جاء قرار وزير الحرب الإسرائيلي يوآف غالانت، يوم 22 مايو/أيار الجاري، تنفيذ قرار إلغاء “قانون الانفصال الأحادي” أو ما يعرف بـ”فك الارتباط” في الضفة الغربية، الذي ينص على إخلاء 4 مستوطنات في الضفة الغربية المحتلة، ليزيد من الضغط الإسرائيلي على مناحي الحياة الفلسطينية.
القرار الذي جاء متزامنًا مع قرار 3 دول هي إسبانيا والنرويج وأيرلندا، الاعتراف رسميًا بدولة فلسطين، عُدّ إصرارًا إسرائيليًا على زيادة التوسع الاستيطاني في الضفة التي من المتوقع أن تشكل المساحة الأكبر من الدولة الفلسطينية المستقبلية المستقلة، إلى جانب أراضي قطاع غزة.
ويترافق القرار مع عملية عسكرية غير مسبوقة يشهدها القطاع للشهر الثامن على التوالين احتّلت فيها “إسرائيل” مساحة واسعة من محور “صلاح الدين”، وفصلت فيها الشمال عن الجنوب، وأجبرت مليوني نسمة على النزوح.
وسط كل ذلك يلوح الوزراء الإسرائيليون بالتهجير كخيار للتخلص من المقاومة الفلسطينية وبسط النفوذ على كامل المساحة المتبقية من الأراضي الفلسطينية، وهو أمر تكرر كثيرًا خلال هذه الحرب المتواصلة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
القرار جاء بعد أن صادق الكنيست الإسرائيلي في آذار/مارس الماضي، بالقراءتين الثانية والثالثة، على إلغاء قانون فك الارتباط الذي أمر بإخلاء 4 مستوطنات في شمال الضفة الغربية عام 2005 في عهد رئيس وزراء الاحتلال الأسبق أرئيل شارون.
والمستوطنات هي “سانور” و”غانيم” و”كاديم”، بينما سمح للمستوطنين بالعودة إلى “حوميش” العام الماضي بأمر حكومي، في ظل الحكومة اليمينية المتطرفة التي يترأسها بنيامين نتنياهو وتضم معه إيتمار بن غفير وبتسئليل سموتريتش.
فك الارتباط.. سياقات تاريخية
أقر الكنيست الإسرائيلي قانون فك الارتباط عام 2005، في أعقاب إعلان شارون، عزمه الانسحاب من جميع مستوطنات قطاع غزة، وإجلاء المستوطنين عن 4 مستوطنات شمالي الضفة الغربية وهي: غانيم وكاديم وحومش وسانور.
وتم تنفيذ خطة فك الارتباط أحادية الجانب في صيف العام ذاته، حيث أُجلي آلاف المستوطنين من جميع مستوطنات قطاع غزة، ومن المستوطنات الـ4 شمالي الضفة الغربية، وذلك بهدف حماية المستوطنين مما وصف بالمخاطر الأمنية في حينه.
ونص القانون حينها على أن تكون المستوطنات الـ4 مناطق عسكرية مغلقة يُحظر على المستوطنين دخولها إلا بأذن من جيش الاحتلال الإسرائيلي، قبل أن يتغير المشهد العام الماضي في أعقاب حكومة نتنياهو المتطرفة.
في عام 2023، أقرّ الكنيست تعديلًا على قانون فك الارتباط، وتم تغيير اسمه إلى قانون “تعويض ضحايا فك الارتباط” وسمح هذا التعديل للمستوطنين بدخول مستوطنة حومش والإبقاء على كنيس يهودي أُقيم فيها بعد خطة فك الارتباط.
وفي العام نفسه أمرت المحكمة العليا الإسرائيلية بشطب لوائح الاتهام المقدمة ضد المستوطنين الذين دخلوا مستوطنة حومش على أساس “عدم وجود ذنب”، ومع إلغاء غالانت للقانون لم تعد المستوطنات مناطق عسكرية مغلقة وبات بإمكان المستوطنين العودة إليها دون الحصول على أمر عسكري، والذي كان يُطلب سابقًا.
قراءة في حيثيات القرار: لا دولة فلسطينية
يشير القرار الصادر مؤخرًا إلى واقع قائم بالأساس، وهو أنه لا دولة فلسطينية على أرض الواقع ولو اعترف العالم كله بالحق الفلسطيني، وذلك لاعتبارات التوسع الاستيطاني القائم على الأرض والقرارات التي تلغي أي حق فلسطيني.
فمن ناحية عملية فإن الخطوة يمكن تفسيرها بأنها تندرج في إطار سياسي عبر الإعلان الفعلي عنها في ظل الحرب على غزة والقرارات الدولية بالاعتراف بدولة فلسطينية كما فعلت دول أوروبية، ومن ناحية منطقية فإن قرار فك الارتباط ملغى منذ مدة.
وبالتالي فإن قرار إلغاء فك الارتباط، يعني السماح للمستوطنين بالعودة للمستوطنات وإعادة بنائها، وهي مسألة محفَزَّة ومسرعة من الحكومة التي تريد فرض وقائع جديدة وامتصاص الغضب الداخلي، في ظل ما يجري في قطاع غزة، وتريد أن تجعل من الخطوات الأوروبية رمزية لا يبني عليها شيء على أرض الواقع.
