة أو تجربة سابقة معيّنة، ويُشار إليه أحيانًا بالصور أو القوالب النمطية.
يمكن أنْ تكون القوالب النمطية إيجابية أو سلبية أو محايدة، وتشيع تلك القائمة على نوع الجنس أو العرق أو المهنة أو لون البشرة في كثير من المجتمعات ولا تقتصر على نوعٍ منها دون غيرها، كما لا يعتمد الأمر على مستوى التعليم أو الثقافة أو التطور الذي وصل إليه المجتمع، وإنما هو طريقة عمل يعمل بها الدماغ تنتج عن طريق عوامل كثيرة.
عملية تمرير المعلومات الاجتماعية بشكل متكرر من شخص لآخر يمكن أن تؤدي إلى التشكيل العفويّ وغير المقصود للقوالب النمطية
من أين تأتي القوالب النمطية؟
هناك عدة تفسيرات وفرضيات بحثت في نشوء القوالب النمطية. مبدئيًا يمكننا القول أنّنا نتعلّم ذلك من الحياة ومَن حولنا. الكثير من المعلومات التي ندخل وعينا تأتي بطبيعة الحال من الثقافة المحيطة بنا، فعملية تمرير المعلومات الاجتماعية بشكل متكرر من شخص لآخر يمكن أن تؤدي إلى التشكيل العفويّ وغير المقصود للقوالب النمطية عن الأشياء والأشخاص والمجموعات الأخرى.
يبدأ الفرد منّا بتعلّم واستقبال تلك المعلومات منذ مراحل الطفولة الأولى، ووفقًا للعديد من الدراسات فإنّ الأطفال لديهم القدرة على تشكيل صور نمطية راسخة ومحددة عن السود والنساء والفئات الاجتماعية الأخرى من حولهم، وبما أنّ قدراتهم المعرفية والإدراكية تكون غير مكتملة في تلك المرحلة من العمر، فبالتالي ليس لديهم الخيار لقبول أو رفض تلك المفاهيم والصور النمطية، فتتشكّل معتقداتهم وتنمو مع تطوّرهم.
وإنْ كانت الأسرة هي العامل المؤثّر الأول في ذلك، فإنّ العديد من القوى من شأنها أن تعزز وتُديم هذه القوالب النمطية لاحقًا؛ مثل ضغط الأقران ووسائل الإعلام وتأثير السلطة في المجتمع.
تستند نظرية الدور الاجتماعي إلى فكرة أنّ الأفراد يتصرفون بطرقٍ يمكن التنبؤ بها، وأنّ سلوكيّاتهم تخضع للسياق الاجتماعي إضافةً بعض العوامل الأخرى.
نظرية الدور الاجتماعي: أدوارٌ فتصنيفات فقوالب نمطية
في علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي، تنصّ نظرية الدور الاجتماعي على أنّ الأدوار اليومية للأفراد في المجتمع تخضع لمجموعة من التنبؤات والتوقعات والمعايير والسلوكيات التي يجب على كلّ فردٍ أنْ يحققها. وتستند هذه النظرية إلى فكرة أنّ الأفراد يتصرفون بطرقٍ يمكن التنبؤ بها، وأنّ سلوكيّاتهم تخضع للسياق الاجتماعي إضافةً بعض العوامل الأخرى.
ووفقًا للنظرية، يؤدي الفرد في حياته الاجتماعية أدوارًا يتوقعها منه المجتمع لكونه يشغل مواقع معينة، وتختلف أدوار الأفراد باختلاف تلك المواقع، كما أنّ التفاعل بين هذه الأدوار يُنتج ما يُسمّى بالبناء الاجتماعي الذي يمثّل مجموعة أنظمة تتداخل فيما بينها وتتفاعل لتشكيل وتحديد أنماط السلوكيات الفردية حسب القيم والمعايير السائدة في المجتمع نفسه، والتي تسعى لتحقيق تكامله واستمراره.
يمكن استخدام نظرية الدور الاجتماعي لفهم القوالب النمطية التي يطلقها المجتمع على الأفراد، فحين يصبح كلُّ فردٍ مسؤولًا عن دورٍ معين يتوقعه منه المجتمع، تتشكّل الملاحظات اليومية عن ذلك الدور وغيره من الأدوار، وبالتالي يصبح سهلًا على العقل رسم قوالب نمطية معينة بناءً على ما يتوقعه أو ما ينتظره من الآخرين.
هناك ميل إلى الإفراط في التركيز على ما يفعله الآخرون ويقومون به من أدوار معينة وافتراض أنها مناسبة تمامًا لهم دون غيرها من أدوار، أو أنّهم وحدهم الذين يستطيعون القيام بها دون غيرهم. فعلى سبيل المثال، تقوم النساء بتحمّل مسؤوليات تربية أطفالهنّ أكثر من الرجال، إلّا أنّ عقولنا تميل للتفكير بأنّ ذلك من طبيعة المرأة نفسها، وأنّها خُلقت لهذا الدور، لذلك نبدأ بإسقاط بعض الصور النمطية من قبيل أنّ الفتاة خُلقت للتربية والاعتناء بالأطفال والزوج، والحدّ من قيمة مسؤولياتها الأخرى وأدوارها المغايرة في الحياة.
