أعلنت كتائب القسام على لسان الناطق العسكري باسمها، أبو عبيدة، أسرها لعدد من جنود الاحتلال خلال عملية مركبة عصر السبت 25/5/2024 شمال قطاع غزة، حين استدرجوا قوة إسرائيلية لأحد الأنفاق بمخيم جباليا ثم أوقعوها بأكملها بين قتيل وجريح وأسير.
وبعد انتهاء كلمة أبو عبيدة عرضت القسام مقطع فيديو ظهر فيه على ما يبدو أنه جندي إسرائيلي ملقى على الأرض وأثار الدماء عليه، فيما يقوم أحد عناصر المقاومة بجره إلى داخل النفق، ثم أظهرت أسلحة رشاشة وخوذ وسواتر تابعة لجنود الاحتلال، فيما خُتم الفيديو بعبارة “هذا ما سمح بنشره وللحديث بقية”.
أشعل هذا المقطع الذي لم يستغرق دقائق معدودة الشارع الإسرائيلي الذي انتفض تنديدًا بسياسة حكومته التي طالبها بالاستقالة وإجراء انتخابات مبكرة في أعقاب فشلها في استعادة محتجزيها لدى المقاومة، فيما خيم الارتباك على المشهد الإسرائيلي بنخبتيه العسكرية والسياسية، في وقت يعانون فيه ميدانيًا بعد قرابة 233 يومًا من القتال بما لم يعانوا منه منذ بداية الحرب.
كشفت الحرب الحالية وإدارة المقاومة لملف الأسرى تحديدًا عن حجم النضج السياسي الذي شهدته القسام وبقية الفصائل، حيث أدارته باحترافية غير معهودة، تنقلت من خلاله من المواجهات عن بعد إلى المسافات الصفرية مرورًا بالفخاخ والكمائن، وصولا إلى أسر جنود الاحتلال، وهو الأداء الذي كان كفيلا بإرباك حسابات الاحتلال وبعثرة أوراقه، وتأليب الرأي العام الداخلي على الحكومة والجيش معًا، في تطور يكشف عن الكثير من المسكوت عنه ميدانيًا وتغير قواعد اللعبة وموازين القوى في ساحة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
إنكار إسرائيلي.. التاريخ يعيد نفسه
بعد دقائق قليلة من بث المقطع المصور لكتائب القسام والذي ألهب المشهد الإسرائيلي الملتهب أصلًا، خرج الناطق باسم جيش الاحتلال لينفي ما قاله أبو عبيدة، مؤكدًا أنه لم يقع أي جنود إسرائيليين في أيدي حماس ولا فصائل المقاومة، في محاولة لـ “لملمة شعث” الشارع الإسرائيلي قبل الخروج عن السيطرة.
لكن يبدوا أن التاريخ يعيد نفسه، فقبل عشرة أعوام من اليوم، وتحديدًا في 20 يوليو/تمًوز 2014، أعلنت كتائب القسام عن أسرها الجندي الإسرائيلي، شاؤول آرون، خلال اشتباكات وقعت بين المقاومة وقوة إسرائيلية في حي التفاح شرق غزة، وذلك بعد استدراجهم إلى حقل ألغام كانت قد أعدته المقاومة مسبقا، ليسقط 14 جنديًا إسرائيليًا وأسر واحد.
حينها، وكما حدث مساء السبت 25/5/2024، نفى الاحتلال هذه الواقعة، وأكد أنه لم يسقط أي من جنوده في قبضة حماس، ليخرج المتحدث باسم القسام بتسجيل مصور يطالب فيه الاحتلال بالكشف عن الجندي صاحب الرقم العسكري، 6092065 واسمه شاؤول آرون، والذي هو أسير بيد كتائب القسام.
كما خرج سفير الاحتلال في الأمم المتحدة، حينها، رون بروسور، ونفى وقوع أي من جنود جيش الاحتلال أسيرًا لدى المقاومة، متهما القسام بفبركة هذا الفيديو وإطلاق الشارع وممارسة ما أسماه “البروباغندا”، لتحقيق مكاسب ما بشأن صفقة تبادل يطلق بها سراح أسرى فلسطينيين في سجون الاحتلال.
وبعد يومين فقط من بيان المتحدث باسم القسام، أي في 22 يوليو/تمًوز من نفس العام (2014) اعترف الناطق باسم جيش الاحتلال، بوجود جندي مجهول المصير بعد الاشتباك الذي وقع بين المقاومين وجنود من نخبة لواء الاحتلال (جولاني) أدى لمقتل 6 من اللواء واختفاء السابع، فيما أذاعت القناة العاشرة الإسرائيلية بأن الرقم العسكري للجندي الإسرائيلي المفقود شاؤول آرون الذي أعلنته كتائب القسام صحيح.
واليوم التاريخ يتكرر، القسام تعلن أسر بعض الجنود فيما ينفي جيش الاحتلال، أما الشارع الإسرائيلي الذي فقد للثقة بشكل كامل في بيانات النفي الصادرة عن جيشه، خرج إلى الميادين وأمام منزل رئيس الحكومة بعد دقائق قليلة من بث القسام للفيديو.
