على خلاف ما تؤكده الدبلوماسية الإيرانية، ووسائل إعلام محور الممانعة، من أن السياسة الإيرانية الداخلية والخارجية لن تتأثر بحادثة مقتل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته أمير عبد اللهيان، في حادثة تحطم الطائرة يوم الاثنين 21 مايو/ أيار الجاري، إلا أن كثيرًا من المراقبين والمتابعين للشأن الإيراني يرون عكس ذلك، خصوصًا فيما يتعلق بالتعامل الإيراني مع الملف السوري.
ما يعزز هذا الرأي هو دور وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان -الوزير المحافظ والمقرّب من المرشد والحرس الثوري- في دعم النظام السوري منذ بداية الثورة السورية عام 2011، حيث مثّل إيران في العديد من المحافل الدولية والدبلوماسية التي عُقدت بشأن سوريا في العالم، فضلًا عن عمله آنذاك في الخط الدبلوماسي بين طهران ودمشق خلال السنوات الأولى من الحرب في سوريا عندما كان نائبًا لوزير الخارجية.
وفي هذا السياق، أكّد عبد اللهيان في مؤتمر صحفي في طهران عام 2014 أن طهران لن تسمح بسقوط الرئيس بشار الأسد، وحذّر من تبعات أي تدخل خارجي في سوريا تحت غطاء منطقة عازلة أو إرسال قوات برّية بهدف محاربة تنظيم الدولة، في إشارة وقتها إلى تركيا.
اهتمام عبد اللهيان بالملف السوري تجلّى واضحًا بزيارة سوريا بعد توليه وزارة الخارجية عام 2021، حيث كانت أول بلد يزوره بعد استلامه هذا المنصب خلفًا لجواد ظريف، وفي هذه الزيارة التقى بشار الأسد وأكّد على دعم طهران الثابت للنظام السوري.
سليماني الدبلوماسية
خلال مسيرته المهنية، كان عبد اللهيان معروفًا بعلاقاته الوطيدة مع الحرس الثوري، وكان قريبًا من اللواء قاسم سليماني، القائد السابق لفيلق القدس الموكل بالعمليات الخارجية في الحرس الثوري (قُتل في غارة أمريكية بالعراق عام 2021)، والذي كان له دور بارز في جلب المقاتلين من مختلف الميليشيات الشيعية للقتال إلى جانب النظام.
وبحسب تقرير نشرته مجلة “فورين بوليسي”، بعد تشكيل الحكومة الجديدة في طهران عام 2021، وصف أحد المشرّعين الإيرانيين عبد اللهيان بأنه “قاسم سليماني آخر في مجال الدبلوماسية”، وذلك استنادًا إلى ما يعرَف عنه من مواقف داعمة لما يُسمّى “محور المقاومة” في الشرق الأوسط.
ووفقًا للمجلة، فقد وصف عبد اللهيان نفسه ذات مرة بـ”جندي سليماني”، لافتًا إلى أنه في كل مرة يذهب إلى دولة ما كمبعوث دبلوماسي وتفاوضي، فإنه يتشاور أولًا مع قاسم سليماني للحصول على التوجيه اللازم، وأشار إلى أنه منذ بداية حياته المهنية عمل بشكل وثيق مع قائد فيلق القدس.
وتعقيبًا على هذه العلاقة ودورها في سوريا، يؤكد المحلل السياسي درويش خليفة أن وزارة الخارجية الإيرانية تعد في الفترة التي تولاها أمير عبد اللهيان منفّذًا ومشاركًا في رسم الاستراتيجية الإيرانية الخاصة بدول النفوذ الإيراني (العراق – سوريا – لبنان – اليمن)، والتي تسيطر عليها إيران عبر فيلق القدس وقادة الحرس الثوري من خلال دعمها لقوى موالية لها هناك.
