تشكل الحواجز العسكرية التابعة لفصائل الجيش الوطني السوري، المدعوم تركيًا، المنتشرة على الطرق الواصلة بين مدن وبلدات مناطق ريفي حلب الشمالي والشرقي، عائقًا أمام التنقلات والنشاطات اليومية لسكان المنطقة والذين يضطرون إلى المرور عبر هذه الحواجز، حيث يطلب منهم إكرامية (مبلغ مالي) بشكل علني، دون مراعاة للظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة التي يواجهونها.
وتنشر تلك الفصائل حواجزها على الطرقات الرئيسية والفرعية التي يسلكها الأهالي ضمن مناطق توزع سيطرتها جغرافيًا، رغم أنها جميعًا تقع تحت مظلة الجيش الوطني السوري التابع لوزارة الدفاع في الحكومة السورية المؤقتة، التي أعلنت في منتصف أغسطس/آب العام الماضي، نقل جميع الحواجز العسكرية على الطرقات من سيطرة الفصائل إلى إدارة الشرطة العسكرية، في إطار التخلص من المرحلة الفصائلية، والتحول إلى العمل المؤسساتي.
قطاعات تحكمها الفصائل
يعود انتشار الحواجز العسكرية شمال حلب، إلى معركة “درع الفرات“، التي شنتها تركيا في 2016 إلى جانب فصائل عسكرية من الجيش الحر، بعد مخاوف أنقرة من إقامة كيان كردي على حدودها الجنوبية من قبل قوات سوريا الديمقراطية “قسد” المدعومة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وإمكانية اتصالها جغرافيًا بين عين العرب/كوباني وعفرين.
مع انتهاء عملية “درع الفرات” اقتسمت الفصائل الغنائم وبسطت سيطرتها على المعابر والمنافذ مع الحدود التركية والمعابر الداخلية التي تفصل مناطق السيطرة، كما ركزت على تعزيز وجودها ضمن القطاعات العسكرية التي كانت تعمل فيها خلال عملية “درع الفرات”، حيث أنشأت معسكرات ومقرات وحواجز أمنية على الطرقات.
وشهدت المنطقة عقب ذلك تصفية حسابات بين الفصائل، ونشطت النزاعات والاصطفافات بين الجهات العسكرية المسيطرة، وبدأت الانتهاكات والاتهامات ضد الأفراد بالانتماء إلى تنظيم “داعش” دون أدلة واضحة، مما زاد من حالة الذعر والخوف بين المدنيين، وأثرت سلبًا على الاستقرار في المنطقة وزادت من معاناة الأهالي.
وبضغط تركي على فصائل الجيش السوري الحر، ظهر للعلن أول تشكيل عسكري تحت مسمى “الجيش الوطني السوري”، إلى جانب تأسيس وزارة الدفاع التي ترأسها جواد أبو حطب، الذي كان يشغل أيضًا منصب رئاسة الحكومة حتى بداية عام 2019، قبل أن يترأسها لاحقاً اللواء سليم إدريس، الذي قدم استقالته، وتعيين العميد الطيار حسن حمادة وزيرًا جديدًا في نوفمبر/تشرين الثاني 2021.
وفي ظل الخلافات والتحزبات الفصائلية بقيت المسميات المؤسساتية شكلية، حتى معركة “غصن الزيتون” في 20 يناير/كانون الثاني 2018، التي شنتها فصائل “الجيش الوطني” بدعم تركي للسيطرة على منطقة عفرين وطرد وحدات حماية الشعب الكردية التابعة التي تعتبر أكبر مكونات “قسد”.
فتحت المعركة آفاقًا جديدة لدى الفصائل لتوسعة السيطرة جغرافيًا، لكن مع انتهاء المعركة في 20 مارس/آذار 2020، تحولت قرى وبلدات المنطقة إلى قطاعات تحكمها الفصائل، حيث نشرت حواجز ومقار عسكرية، في إطار تعزيز الأمن والاستقرار، بهدف ملاحقة فلول عناصر وحدات حماية الشعب الكردية.
لم تكن منطقة “غصن الزيتون” بعد سيطرة الفصائل عليها بأفضل حال من منطقة “درع الفرات”، حيث قُسّمت إلى قطاعات عسكرية يحكمها قادة الفصائل والكتائب التي تنوب عنهم، لتبدأ ممارسات التضييق الاقتصادي وترهيب الأهالي من خلال افتتاح مكاتب ومركزيات هدفها إلقاء الاتهامات والسيطرة على الأراضي الزراعية والمنشآت الصناعية واستثمارها، كما نُشرت حواجز عسكرية وأمنية تجبر المواطنين على تسليم أملاكهم بالقوة.