فن اختيار التوقيت المناسب
تختار القسام بث المقاطع التي تتعلق بالأسرى والمحتجزين في أوقات مثالية، وهو ما يساعد في تحقيق الأثر المطلوب من وراء بثها، ولعل هذا الاختيار الدقيق لتوقيت عرض هذه الفيديوهات هو السبب الأبرز في إبقاء الشارع الإسرائيلي على هذه الدرجة من الغليان منذ اليوم الأول للحرب.
يأتي المقطع الأخير بعد التصريحات العنترية الصادرة عن قادة جيش الاحتلال بالتشديد على تحرير المحتجزين لدى حماس، والإصرار على استمرارية عملية رفح البرية لتحقيق هذا الهدف، والتأكيد على أن قدرة الكيان المحتل في إطلاق سراح جنوده وأسراه بالقوة.
وجاءت تلك التصريحات بعد الفيديو الذي نشرته القسام وعرضت فيه صورا لأسرى إسرائيليين لقوا مصرعهم جراء القصف الإسرائيلي، فيما تبدو على جثثهم أثار القصف، فيما أرفقت الكتائب تلك المشاهد بعبارات مثل “هكذا يقتل نتنياهو وجيشه ومجلس الحرب مواطنيكم في الأسر”، و”اسألوا نتنياهو وحكومته عن أسمائهم، سيخبرونكم، فهم يعرفونهم جيدا”، و”هكذا سيعيدونهم”.
المقطع كذلك تضمن صور لرئيس الوزراء ووزير الحرب بيني غانتس والمتحدث باسم الجيش دانيا هاغاري، وهم يتحدثون عن الأسرى المحتجزين لدى المقاومة، بما يكشف حجم التناقض الفج بين تلك التصريحات وما يمارس على أرض الواقع، حيث سقوط المحتجزين واحدا تلو الأخر.
وكانت القسام قد نشرت مقطعا أخر في 27 أبريل/نيسان الماضي، لأسرى لديها، ينددون بسياسة حكومة بنيامين نتنياهو، ويطالبونها بالإفراج عنهم، وسرعة إبرام صفقة تبادل مع المقاومة، وجاء المقطع حينها في توقيت حساس للغاية، إذ تزامن مع اليوم الخامس لعيد الفصح العبري، ما يعني وجود أعداد كبيرة في الشوارع والميادين، بخلاف الإجازات الرسمية وعدم الانشغال بالأعمال التقليدية، مما منح الشارع زخما كبيرًا ليشهد واحدة من أكبر التظاهرات التي شهدتها الشوارع الإسرائيلية منذ بداية الحرب.
تطور في الأداء الاستخباراتي
كشفت عملية جباليا عن مستوى التطور الواضح في الأداء الاستخباراتي، إذ تذهب كافة التحليلات إلى أن العملية تمت بأسلوب خداعي تكتيكي في المقام الأول، حيث إيهام قوة الاحتلال بتواجد أسرى تحتجزهم المقاومة في تلك المنطقة، عبر تسريب معلومات مضللة لهم عن هذا الأمر، وعليه جاء التحرك سريعًا.
وفي ظل الهرولة الإسرائيلية لتحقيق أي منجز في ملف تحرير المحتجزين، كان السقوط في الفخ سهلا، وكان الصيد بطبيعة الحال ثمينًا، حيث توجهت القوة الإسرائيلية للمكان المطلوب استدراجهم فيه، ليصطدموا بعناصر المقاومة في انتظارهم، وهنا وقعت الاشتباكات التي سقط فيها جنود الاحتلال بين قتيل وجريح وأسير.
الجديد هنا والذي تكشفه عملية الأسر أن المواجهات كانت من النقطة صفر، قوة في مقابل قوة، بعيدًا عن الاحتماء خلف المدرعات والمجنزرات، وعليه جاءت النتيجة هكذا، انتصار ساحق للمقاومة على حساب عناصر جيش الاحتلال، وهو الأمر الذي سيكون له ما بعده.
ليست هذه المرة الأولى التي تُسقط فيها المقاومة جنود الاحتلال عبر تكتيك الخداع الاستخباراتي والمعلوماتي، إذ شهدت الحرب عشرات العمليات التي تمت بالطريقة ذاتها، تمرير معلومات مضللة عن أنفاق ومقاومين وأسرى، ثم يُفاجأ المحتل بالكمين المنصوب له، فيقع بين قتيل وجريح، غير أن تلك الكمائن كانت في الغالب تُدار عن بعد، وليست عبر المواجهات المباشرة كما تمت في عملية جباليا الأخيرة.
حرب نفسية من المستوى (A)
نجحت المقاومة عبر إدارتها لملف الأسرى في شن حرب نفسية ضد الكيان المحتل، حكومة ونخبة وشعبًا، نجحت من خلالها في تفجير قنابل الفرقة والانقسامات داخل المجتمع الإسرائيلي والإجهاز على معنوياته، وتعريض جبهته الداخلية التي دوما ما كان يتشدق بتماسكها للتشقق والانهيار.
