مع انطلاق المظاهرات في مدن إيران المختلفة وازدياد وتيرتها بسرعة لتتحول شعاراتها من الاعتراض على الوضع الاقتصادي السيء الذي يعيشه الشعب الإيراني، إلى شعارات سياسية تطالب بإسقاط النظام واستبداله بنظام آخر، توقع كثير من المراقبين أن الموقف الدولي سيكون مختلفًا عن الموقف الذي نراه اليوم، بالأخص مواقف الدول التي عانت من سياسات النظام الإيراني المعتمدة على التدخل في شؤون الدول الأخرى، ودعم الميليشيات الإرهابية المنتشرة بأكثر من دولة عربية.
وما يهمنا هنا هو الموقف الرسمي التركي حيال تلك المظاهرات، فعلى الرغم من أن الموقف التركي كان وما زال داعمًا لشعوب المنطقة وتطلعاتها في الانعتاق من الأنظمة الديكتاتورية، فإننا تفاجأنا بموقفها من الانتفاضة الإيرانية.
كانت وجهة النظر الرسمية التركية حيال تلك المظاهرات، أنها صنيعة الولايات المتحدة و”إسرائيل” لغرض تفكيك الدول التي تقف في وجهها! وفي ذلك يقول وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو: “يوجد شخصان يدعمان ما يجري هما الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو”، وبموقفه هذا يجعل المظاهرات الإيرانية مجرد أعمال شغب تمت بتحريض من الغرب و”إسرائيل”، نافيًا عنها وطنيتها ومطالباتها بتغير النظام الذي لم يضطهد الشعب الإيراني فحسب، إنما كل شعوب المنطقة.
تعتقد الحكومة التركية أن من الواجب عليها أن تقف بموقف مساند للحكومة الإيرانية، ردًا على موقف الأخيرة المساند لها بموضوع المحاولة الانقلابية الفاشلة التي جرت في 15 من يوليو/تموز 2015
الأسباب الحقيقية للموقف التركي
المراقب للسياسية التركية يجد أن الأسباب التي جعلت تركيا تتخذ مثل هذا الموقف الغريب عن مسارها السياسي المعتاد، أكثر مما أعلنته على وسائل الإعلام، يتعلق بمخاوف تركية داخلية وخارجية، منها خوف تركيا من أن تتحول المظاهرات إلى حرب أهلية تفكك إيران، وسوف يصب ذلك في مصلحة “إسرائيل”، واحتمالية انتقال هذه العدوى للداخل التركي المشكل أيضًا من عرقيات مختلفة كما هو الحال في إيران، ولمصلحة ذات الدولة، خاصة أن تركيا تعاني من مشاكل كبيرة مع الحركة الانفصالية الكردية في جنوب وشرق البلاد.
السبب الآخر هو التجربة المريرة التي مرت بها تركيا مع الأزمة السورية التي هددت أمنها القومي، ومشكلة اللاجئين السوريين التي أصبحت مشكلة اجتماعية واقتصادية في تركيا واستغلت أحزاب المعارضة تلك المشكلة ضد حزب العدالة والتنمية الحاكم، وحدوث مشكلة مماثلة لدولة كبيرة جارة كإيران يشكل تحديًا خطيرًا على تركيا لو تدفق من هناك نازحين بأعداد كبيرة.
كما ترفض تركيا التدخل الخارجي بإيران شدة، على اعتبار أن ما يحدث شأن إيراني داخلي، ومن شأن التغاضي عن التدخل بالشأن الداخلي الإيراني، أن يكون مسوغًا لعدم التدخل بالشأن التركي مستقبلًا، لكن هذا ما لا يؤمن به النظام الإيراني، حيث إن سياسة إيران الخارجية تعتمد بالكامل على سياسة التدخل بدول الجوار وخلق مناطق النفوذ لها دون مراعاة لموضوع عدم التدخل بالشؤون الداخلية للدول الأخرى.
أما بخصوص التحالفات الإقليمية، فكما هو معلوم فإن تركيا وجدت نفسها وبغير رغبة منها ضمن تحالف يضم الروس والإيرانيين في المشكلة السورية وبالضد من الولايات المتحدة الأمريكية التي تهدد تركيا بتشكيل دويلة كردية في شمال سوريا وبمحاذاة الحدود التركية، الأمر الذي يشكل خطرًا جديًا على الأمن القومي التركي، فتجد تركيا أن أي تخلخل لهذا التحالف من خلال سقوط النظام الإيراني، سيؤثر سلبًا على جهود تركيا بالملف السوري.
في الوقت الذي لم يمض على الموقف التركي الداعم للنظام الإيراني ضد التظاهرات السلمية للشعب الإيراني سوى أقل من عشرة أيام، قامت إيران بحث النظام السوري بالهجوم على مدينة إدلب
وتعتقد الحكومة التركية أن من الواجب عليها أن تقف بموقف مساند للحكومة الإيرانية، ردًا على موقف الأخيرة المساند لها بموضوع المحاولة الانقلابية الفاشلة التي جرت في 15 من يوليو/تموز 2015، وتعتقد الحكومة التركية بأن تغير أي نظام حكم ديمقراطي يجب أن يكون من خلال العملية الانتخابية وليس من خلال الفوضى، ذلك ما عبر عنه وزير الخارجية التركي الذي ذكّر بالموقف الدولي من الانقلاب في مصر وكيف دعمت الدول الغربية الانقلاب ضد حكومة محمد مرسي المنتخبة والشرعية، وقارنه بالحكومة المنتخبة في طهران التي “يجب ألا تسقط إلا بالانتخابات”.