لاقت انتهاكات فصائل الجيش الوطني، استنكارًا واسعًا على الصعيدين المحلي والدولي، كون منطقة عملية “غصن الزيتون” يغلب عليها المكون الكردي، بينما واصلت الفصائل الانتهاكات ومحاولات تعزيز السيطرة الاقتصادية والعسكرية تحت اتهامات وحجج واهية تحكمها محاكم عسكرية للفصائل ومكاتب شرعية.
ورغم مبررات الفصائل لنشر الحواجز لتعزيز الأمن في مناطق شمالي حلب، التي تشهد اختراقات أمنية متواصلة من تنظيم “داعش” وميليشيا “قسد”، ونظام الأسد وحلفائه، إلا أنها كانت سببًا في الاقتتال وانتهاك حياة السكان، عبر المعاملة السيئة وفرض الإتاوات على التجار، وتحويلها إلى ممرات عبور مدفوعة.
ونتيجة الفلتان الأمني وفي محاولة لوضع حد لتجاوزات الفصائل العسكرية، أعلنت وزارة الدفاع في الحكومة السورية المؤقتة تشكيل الشرطة العسكرية في فبراير/شباط 2018، وتسلمها إدارة الحواجز، بهدف توحيدها ضمن كيان واحد يمكنه توفير الأمن وتخفيف العبء عن المواطنين.
لكن مكونات تشكيل الشرطة العسكرية، التي ضمت مجموعات موالية لفصائل محددة، أدى إلى فشلها في مراحلها الأولى، حيث كانت الفترة بين عامي 2017 حتى العام 2020 الأكثر دموية، بسبب تفجيرات ضربت الأسواق ومداخل المدن ما خلف مئات الضحايا.
لكن بعد فك ارتباط الشرطة العسكرية وإعادة هيكلتها، تمكنت من السيطرة على أجزاء من الحواجز العسكرية التابعة للفصائل.
الإكرامية
تعددت الرايات المرفوعة على الحواجز العسكرية التي تقطع أوصال منطقتي ريفا حلب الشمالي والشرقي، مما يعرقل التحركات المدنية وتجبر المارين على دفع “إكرامية”، بينما يشتكي السكان من سوء المعاملة والابتزاز المالي والتشليح العلني على هذه الحواجز التي ترسم حدود نفوذ السيطرة ضمن بقعة جغرافية يعيش معظم سكانها تحت خط الفقر.
محمد عبد الله، المقيم في مدينة مارع شمالي حلب، هو أحد الأشخاص الذين يعانون من هذه الظروف، حيث تفاجأ، خلال توجهه إلى جرابلس شمال شرقي حلب بمسافة تتجاوز 90 كيلومترًا لاستقبال قريبه اللاجئ في تركيا، بانتشار عدد كبير من الحواجز العسكرية على الطريق الرئيسي، وتنوع الجهات التابعة لها، حيث ينتمي بعضها لقوات الشرطة والأمن العام التابعة للمجالس المحلية، وحواجز رئيسية وطيارة تتبع للشرطة العسكرية، وحواجز تابعة لفصائل عسكرية.
وقال عبد الله خلال حديثه لـ”نون بوست”: إن “طريق بمسافة 60 كيلومترًا بين مدينة مارع وبلدة الغندورة، يوجد فيه 3 حواجز تابعة لقوات الشرطة والأمن العام، بينما يوجد حاجزان رئيسيان للشرطة العسكرية، وحاجزان ينتميان لفصيل عسكري”.
وأضاف: “حواجز الشرطة والأمن العام كانت ميسرة على مداخل المدن، بينما حواجز الشرطة العسكرية، لديها تدقيق أمني وتضايق المدنيين من خلال الاستفسارات، بينما حواجز الفصائل تفرض إكرامية على السيارات العابرة”، حيث طلب منه حاجزان يقعان على مفرق قريتي قنطرة وتل الحجر في الطريق إلى الغندورة دفع مبلغ مالي.
وأوضح عبد الله أنه دفع لكل حاجز منهم 100 ليرة تركية، بعدما حاولوا تعسير رحلته، وفي أثناء العودة أوقفه عنصر آخر، طلب البطاقات الشخصية، ولاحقًا أكد على الإكرامية مرة أخرى.