وضربت المقاومة من خلال هذا الملف مرتكزات الكيان المحتل الثلاثة:
أولا: الشارع. حيث إثارة الرعب في نفوس الإسرائيليين، والقلق على مصائر ذويهم، سواء المحتجزين لدى المقاومة أو المقاتلين في صفوف جيش الاحتلال، في ظل احتمالية أن يقعوا في الأسر أسوة بغيرهم، وهو الكابوس الذي يؤرق مضاجعهم ليل نهار، ويشل معنوياتهم.
ثانيًا: الجيش، أي تأثير يمكن أن يحققه مقطع كهذا في نفوس جنود جيش الاحتلال، وذلك حين يرون أصدقائهم يقعون في الأسر بتلك الكيفية المهينة؟ لا شك أن مسألة كهذه قاسية للغاية على معنويات الجنود بل قادرة على إصابتها بالشلل التام، وهو ما يفسر الاضطرابات النفسية التي أصابت الالاف من الجنود الإسرائيليين منذ بداية الحرب.
ثالثًا: النخبة بشقيها العسكري والسياسي، والتي تعاني من ارتباك حاد جراء بث مثل تلك المقاطع التي تكشف عجزها عن الرد والتصدي للمقاومة، والفشل في ممارسة أي إجراء أو فعل يُجهض من تأثير تلك المشاهد على الجبهة الداخلية، وهو ما يمثل ضغطا عليها ربما يدفعها لاتخاذ قرارات أو إجراءات فاقدة للمنطق والعقل.
سيناريوهات رد الفعل
لا شك أن حالة الهياج التي عليها الاحتلال منذ نشر فيديو الأسر الذي بثته القسام ستدفعه إلى التخبط أولا، قبل استعادة التوازن بعد دراسة الموقف وتقييمه بشكل منطقي، ومن ثم يتوقع أن تسفر تلك القنبلة القسامية عن سيناريو من اثنين، أو كلاهما:
الأول: تصعيد القصف كأداة انتقامية لما تم نشره، وتأكيد الاحتلال على استراتيجيته المعهودة منذ بداية الحرب حيث القتل والتدمير وسياسة الأرض المحروقة كبديل للفشل في تحقيق الأهداف المحددة مسبقًا للحرب، وهو ما بدا يلوح في الأفق خلال الساعات الماضية، حيث تكثيف الهجمات في رفح وجباليا وجنين وغيرها من المناطق.
الثاني: استئناف المفاوضات بشان صفقة محتملة مع المقاومة وتقديم المزيد من المرونة وربما التنازلات، فمع الرسائل التي بعثت بها القسام من خلال تلك المقاطع، بجانب الضغط الشعبي المتصاعد، والفشل حتى اليوم في تحقيق أهداف الحرب، فضلا عن الضغوط الإقليمية والخارجية، من الحلفاء والوسطاء، فقد يجد نتنياهو نفسه مضطرًا لاستئناف المفاوضات مرة أخرى والتعاطي معها بشكل مختلف.
وتشير الأنباء الأولية إلى تنازلات جديدة ربما يلجأ إليها الاحتلال خلال جولة المفاوضات الحالية في باريس، حسبما نقلت بعض وسائل الإعلام، خاصة بعد الفشل في تحرير أي من أسراه في عملية فتح، واستعادة المقاومة عافيتها مجددًا في الشمال والوسط، علاوة على أسر جنود جدد، وهو التطور الجديد الصادم ميدانيا والذي ربما يغير خارطة المواجهات مستقبلا، وقد يكون هو الدافع الأبرز لإعلان حكومة الاحتلال بشكل مفاجئ بالذهاب مجددا باتجاه استئناف المفاوضات واستعدادها للانسحاب من معبر رفح.
ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، وإن لم يكن للمفاوضات قوة تحميها فلا قيمة لها، هذا ما فطنت إليه حماس والجهاد وبقية الفصائل الفلسطينية خلال حربها مع الاحتلال، فتكبيده الخسائر تلو الأخرى هو السبيل الوحيد لإرغامه على الجلوس على طاولة التفاوض والرضوخ لشروط المقاومة التي تحقق انتصارات ميدانية يوما تلو الأخر، رغم الكلفة الباهظة والثمن الفادح الذي دفعه الفلسطينيون لإبقاء قضيتهم على قيد الحياة وإنقاذها من مخططات الطمس والتصفية.
ويثبت هذا التطور الملحوظ في أداء المقاومة وإدارتها لملف المحتجزين، قدرتها الفائقة على قراءة المشهد بشكل جيد، واستعدادها لكافة السيناريوهات المتوقعة، لتؤكد للجميع أن قواعد اللعبة يجب أن تتغير وأن معادلات القوى لا بد وأن يُعاد النظر فيها مرة أخرى، فما كان قبل السابع من أكتوبر 2023 أبدا لن يكون كما بعده بأي حال من الأحوال ومهما كانت نتائج الحرب الحالية.