لطالما حظي فن الخط باهتمام كبير من قبل الحضارات القديمة، وفيما يتعلق بالخط العربي، فقد تطور تدريجيًا وكثرت أنواعه على مر العصور الأموية والعباسية والفاطمية، لكنه استقل بذاته وبهر الشرق والغرب بجماله في زمن الدولة العثمانية التي جعلت منه مهنة رفيعة وإرثًا ثقافيًا مميزًا، ومنحته مكانة اجتماعية عالية، لذلك لا يمكن الحديث عن فن الخط دون ذكر ذلك العصر الذهبي الذي ارتقت وانتشرت فيه الكتابات الإسلامية بأناقة على جدران المساجد والقصور وحتى المقابر.
يقال أن العثمانيين ورثوا هذا الفن عن مدرسة تبريز في إيران الآن، التي ازدهرت في صناعة الكتب والورق والكرتون والخط والرسوم والتذهيب، وكان للأساتذة الإيرانيين الفضل في هذا، حتى تفوقت الأقلام التركية عليهم وأسست مدرسة خاصة بها في خط الثلث الذي ألفوا فيه كتبًا لا تُحصى ووضعوا له قواعد فنية محددة، حتى بدؤوا بإظهار هذا الاهتمام بكتابة المصاحف التي تم حفظها في المتاحف التاريخية لاحقًا.
كيف تأثرت الدولة العثمانية بالخط العربي؟
اعتنى العثمانيون بالخط العربي منذ القرن الخامس عشر الميلادي وحتى القرن العشرين، وجاء اهتمامهم بدافع التقرب من الدين الإسلامي لأنّ اللغة العربية هي لغة القرآن، وهذا ما أكد عليه شيخ الخطاطين الأتراك حسن جلبي بقوله “الارتباط بالخط العربي منطقه ديني، فالأتراك من الشعوب التي عضت بالنواجذ على الدين الإسلامي منذ دخل ديارها”.
درس الأتراك هذا الفن وحاولوا تطويره وتحسينه وجعلوه السمة الثقافية الأكثر وضوحًا على أهم الأماكن في الدولة، مثل الجوامع والمتاحف والقصور والمقابر، التي تنوعت كتاباتهم المخططة والمذهبة على شكل آبيات شعرية وحكم ونصوص إسلامية كالآيات القرآنية والأحاديث النبوية.
وفي نفس الشأن ذكر كتاب “فن الخط العربي.. المدرسة العثمانية” للمؤلف وليد سيد حسنين محمد، بأن “فن الخط العربي الجميل جاء على رأس الفنون الإسلامية التي اهتم بها الأتراك العثمانيون، وقد ورث العثمانيون هذا الفن ناضجًا مستويًا على عوده، وساروا به إلى الأمام، حتى جرت على ألسنة بعض الباحثين والمؤرخين مقولة: لولا الترك ما كان فنُّ الخط الجميل”.
واعتبر الكاتب أنّ تأثرهم بالخط العربي جاء على ثلاث مراحل، أولها مرحلة التقليد ثمّ مرحلة التحسين وأخيرًا مرحلة الابتكار، حيث أتقنوا في المرحلة الأولى تقليد الأقلام الستة التي ابتكرتها المدرسة العربية في الكوفة على يد ياقوت المستعصمي في القرن السابع عشر، وظل الخطاطون الأتراك العثمانيون يقلدون هذه الكتابة حتى عقود طويلة.
وفي القرن العاشر للميلاد، تطورت مرحلة التحسين والتجويد على يد الشيخ حمد الله الأماسي، الذي اشتهر باختراعه طريقة مبتكرة في بري القلم، ما مكنه من تحريف قطته وإضافة رونق مختلف على الحروف.
أهم الخطاطين العثمانيين
برز العديد من الخطاطين البارعين في هذا المجال، من أهمهم حمد الله الأماسي -إمام الخطاطين- الذي كتب سبع وأربعين مصحفًا، والحافظ عثمان الملقب بجلال الدين الذي كتب 25 مصحفًا بيده، وطبعت نسخته في معظم الدول الإسلامية خاصة في مدينة دمشق، إضافة إلى الخطاط محمد يوسف الملقب بِرسا لأن معلمه قال له بعد تعليمه “الآن رسا خطك” أي أنه أحسن الكتابة، خطّ رسا لوحات في المساجد التركية ومساجد بلاد الشام وكتب على أعمدة الجامع الأموي وضريح النبي يحيى.
وتميزت مخطوطاتهم وكتاباتهم بالزخاريف الملونة والمذهبة، وبالعناوين التي تحتوي على آيات كريمة، وهذا الاعتناء الشديد في جودة الخط جعل الخطاطين يتنافسون لتحسين مهاراتهم، والمثير للاهتمام أن فن الخط ولد العديد من المهن الأخرى التي تعتبر تابعة به، مثل: الوراق والمجلد والناسخ والرسام الذي يهتم بالزخاريف وألوانه وأحجامها وأشكالها، حتى يستطيعون جميعًا الانتهاء من إتمام المخطوطة المطلوبة.