ورغم أن زيارة محمد كانت صدفة إلى مدينة جرابلس، فإن آلاف المدنيين يوميًا يتنقلون بين المنطقتين بهدف قضاء أعمالهم، سواءً التجارية أم الوظيفية، ويواجهون عرقلة وسوء معاملة وابتزاز علني من الحواجز، بينما تفرض بعض حواجز الشرطة والأمن العام ضرائب على السيارات لصالح المجالس المحلية.
“التشليح”
رصد “نون بوست” خلال جولة ميدانية وجود حواجز عسكرية في القرى والبلدات والمخيمات الصغيرة العشوائية قرب إعزاز على الحدود السورية – التركية، ضمن انتشار واحد يوضح الجهات العسكرية المسيطرة على المنطقة التي يشتكي فيها الأهالي من سوء معاملة العناصر.
يقول إبراهيم النجار من سكان مدينة صوران شمالي حلب، ويملك سيارة شاحنة كبيرة مخصصة لنقل البضائع، خلال حديثه لـ”نون بوست”: إن “الحواجز التابعة للفصائل العسكرية تتبع التشليح كوسيلة تمويل لعناصرها، وتعرقل النشاطات التجارية التي تعتمد على النقل اليومي”.
ويضطر النجار في بعض الأحيان إلى شراء “كروز دخان” وإبقائه في سيارته من أجل توزيعه على العناصر في الحواجز بدلًا من دفع المال، حسب كلامه، وفي حال أصرت العناصر على المال فإنه يضطر إلى الدفع.
وأوضح أن الحواجز التابعة لقوات الشرطة والأمن العام في المجالس المحلية تأخذ ضرائب بسبب المرور ضمن مناطقها الإدارية، دون مراعاة الظروف التي يمر بها الأهالي، مشيرًا إلى أن معظم الأعمال التي يقوم بها بالكاد تغطي مصاريف النقل دون ربح.
وتنتشر حواجز قوات الشرطة والأمن العام ضمن مداخل المدن الرئيسية، وتعتمد على تفتيش السيارات وتراقب الحركة المرورية، وتفرض ضرائب مرورية على المارين في حال مخالفتهم لقواعد السير، رغم عدم الالتزام بها، بينما تبدو ضرائب دخول المنطقة الأكثر ضررًا على الأهالي، لا سيما العاملين على النقل التجاري.
ولا يختلف الأمر كثيرًا في منطقة عفرين، حيث تتعدد فيها الحواجز العسكرية التابعة لفصائل مختلفة، كونها لا تزال تحت قطاعات فصائلية تنضوي تحت مظلة الجيش الوطني، ومن بينها فرقة السلطان سليمان شاه، وفرقة الحمزة، وفرقة السلطان مراد، وتجمع أحرار الشرقية، وحركة أحرار الشام – القطاع الشرقي، وفرقة المعتصم، والجبهة الشامية.
وأوضح الإعلامي عبيدة الحياني في منطقة عفرين، أن “الحواجز العسكرية التابعة للفصائل تزاحم الأهالي في قوت يومهم، وتطلب منهم إكرامية مقابل مرورهم، وفي حال كانت السيارة محملة بالخضروات فإنهم يأخذون منها ما تيسر في طريقة استفزازية”.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست” إن حاجزًا (رفض تسميته لأسباب أمنية) شمالي عفرين طلب منه مبلغًا ماليًا وصل إلى 200 ليرة تركية (ما يعادل 6 دولارات أمريكية) لكنه رفض دفع المبلغ، ودار بينهما مشادات وجدالات كلامية انتهت بالمغادرة على الفور.
وأضاف: “مصادر الدخل المتاحة لدى الأهالي ضعيفة للغاية والراتب لا يتجاوز حدود الـ2800 ليرة تركية (ما يعادل 87 دولارًا أمريكيًا) في أحسن الأحوال، وهذا المبلغ لا يكفي لدفع المال للحواجز العسكرية خلال عدة رحلات اضطرارية، ورغم ذلك فالناس تضطر لدفع المال في بعض الأحيان لأنهم يقومون بالإساءة إليهم”.
وتابع متسائلًا: “أين الشرطة العسكرية التي أعلنت أنها استلمت الحواجز العسكرية وخفضت أعدادها؟ فالحواجز لا تزال منتشرة ضمن القرى والبلدات، وكل منها يتبع لفصيل معين، وتتدخل في الشؤون الحياتية، وتفرض إتاوات على الأهالي وتشاركهم في قوت يومهم”.