ويوضح خليفة في حديثه لـ”نون بوست” أنه بالتوازي مع العمليات العسكرية التي كان يديرها فيلق القدس في سوريا، والتي كان يقودها سليماني، كانت الأذرع الدبلوماسية والسياسية بقيادة عبد اللهيان تقود معارك لا تقل ضراوة عن تلك المعارك الميدانية، إذ تجلى ذلك في الدفاع عنه في المحافل الإقليمية والدولية.
من ناحيتها أكدت مصادر صحفية أن عبد اللهيان لعب دورًا في تنسيق عمل ميليشيات موالية لإيران في سوريا بعد مقتل قاسم سليماني، وأضافت أن مهام وزير الخارجية ترتبط دائمًا بدبلوماسية بلده، لكن لعبد اللهيان مسارًا مختلفًا، إذ سبق وزارَ ميليشيات موالية لإيران في العراق ولبنان.
دوره في التقارب بين السعودية ونظام الأسد
خلال فترة توليه منصب وزير الخارجية، تمّ التوصل إلى اتفاق مع المملكة العربية السعودية على استئناف العلاقات الدبلوماسية وفتح السفارات في مارس/ آذار 2023 بعد 7 سنوات من التوتر بين طهران والرياض، حيث زار الوزير الإيراني العاصمة السعودية الرياض والتقى مع ولي العهد محمد بن سلمان.
وممّا ساعد الوزير عبد اللهيان على التوصل إلى هذا الاتفاق هو أنه جاء في ظرف إقليمي جديد تغيرت فيه قواعد اللعبة، فالسعوديون بدأوا يفكرون بحماية أنفسهم وقد صاروا على قناعة أن الولايات المتحدة لن تحميهم، خاصة بعد الهجوم الحوثي على منشآت أرامكو السعودية في سبتمبر/ أيلول 2019، وذلك بحسب الباحث بالشأن الإيراني عبد الرحمن الحاج.
وفي حديثه لـ”نون بوست”، يوضح الحاج أن عبد اللهيان فهم الوضع جيدًا، ونجح في استثمار الرغبة العربية في إقامة علاقات سلمية مع إيران، حيث هندس عبد اللهيان الصفقة مع السعوديين، والتي تضمّنت على ما يبدو قيادة سعودية لعودة النظام السوري (والذي يعتبرونه جزءًا من الملف الإيراني) إلى مقعد سوريا في الجامعة العربية.
من جانبها، خلصت ندوة حوارية نظمها مركز الحوار السوري منتصف أبريل/ نيسان 2023 حول تأثير التقارب السعودي الإيراني على الملف السوري، إلى أن التصور الأولي، سواء للمملكة أو لدول الخليج العربي، هو احتواء إيران وليس مواجهتها، بمعنى أن ثمة رؤية تتعلق بالانتقال من محاولة مواجهة إيران في سوريا إلى محاولة احتوائها، وهذا الاحتواء يتضمن الانفتاح أكثر على نظام الأسد، كما يتضمن التعاون والتنسيق مع إيران في الملفات التي تتعلق بأمن الحدود والميليشيات والمخدرات إضافة إلى العلاقة مع “إسرائيل”.
منع انفراد أي طرف دولي بالنظام السوري
لم يقتصر دور الدبلوماسية الإيرانية بقيادة عبد اللهيان على جهود إعادة النظام السوري إلى الحضن العربي، والذي توِّج بحضور الأسد لقمة جدة عام 2023، إذ سعت إيران إلى جانب ذلك لاستغلال علاقتها مع تركيا باتجاه تطبيع العلاقات مع النظام السوري.
وبعد مرور أشهر على تصدُّر روسيا لرعاية قطار التطبيع بين تركيا والنظام السوري، من خلال لقاء موسكو الذي ضمّ مسؤولين بارزين على رأسهم وزير الدفاع التركي خلوصي آكار، ورئيس المخابرات حقان فيدان، ونظراءهم في النظام السوري، حرصت إيران على أن تكون فاعلًا أساسيًا في هذا المسار، من خلال جولات الوزير عبد اللهيان بين دمشق وأنقرة وموسكو.