علاوة على ذلك فإنها تأتي في سياقات داخلية إسرائيلية متمثلة في الصراع السياسي بين أقطاب اليمين، لا سيما وزير الحرب يوآف غالانت ووزير المالية بتسئليل سمويتريتش ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير.
حيث شهدت الفترة الأخيرة صراعًا وتلاسنًا على خلفية مواقف غالانت بشأن اليوم التالي للحرب، واتهام بن غفير وسمويتريتش له بأنه يسحب الاحتلال نحو الاعتراف العلني بالهزيمة أمام حركة حماس.
في المقابل جاء القرار من غالانت ليرد عليهم بشكل واضح بأنه أكثر تطرفًا منهم وأنه لا يريد الاستسلام، إنما يركز على ساحة الضفة باعتبارها الحلم بالنسبة للاحتلال والأكثر ارتباطًا لاعتبارات “توراتية” مزعومة.
ويبدو القرار في هذا التوقيت مرتبطًا باستعراض سياسي داخلي لرموز الحكومة الإسرائيلية، والرغبة في تقديم أنفسهم لجمهور المستوطنين بأنهم قادرين على المساس بالحقوق الفلسطينية وتدمير أي أمل بتحسن الأحوال.
ورغم أنه لا توجد إحصاءات توضح عدد المستوطنين المتوقع عودتهم إلى المستوطنات الـ4 بعد إلغاء فك الارتباط، يعيش نحو 451 ألف مستوطن في 132 مستوطنة و147 بؤرة استيطانية بالضفة الغربية المحتلة، بالإضافة إلى 230 ألف بمدينة القدس الشرقية، وفق منظمة “السلام الآن” الإسرائيلية.
وإلى جانب ذلك فمن المتوقع أن تبدأ الجماعات الاستيطانية عودتها إلى هذه البؤر، التي يرى المجتمع الدولي أنها “غير قانونية” وبنيت على أراض فلسطينية محتلة، كما من المفترض أن يقدم الاحتلال على قرارات عقابية أخرى بحق الفلسطينيين بعد اعتراف دول جديدة بدولتهم، وذلك لجعل العيش في دولة فلسطينية أمرًا صعبًا، كون الاحتلال هو المتحكم على الأرض.
سيناريوهات متوقعة
فلسطينيًا، لا يبدو الموقف الفلسطيني الرسمي الذي تتبناه السلطة الفلسطينية قد يحمل أي تغيير، رغم أن جميع القرارات الإسرائيلية الأخيرة تحمل طابعًا تصعيدًا من حكومة نتنياهو التي ترفض حتى فكرة عودتها لإدارة شؤون غزة.
حيث لم تتوقف القرارات الإسرائيلية عند حد عودة المستوطنين لهذه البؤر في شمالي الضفة الغربية المحتلة، بل ذهبت نحو حرمان السلطة من مخصصات الضرائب وهو ما يعني انهيار السلطة ماليًا ووضعها في خانة العجز.
وبالتالي فإن الخيار الوحيد للسلطة في هذه الحالة يتمثل في تخفيف حدة التنسيق الأمني مع الاحتلال والذهاب نحو تعزيز المواجهة شعبيًا والسماح بالتصادم مع الاحتلال، بالذات في نقاط الاشتباك وحدود المدن.
ولم يسبق أن قامت السلطة بأي من هذه الخطوات، على الرغم من العقوبات التي كانت الحكومات الإسرائيلية تفرضها عليها، وكانت تسير نحو التنسيق الأمني كخيار إستراتيجي، رغم تنكر الاحتلال لها.
في المقابل يبدو الموقف العربي على نفس الخط الذي يسير فيه منذ تعثر ثورات الربيع العربي، حيث يرى في الاحتلال حليفًا له يمكن التطبيع معه، كما جرى في الاتفاقيات “الإبراهيمية” والخطوات التي تتم مع السعودية حاليًّا.
ولا يبدو الموقف الرسمي العربي متمسكًا بفكرة المقاطعة أو اتخاذ إجراءات ضد الاحتلال الإسرائيلي على الرغم من حرب الإبادة ضد الفلسطينيين، وحتى التصريحات الصادرة ضد عدد من الدول على خلفية مواقفها.
وبالتالي فإن القرار الأخير تنظر له هذه الدول والأنظمة من ناحية سياسية، خشية من انهيار السلطة باعتبارها الجسم الرسمي الذي تتعامل معه، وهو ما يجعلها فقط تتحرك مع الإدارة الأمريكية خوفًا من وجود جسم آخر لا تتفق معه، في إشارة للمقاومة الفلسطينية.
على السياق العالمي، فإن الموقف الأمريكي الرسمي لا يبدو أنه قد يحمل أي جديد، بل الموقف الشعبي، لا سيما اتساع رقعة الاحتجاجات على صعيد الجامعات الأمريكية، يمثل تحولًا في السياق التاريخي للقضية الفلسطينية على المستوى الدولي.
في نفس النسق قد تشهد دول الاتحاد الأوروبي عمليات اعتراف جديدة بالدولة الفلسطينية، وهو أمر سيقابله الاحتلال بتوسع استيطاني جديد، لكنه سيعزز من عزلة الاحتلال وسيؤدي لمزيد من المقاطعة والعقوبات.
وأمام هذه السيناريوهات تبدو القضية الفلسطينية على موعد مع تحولات دولية جديدة ستعزز مكانة القضية الفلسطينية وحضورها، في مقابل زيادة مقاطعة الاحتلال الإسرائيلي وزيادة الغضب الدولي تجاه هذه المواقف.