لكنه نسي أن أي انتخابات لا يمكنها إسقاط نظام ولي الفقيه في إيران، لأن الانتخابات هناك وببساطة تجرى ضمن منظومة ولي الفقيه، وبالتالي فإن ما يجري في إيران بعيد عن أي آلية ديمقراطية يعرفها العالم.
أما ما تقوم به وسائل الإعلام التركية من مقارنات بين ما يحدث في إيران وما حدث في تركيا سنة 2013 التي خرج فيها متظاهرون بأحداث “جيزي بارك” التي بدأت على شكل احتجاجات محدودة على قطع بضع أشجار في ميدان “تقسيم” في إسطنبول، لم تلبث لتتحول لمظاهرات واسعة تخللها الكثير من الفوضى والعنف، واتهمت أنقرة حينها بعض الدول بدعمها لإدامتها وتأجيجها، فهي بعيدة كل البعد عن الحقيقة، فالذي حدث في “جيزي بارك” كان واضحًا جدًا التدخل الغربي في إذكاء نارها، بينما المظاهرات الإيرانية خرجت لأسباب حقيقية تمثلت بمعاناة الشعب الإيراني من فقر وجوع وهم يعيشون في بلد من أغنى البلدان النفطية.
هل تقوم إيران بمثل ما تقوم تركيا؟
لو عقدنا مقارنة بين المواقف التركية والمواقف الإيرانية لوجدنا هناك تباينًا كبيرًا بين البلدين، فالأخيرة لا تتردد بدعم أي منظمة إرهابية ضد تركيا ما دامت تحقق لها مصالحها الإستراتيجية بالمنطقة، والأمثلة على ذلك واضحة وكثيرة، فالذي تقوم به إيران في سوريا ومنذ أكثر من ست سنوات، واضح بشكل كبير وبالضد من تركيا، من خلال مساندتها للنظام الديكتاتوري في دمشق ودعمه بالمليشيات الإرهابية التي جمعتها من كل حدب وصوب، وإرسال الخبراء العسكريين والمقاتلين الإيرانيين إلى سوريا، كل تلك الجهود كانت بالضد من تركيا التي دعمت ثورة السوريين ورغبتهم بالتحرر من الديكتاتورية.
وفق قاموس السياسة المتعارف به بين الدول فهو الرد بالمثل على أي تصرف تقوم به دولة ما ضد دولة أخرى، فيا ترى هل فكرت القيادة التركية أن تقوم بالمثل ضد دعم النظام الإيراني لمنظمة حزب العمال الكردستاني، وتقوم بدعم منظمة مثل منظمة مجاهدي خلق الإيرانية؟
والمثال الآخر هو دعم النظام الإيراني لمنظمة حزب العمال الإرهابية وتسهيل وجودها في العراق وتقديم الدعم العسكري لها بواسطة مليشيا الحشد الشعبي والحكومة العراقية المواليين لإيران، وإيران تعلم تمام العلم بأن تلك المنظمة الإرهابية من أشد المنظمات وأكثرها إجرامًا في تركيا.
بالمقابل لم تقم الحكومة التركية بأي عمل سواء عسكري أو سياسي ضد نظام الحكم في إيران أو استهداف مصالحها، وحاولت إقامة علاقات جيدة مع إيران، بل إنها تدفع ضريبة مساندتها لإيران في فترة خضوعها للعقوبات الاقتصادية وتحاول الإدارة الأمريكية استغلال ذلك لغرض فرض عقوبات اقتصادية عليها لخرقها تلك العقوبات.
وفي الوقت الذي لم يمض على الموقف التركي الداعم للنظام الإيراني ضد التظاهرات السلمية للشعب الإيراني سوى أقل من عشرة أيام، قامت إيران بحث النظام السوري بالهجوم على مدينة إدلب، تلك المدينة التي تقع ضمن مناطق خفض التوتر التي تم الاتفاق عليها بين الدول الثلاثة الضامنة (روسيا وإيران وتركيا)، مسببة نزوح مئات الآلاف من السوريين تجاه تركيا، وهي تعلم تمام العلم ما في هذا الموضوع من حساسية لتركيا.
وفي ذلك قال رئيس الوزراء التركي بن علي يلدرم: القصف المتزايد على مدينة إدلب، سيتسبب في موجة هجرة، ووقوع ضحايا”، فهل إيران وروسيا دول يمكن الاعتماد على المواثيق التي تعطيها؟ وهل مثل هذه الأنظمة يمكن التعامل معها على أساس الرد بالإحسان على إساءاتها؟
ما يفترض أن يكون عليه الموقف التركي
وفق قاموس السياسة المتعارف به بين الدول هو الرد بالمثل على أي تصرف تقوم به دولة ما ضد دولة أخرى، فيا ترى هل فكرت القيادة التركية أن تقوم بالمثل ضد دعم النظام الإيراني لمنظمة حزب العمال الكردستاني، وتقوم بدعم منظمة مثل منظمة مجاهدي خلق الإيرانية؟ وهل يمكن لتركيا أن تدعم القوى المناهضة للوجود الإيراني بالعراق بمثل ما تقوم إيران بدعم المليشيات الإرهابية بالعراق وحكومته الطائفية؟ وهل تستطيع تركيا القيام بالرد بالمثل على دعم إيران للأسد في سوريا؟ من خلال دعم تركيا للمعارضة المسلحة السورية بنفس المستوى؟
تلك نقاط لا بد للقيادة التركية أن تفكر بها قبل أن تقدم على دعم النظام الإيراني ضد المتظاهرين السلميين في مدن إيران المختلفة.