قرار جزئي
تحولت حواجز الفصائل إلى مردود اقتصادي بعدما هدأت المعارك وغابت الغنائم، فضلًا عن انخفاض الدعم التركي ووصوله إلى مستويات ضعيفة مقارنةً مع حجم الدعم في أثناء العمليات العسكرية، ورغم تبريرات انتشار الحواجز لضبط الأمن، فإن المنطقة كانت تشهد اختراقات أمنية متواصلة على مدى الأعوام السابقة، كالتفجيرات التي أودت بحياة مئات الضحايا.
ويرى المحلل العسكري، النقيب عبد السلام عبد الرزاق، أن انتشار الحواجز العسكرية والأمنية شمالي حلب، في إطار أمني بحت بهدف تحقيق عوامل الاستقرار للمنطقة في ظل محاولات العبث بها من جانب الميليشيا الانفصالية (قوات سوريا الديمقراطية) والميليشيات الإيرانية ونظام الأسد، هي مبررات واقعية لكن لم تكن الحواجز بالمستوى المأمول.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “استمرار التفجيرات خلال فترة انتشار حواجز الفصائل يؤكد أن وجودها لم يكن يهدف إلى حفظ الأمن بقدر ما كانت تهتم بمحاولات التضييق على السكان، الذين باتوا يتعرضون لسوء المعاملة والابتزاز، ما حولها إلى مردود يدر الأموال للفصائل”.
وأضاف: “الرواتب المتدنية وانتشار الفساد والمحسوبيات وتسلط المفسدين وغياب الدور الفعلي للقضاء، أدى إلى انتشار ظاهرة التشليح بكثافة في مناطق سيطرة الوطني، بعدما اتبع قادة الفصائل سياسة جمع الأموال والفساد، دون قدرة القضاء ووزارة الدفاع على محاسبتهم من خلال اتخاذ الإجراءات الحاسمة”.
وأوضح أن وزارة الدفاع التابعة لـ”المؤقتة” سلمت الحواجز العسكرية التابعة للفصائل للشرطة العسكرية، لكن القرار لم يشمل جميع الحواجز وكان جزئيًا، ما أدى إلى استمرار الفساد والتشليح والانتهاكات بحق الأهالي.
ورغم الإعلان عن إيقاف دور الحواجز العسكرية التابعة لفصائل الجيش الوطني، وتسليمها للشرطة العسكرية، التي خفضتها إلى 600 نقطة تفتيش ضمن مناطق انتشارها في ريفي حلب الشمالي والشرقي، حسب بيان وزارة الدفاع في أغسطس/آب الماضي، فإن بعضها لا يزال ضمن قطاعات السيطرة الفصائلية التي رسمتها معركتي درع الفرات وغصن الزيتون.
وبحسب البيان، فإن الحواجز تسببت في وقوع اشتباكات أدت إلى وقوع إصابات بين المدنيين، مشيرًا إلى أن الوزارة تعمل على إنشاء وحدات اقتصادية مختلفة، لإيجاد مصادر مالية للفصائل والفيالق ضمن الجيش الوطني.
وتواصل “نون بوست” مع وزارة الدفاع في الحكومة السورية المؤقتة، لتوضيح مسألة استمرار الحواجز العسكرية التابعة للفصائل، وارتكابها تجاوزات بحق المدنيين في مناطق شمالي حلب، إلا أننا لم نتلق ردًا.
من جهته، اعتبر الباحث في الاقتصاد السياسي، يحيى السيد عمر، أن تحويل الحواجز إلى معابر وجعلها مصدر دخل اقتصادي لتمويل نشاطها العسكري لا يتقاطع مع مبدأ الدولة، وهو أقرب لأسلوب عمل الميليشيات، ما يقوض ثقة السوريين والمجتمع الدولي بقدرة المعارضة على بناء نواة دولة مدنية.
وأوضح خلال حديثه لـ”نون بوست” أن الحواجز والإتاوات المفروضة على النشاطات التجارية داخل مناطق سيطرة المعارضة تشكل عائقًا كبيرًا أمام التجارة الداخلية، ما ينعكس سلبًا على الأسعار، كون الرسوم تضاف إلى الأسعار ما يعني أن سكان المنطقة يدفعون الرسوم.
نهايةً، تستمر الحواجز العسكرية على اختلاف راياتها وفصائلها في عمليات التضييق الممنهج على المدنيين، رغم محاولات السلطات المحلية في الحكومة السورية المؤقتة إلى الاتجاه نحو العمل المؤسساتي بهدف وضع هيكليات إدارية تحد من الانتهاكات والتجاوزات المتواصلة بحق أبناء المنطقة والوافدين إليها، لتبقى مشكلة قائمة تنظر الحل.