أما بالنسبة إلى السلاطين، فقد كانوا يستخدمون الطغراء وهي علامة سلطانية تكتب في الأوامر بالغة الأهمية وتطبع على النقود والطوابع والسجلات والصكوك ويكتب فيها على المدافع والسفن الحربية اسم السلطان وبعد فترة من الزمن لم يعد هذا النوع من الخط محصورًا على طبقة السلاطين فاستخدمه الخطاطون في الكتابة والتصميم بشكل واسع.
بالرغم من خصوصية هذا الخط المفرطة، إلا أنه ليس من ابتكار الخطاطين العثمانيين، فلقد وجد في حضارات سابقة مثل سلاجقة الروم والمماليك، لكنه اكتسب هذه المكانة العظيمة في زمن حكم الدولة العثمانية لاهتمامها بقواعده وشكله بشكل دقيق حتى أصبح رمز للدولة العثمانية.
هل حاربت الدولة العثمانية المطبعة خوفًا على اندثار فن الخط؟
شاعت العديد من الأخبار المتضاربة التي تفيد بأن السلطات العثمانية رفضت استخدام المطبعة وأصدرت مرسوما رسميا وفتوى دينية تمنع هذه الفكرة، بحيث امتلأت شوارع الإمبراطورية بالمظاهرات الرافضة لوجود هذا الاختراع الجديد، وتذكر الأبحاث التاريخية أن السلطان بايزيد حظر المطابع عام 1485، وبالجانب منه أمر السلطان سليم الأول بإعدام كل من يستخدم الطباعة، كما منع إنتاج كتب عربية مطبوعة، حماية لمكانة فن الخط الثقافية والحفاظ على مهنة الخطاطين.
ولكن من جانب آخر، تذكر مصادر أخرى أن هذه الحقائق عارية من الصحة، بل رحبت الدولة بهذا الاختراع، وهناك العديد من المطبوعات التي تظهر فيه نفس الحقبة التاريخية التي حكم فيهما السلطانين سليم الأول وبايزيد.
وفي حوار خاص مع أسيل كوجان، طالبة الخط العربيّ، عن المكانة الاجتماعية الحالية للخطاط في بلاد العثمانيين، قالت إن “الخط تختلف مكانته من مكان إلى آخر، وفي المجتمعات العربية يُنظر إلى الخطاط على أنه شخص موهوب وذو ذائقة جميلة لا أكثر، أما في تركيا فينال الخطاط احترامًا كبيرًا، لا سيما من الأساتذة الذين يعاملون طلابهم بكل مودة وإجلال”.
وعند سؤالها عن الأسباب التي تحدّ من انتشار هذا الفن، أجابت كوجان أن انعدام أو شح الثقافة الخطية، الأمر الذي ينعكس على جوانب مستويات اللغة المقسمة إلى نحوي وصرفي وبلاغي وكتابي، حيث ساهمت حلول عالم التكنولوجيا في انحدار جمال الخط العادي، فكيف بالخط الفني الإبداعي؟
وتقول كوجان أن هناك عامل آخر مهم جدًا، وهو أن الخط كحرفة يحتاج لأوقات فراغ طويلة، وهذا يتعارض مع ساعات العمل المحددة والمقيدة، كما أنها تتعارض مع فكرة تأمين دخل مادي. لذلك، فإن الخطاطين الذين يعتمدون على الخط كمهنة يشكّلون فئة قليلة، ويصلون إلى ذلك بعد سنوات من الخبرة وبناء العلاقات والتسويق الذكي، أو قد يكون لهم موردًا ثابتًا يغنيهم عن الانشغال بتوفير دخل ماديّ عن طريق الخط، وبهذا يملكون الوقت الكافي للتفرّغ له، خاصة أن تعلمه يُعدّ مهارة تراكمية لا يمكن رؤية نتاجها الحقيقي سوى بعد 6 أشهر على الأقل.
وتشير كوجان إلى أن إهمال الحكومات والوزرات مثل وزارة الثقافة والفنون لهذا الفن ساعد على حصره في مؤسسات خاصة ومعدودة، وتعتبر أن الخط يجمع بين المعنى والمبنى وبين الشكل والموضوع وتصفه بأنه “الرسم بالكلمات”، كما أنه يمثل جانبًا نفسيًا مهمًا ويدعم فكرة “الفن كعلاج” في وقت يعاني فيه الكثيرين من الضغوطات النفسية.
إلى ذلك، يشهد التاريخ على الإرث الفني الذي تركته الدولة العثمانية من مخطوطات وزخاريف ولوحات مذهبة انتشرت في أهم الدول العربية التي تبنت هذا الخط منذ القدم مثل العراق وبلاد الشام، واتخذت مساحات مهمة في مختلف المراكز العثمانية والتركية المهمة.