تلجأ عقولنا إلى تصنيف الأشياء والأشخاص إلى مجموعات وإطلاق التسميات عليهم وربطها بعدة سمات وصفات لتسهيل التعامل معها وحفظها نظرًا لكمّها الهائل وتعقيدها
عقولنا شحيحة معرفيًّا وتنتقص المعلومات الكافية
ترتبط عقولنا ارتباطًا وثيقًا بعملية تصنيف المعلومات وخلق الاختصارات العقلية وحفظها، فالصفة ألف ترتبط مع السلوك باء والسلوك باء يرتبط مع المجموعة دال، وهكذا. ويرجع الأمر إلى أنّ عقولنا تعجز بشكلٍ كبير عن الإحاطة بالكمّ الهائل من المعلومات التي تحيط بها، فنبقى دومًا شحيحي الموارد العقلية في حين يزداد العالم من حولنا تعقيدًا وتوسعًا، وبذلك نلجأ إلى تصنيف الأشياء والأشخاص إلى مجموعات وإطلاق التسميات عليهم وربطها بعدة سمات وصفات.
القوالب النمطية التي نشكّلها ليست غامضة أو اعتباطية، لكنها تستند إلى ملاحظات الحياة اليومية التي تجمعها عقولنا وتصنّفها
ونظرًا لأننا نميل إلى استغلال الحدّ الأدنى من جهدنا العقليّ، نعتاد على عدم التفكير المستمر بكلّ شيء أو فرد حولنا، وبذلك كلّ ما نحتاجه وقتها هو تطبيق الأنماط والتصنيفات التي كوّناها سابقًا على الأشياء المشابهة والأشخاص المماثلين، لنحكم عليهم بسرعة ونقرر الكيفية الأمثل بالتعامل معهم والنظر إليهم. إضافةً إلى أنّ هذه العملية أيضًا توفّر لنا إحساسًا بتماسك وترابط الكون والعالم من حولنا دون إرادةٍ منا أو نية مسبقة، كلّ ما في الأمر أنّ عقولنا تتلقّى شبكة معقّدة من المعلومات التي تعجز عن تحليلها، فتبدأ بإنشاء نظّام مبسّط ومنظّم للغاية، تجمع فيه تلك المعلومات وتقولبها في قوالب نمطية يسهل الوصول إليها لاحقًا.
إذن فالقوالب النمطية التي نشكّلها ليست غامضة أو اعتباطية، لكنها تستند إلى ملاحظات الحياة اليومية التي تجمعها عقولنا وتصنّفها في مجموعة من المعلومات التي تحفظها الذاكرة.
الارتباطات الوهمية: ذاكرتنا تلعب دورًا أيضًا
تلاحظ عقولنا الأشياء المميزة أو غير المألوفة أكثر من تلك المألوفة، فتركّز مثلًا على عددٍ قليل من النساء وسط مجموعة كبيرة من الرجال، أو على رجلٍ أسود وسط مدينة ليس فيها من السود الكثيرين، إذن فماذا يحدث عندما يجري أمران مميزان في نفس الوقت؟
نركّز اهتمامنا على الحدثيْن أكثر فأكثر، ويتكون الرابط بينهما في عقولنا بطريقةٍ أقوى ممّا لو كانا حدثين عاديّين، وبالتالي تقوم الذاكرة بتخزين المعلومات بشكلٍ جيد بحيث لا يمكن محوه من قبل الذكريات الأخرى بسهولة، الأمر الذي يقود إلى الإفراط في تقدير نسبة حدوثهما وتواترهما معًا، وهكذا تنشأ الصورة النمطية.
ولنفهم هذه الفرضية أكثر، تخيّل مدينة معظم الأشخاص فيها من ذوي البشرة بيضاء مع عدد قليل جدًا من ذوي البشرة السوداء. في هذا المثال، سيكون فعل الأشياء الجيدة من قبل الأفراد أمرًا لا يستحق الانتباه أو التركيز المكثف، فهذا ما نتوقعه! لكن ماذا سيحدث لو قام فردٌ أسود البشرة بالإتيان بفعلٍ سيء؟
حينها سنولي اهتمامًا مزدوجًا إلى فكرة أنّ الأفراد من تلك المجموعة تفعل الأشياء السيئة، وتبدأ عقولنا بالمبالغة في الربط ما بين ما شاهدناه من ذلك الفرد وما بين فكرة أنّه فعلٌ شائع أكثر مما هو عليه حقًّا.
وبالتالي؛ فقد لا نكون قادرين على السيطرة والتحكّم باستجاباتنا المتحيّزة، وبالأحرى قد لا نكون أصلًا على علمٍ مسبق بوجود مثل تلك الاستجابات، إذ أنّنا نعتمد على وعينا وذاكرتنا للتوصّل إلى الأحكام التي نطلقتا بشأن الواقع والتي تحدث عن طريق معالجة تلقائية سريعة يقوم بها الدماغ، والتي تكون خادعة أو غير دقيقة.
كما لا يمكننا الادّعاء بأنّنا قد قضينا على التحيّزات والقوالب النمطية لمجرد أنّها بقيت في حيّز التفكير ولم تصل حدّ التعبير الصريح، فهي ستبقى فعّالة تؤثّر على لاوعينا شيئًا فشيئًا دون أنْ ندري. لكنّ إضعافها لا يعدّ أمرًا مستحيلًا أو فائق الصعوبة، فتعزيز الدماغ بالمعتقدات الإيجابية والواعية عن الأقليات أو عن الفئات التي ننظر إليها بتحيّز قد يلعب دورًا جيّدًا في الحدّ من الآثار السلبية للتحيّز والتنميط.
ومع مرور الوقت، قد يصبح الميل إلى منع القوالب النمطية التلقائية بحد ذاته تلقائيًا، لكن كلُّ ما يحتاجه الفرد منّا هو الوعي والانتباه وتهذيب أنفسهم على منع التحامل والنظر بدونية للمجموعات الأخرى وأفرادها.