من ناحيته يوضح الباحث عبد الرحمن الحاج أن عبد اللهيان منع انفراد أي طرف بالعلاقات مع النظام من دون وجود إيران، إذ كان قلقًا -كما تُظهر رسالة مسرّبة أرسلها عبد اللهيان للرئيس رئيسي- من تفرُّد الروس والأتراك بإقامة علاقة مع النظام دون أن يشارك الإيرانيون في هندسة هذه العلاقة.
ويضيف الحاج أن عبد اللهيان سعى إلى محاصرة أي محاولة تتم لإعادة العلاقة مع نظام الأسد خارج البوابة الإيرانية، أي جعل العلاقة للنظام حصرية عبر إيران من أجل أن تحصل إيران على مكاسبها السياسية.
وفي هذا السياق، كشف عبد اللهيان في سبتمبر/ أيلول 2023 عن مقترح طرحته طهران بشأن تسوية الخلافات بين النظام السوري وتركيا، خلال الاجتماع الأخير الذي عقده مع نظرائه من أنقرة ودمشق وموسكو.
وقال أمير عبد اللهيان في مقابلة مع صحيفة “الوفاق” الإيرانية، إن المقترح يقوم على “أن تتعهّد تركيا أولًا بإخراج قواتها العسكرية من سوريا، وثانيًا أن تتعهّد بوضع قواتها على الحدود لمنع أي تعرض للأراضي التركية. وتكون كل من إيران وروسيا ضامنتَين لاتفاق الطرفَين”.
وإلى جانب ترحيب تركيا بهذا الدور على لسان المتحدث السابق باسم الرئاسة التركية، إبراهيم قالن، في حديثه لوكالة “الأناضول” في فبراير/ شباط 2023، أكّد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في مؤتمر صحفي في العاصمة الروسية موسكو، أن مشاركة إيران في الجهود التي تبذلها من أجل تحقيق تسوية بين تركيا والنظام السوري، تمهّد الطريق أمام تطبيع بين الطرفَين اللذين دخلا في عداء لأكثر من عقد، على خلفية الثورة السورية عام 2011.
تحصيل امتيازات اقتصادية لإيران
إلى جانب سعي عبد اللهيان لكسر العزلة الإقليمية والدولية المفروضة على النظام السوري، عمل في المقابل على ترسيخ الوجود الإيراني في سوريا، وسعى من أجل تحصيل المكاسب الاقتصادية واستعادة الديون الإيرانية التي تزيد بحسب الوثائق الرسمية عن 50 مليار دولار منها نحو 40 مليار دولار من الاتفاق العسكري، كما نجح أيضًا في ترتيب اتفاقات اقتصادية طويلة الأمد، وذلك بحسب الباحث عبد الرحمن الحاج.
وفي وقت سابق، كشفت ملفات مسرّبة نشرتها مجموعة الهكرز الإيرانية المعارضة “انتفاضة حتى الإطاحة”، التي نجحت في وقت سابق باختراق مواقع وقواعد البيانات الخاصة بالرئاسة الإيرانية، عن حالة يأس إيراني من قدرة النظام السوري على إعادة تسديد الديون الإيرانية المترتبة عليه، والتي قدّرتها ملفات سابقة نشرتها المجموعة ذاتها بأكثر من 50 مليار دولار.
ويشير الملف المسرّب إلى جزئية هامة للغاية، عندما يقول إن “استرداد الديون الإيرانية المترتبة على النظام السوري أمر صعب نظرًا إلى الظروف الاقتصادية السورية، وغير ممكن فعليًا في ظل الظروف الحالية”.
يذكر أخيرًا، أن عبد اللهيان نشر في عام 2020 مذكراته عن سوريا خلال عمله مساعدًا لوزير الخارجية السابق، وحملت المذكرات عنوان “صبح شام” أو “صباح الشام” بالعربية، وقال إنه بوصية من قائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني.