كثيرًا ما طرحت السؤال على نفسي: لماذا يضطرب التونسيون في مستقبل بلدتهم؟ ولكني لم أصل إلى إجابات نهائية وشافية وبقيت الحيرة والأسئلة واستمر الاضطراب أعاينه ولا أفهم خلفياته إلا تخمينًا، وعلم النفس الاجتماعي لم يسعفني إلا بتعميق الظنون عن الشخصية القاعدية التي نشأت بلا خيال أو تخيلت بقصور فاضح أو تاهت عن الفكرة لتقع في الخبزة السهلة.
وهذا في حد ذاته تخمين لا يقين، وأحتاج هنا إلى تفسير ما أعنيه بالخيال الذي يولد من ثورة ويرافقها فيقدم لها حلولاً لإدارة المستقبل الجماعي لشعب متعلم لكنه بقي رغم التعليم الجيد دون خيال.
الخيال ليس شغل الفلاسفة
يمعن المشتغلون بالفلسفة في احتكار الحديث عن الخيال، متخذين من ذلك أصلاً تجاريًا فينتهي الحديث عن الخيال دومًا إلى أن عملية التخيل شغل نخبوي خاص، وهذه مغالطة كبيرة تشبه تملك الفقهاء للحديث باسم الدين، في حين أن التخيل كالإيمان عمل خاص (فردي) وعام (جماعي) يعبر عن الشخصية الفردية الفعالة ضمن الشخصية العامة أو الأساسية، وجب إذًا تحرير التعريف من الاحتكار النخبوي حتى يمكن رؤية قدرات الأفراد خارج التفلسف المختص.
فالخيال في تقديري هو القدرة على بناء تصورات جديدة دومًا تعمل على الخروج من السائد المهيمن في لحظة تاريخية على عالم الأفكار والتصورات وتشمل الثقافي بما هو إبداع وابتكار جمالي يقود التنموي (الاقتصادي) بما هو سبب للقوة في عالم مادي متقلب وسريع الحركة.
أي قدرة على تجديد صورة العالم تعتبر الوجود سببًا للقوة والسيطرة (الهيمنة) لا سببًا للعيش البسيط القنوع فقط (بلاد الحد الأدنى)، وهذا ليس عملاً نخبويًا صرفًا بل فعل اجتماعي مستمر يقوم على كثير من الغرور والرغبة في التأثير في العالم، لذلك يشارك في التخيل الخلاق كل فرد يتبنى عن نفسه وعن وطنه صورة إيجابية تعتقد أن السائد دومًا أقل من الطموح.
هل قدمت الثورة التونسية صورة جديدة للعالم؟
لماذا على الثورة أن تفعل ذلك؟ هذا سؤال مفتاح لفهم بقية الكلام، الثورة عامة وبقطع النظر عن نماذج الثورات في العالم (فرنسية، بلشفية، إلخ) ليست ثورة كاملة إن لم تجدد نمط التفكير وتفرض خيالاً جديدًا، هكذا كان وهكذا سيكون، فالثورات لا تنقطع.
هذه الثورة لم تنتج مشروعها لأن ليس لها خيال لأن نخبها قاصرة بل وتمنع كل حركة تفكير وتقمع كل تصور مجدد من خارجها، إذ تعتبره عدوانًا على مكاسبها الثابتة من الوضع القديم
تقديري أن الثورة لم تفعل ذلك بعد وأعتقد أنها لا تزال بعيدة عن تحقيق هذا الطموح الكبير، إعادة صناعة الفرد التونسي ضمن مشروع تونس قوية وخلاقة، والسبب كما أراه أن التفكير حتى الآن محتكر من نخبة فكرية وسياسية جبانة وفقيرة، تخشى المغامرة بنقد السائد لأنها تعيش منه وتخشى وضع تصورات أخرى بديلة لأنها لا تملك قدرة على التحرر الذاتي.
تتميز هذه النخبة بعجز عن التجديد ويظهر عجزها في عملها الدؤوب على إعادة إنتاج الأفكار التي أطلقها جيل مؤسس الدولة بعد الاستقلال رغم أنها تغلف حديثها اليومي برغبة في التجاوز ولكنها لم تفلح في تجاوز صورة للعالم خطها بالخصوص بورقيبة.
لقد فكر الجيل الأول في بناء الدولة والهوية الوطنية ووضعوا تصورات محددة للهوية وللتنمية وللدولة عامة وللفرد التونسي في العالم، ولكن الجيل الثاني (أبناء الاستقلال) بقوا عند نفس الرؤية كأن الدولة لم تبن وكأن الأفكار لم تنزّل على أرض الواقع بما فيه الكفاية لتظهر نواقصها وتفرض إنتاج تصورات جديدة.
يقول البعض وخاصة من السياسيين والمثقفين المتمتعين بعد بمباهج ما بقي من دولة الزعيم إن هذا آت قريب وهذا أمل، ولكن الحيرة الماثلة الآن والتخبط السياسي والثقافي والإبداعي الذي أعقب الثورة خاصة يكشف أن جيل الأبناء بقي في جلباب الآباء ولم يفلح في الخروج، وهذه علامة سيئة على مستقبل الثورة والبلد والناس تجعلنا نستنتج أن هذه الثورة لم تنتج مشروعها لأن ليس لها خيال لأن نخبها قاصرة بل وتمنع كل حركة تفكير وتقمع كل تصور مجدد من خارجها، إذ تعتبره عدوانًا على مكاسبها الثابتة من الوضع القديم.
ولعل أجمل مثال على ذلك أن عشية إسقاط الثورة لحكومة محمد الغنوشي الثانية في ربيع 2011 قام رهط من أساتذة الجامعة بحمل باقات ورد إلى بيته راجين منه عدم الاستقالة.
من سيفكر للثورة؟ وماذا سيقترح؟
هناك إجابات تتشكل من خارج النخب المفكرة (المكلفة تقليديًا بالتفكير أو التي احتكرت وهو الأصوب حق التفكير)، وقد تصل هذه الإجابات إلى فرض نفسها على النخب لكنها ستحتاج وقتًا طويلاً بالنظر إلى أنها حلول عملية لا تملك قوة الدعاية لنفسها في أوساط النخب القديمة ولا تملك الوصول إلى أجهزة الدولة لتفرض نفسها، بل تمنع من ذلك خشية من قوتها البسيطة.
الجهد الذي بذل في الصراع بين فئات المثقفين والنخب السياسية عامة عن تأصيل الهوية في الدين أو تأصيلها في حداثة لائكية كان كفيلاً بغرس تونس وردًا وريحانًا
من أمثلة هذه التصورات والأفكار والحلول الجديدة تحويل الفلاحين البسطاء (وهم ليسوا مفكرين) تراب الوطن إلى غابة زيتون يسير فيها الراكب من الشمال إلى الجنوب فلا يخرج من غابة الزيتون.
هذا الجهد الذي فرض نفسه على الدولة سمح للفرد التونسي بأن يروّج بثقة في نفسه أن بلده يملك أكبر غابة زيتون في العالم وينتج أكبر كمية زيت في العالم.
إن أفعل التفضيل هذه تشكل هوية في العالم، بل مفردة أساسية في صناعة الإنسان الجديد وقد صنعها الفلاح التونسي دون العودة إلى النخب المفكرة، بل رغم صراعات النخب بشأن الهوية الفردية والجماعية (هنا بدأ الخيال الجديد يعاني صعود ربوة التنمية بجهد ذاتي).
من وجهة نظر المثقفين التقليديين (لدولة الاستقلال) لا يعتبر الفلاح كائنًا ذا قيمة بل محتقر في أسفل السلم الاجتماعي وهو موضوع سخرية في المسرح والسينما والرواية، ولأنه حشر في موضع الدونية (طبقًا لتصور نخبوي يقدم العاملين بالفكر على العاملين بالساعد)، فإنه لم ينل من الدولة إلا القليل، (لقد مرت 30 سنة بعد الاستقلال ليتمتع الفلاح التونسي بنظام الضمان الاجتماعي القانون عدد 6 لسنة 1981 في حين يتمتع الموظف بنظام ضمان اجتماعي منذ العهد الاستعماري).
إن الجهد الذي بذل في الصراع بين فئات المثقفين والنخب السياسية عامة بشأن تأصيل الهوية في الدين أو تأصيلها في حداثة لائكية كان كفيلاً بغرس تونس وردًا وريحانًا، ولكن الفلاح التونسي لم ينخرط في هذا الصراع وبقي خارجه، فعمر الأرض وصار للزيت التونسي أفعل التفضيل الخاص به في أسواق العالم.
سيقول البعض إن الزيت ليس الثقافة وبالتالي فهذا حديث عن نجاح مادي صرف، والجواب الجدالي أن الثقافة ليست زيتًا ولا يمكنها أن تكون ذات قيمة في العالم ما لم يسندها مجتمع غني وفرد راضٍ عن وجوده المادي وقادر على توفير وقت للثقافة والتمتع بها.
مشروع الثورة هو صناعة هوية جديدة للتونسي في العالم يكون له كثير من أفعل التفضيل
لقد جر مثقفو النظام القديم وهم محافظون بالقوة وبالفعل، الإسلاميين إلى مربع التفكير الخاص بهم فصار مطلب الإسلاميين هو الاندماج في هذه النخب المحافظة ومنذ الثورة وهم يطرقون باب النخبة فلا تفتح لهم متجاهلين أنه يمكن الاندماج في النخب الأخرى ذات الأثر العملي كالفلاحين والصناعيين الصغار الذين يفكرون بشكل مختلف ولا يغلقون الباب في وجه أحد.
وقد أصاب الإسلاميين ما أصاب نخب اليسار قبلهم، إذ منعوا من التفكير حتى أخضعوا لنموذج التفكير السائد كما أرساه الزعيم، فانتهوا يتكلمون بفرح غامر أنهم جميعهم أطفال بورقيبة، وفي كل تجارب اليسار في العالم كانت هناك ثورات ثقافية على السائد انتهت بفرض بدائل تقدمية إلا في تونس (يمكن التعميم عربيًا) حيث لم يبق لليسار إلا الاشتغال عصا غليظة في إطار حرب الهويات التي ترفض الخروج إلى غرس الزيتون والنخل وبناء تونس مختلفة بفرد غني وقادر وواثق من نفسه.
خيال الثورة
مشروع الثورة هو صناعة هوية جديدة للتونسي في العالم يكون له كثير من أفعل التفضيل، فالدول مبارزة بالقوة وهنا وجب وضع مفردات جديدة للهوية وبأدوات ليست من جنس تفكير الصالونات الذي ينتهي غالبًا إلى إنتاج قواقع مهنية يعيش منها المثقف المالك للأصل التجاري للتفكير، ويخشى من الفلاح البسيط (الأمي غالبًا) أن يتجاوزه في بناء البلد.
سيحتاج هذا الخيال إلى تعبيرات ثقافية تفرضه على سوق الفكر وسيحتاج مثقفين يكسرون صورة الفلاح المنمطة على الجهل والتوحش (وسخ الجلد ووسخ الفعل)، صورة بنتها نخب حضرية لا تخرج للعاصفة ولا تواجه أنواء الطبيعة وتوجه قدرات الدولة لخدمتها وتحرم الفلاح من وجوده المواطني رغم أنه منتج الغذاء الوحيد الذي لم يسقط الدولة بعد الثورة وبقي يمول السوق بما يكفي لكي يستمر مثقفو الصالونات في التفكير المتفوق عليه.
هذه معركة خيال خلاق تصنعها الثورات وقد بدأت غير أنها تعاني الأمرّين لفرض نفسها أمام لوبيات أخرى منها لوبي المهن المرفهة (الطب والمحاماة) ولوبي المقاولات والتجار ممن تمكن من قنوات المال العام بحق ومن دونه.
سيعود البعض بي إلى القول إن الخيال شغل المثقفين وسأقول إن الخيال فعل عملي وليس شغل فكر كسول يتفلسف جالسًا تحت التكييف، وبين الفكر العملي للفلاح وكسل المفكر الشغوف بكتب كتبها آخرون في تجارب أخرى ستصنع تونس أفعل التفضيل الذي يفرضها في العالم وسيأتي رغم اليأس المسيطر الآن زمن يقول الناس في العالم كانت تونس مصدرة للإرهاب فصارت مصدرة للزيت، ومن الإرهاب إلى الزيت ستمر وتكبر هوية بلد وهوية ثورة.
من هنا يبدأ التفكير في المستقبل.